الكاتب: د. أحمد عبد الله نشرت على الموقع بتاريخ: 06/08/2008
منذ أن قرأت ذات مرة عن شيوع الخلط في حياتنا العامة والفكرية خاصة وأنا أتابع وأتحسر وأكتشف يوما بعد يوم أن هذا الخلط، بل وانعدام التمييز، هو من أخطر آفات عقولنا وحياتنا وتفكيرنا وتقديرنا للأمور، والتمييز هو التفريق، ولو بين المتشابهات، ويحتاج لعقل!!
والخلط هو أن تستوي عندنا الأمور المختلفة لمجرد أن بينها شبها، فالكبش الأقرن يتساوى مع الغزال لأن "كله بقرون"!! وكله عند العرب صابون!
والسد العالي على صلة بأكلة "سد الحنك" لأن في كليهما كلمة سد!! والأمور لدينا بالجملة والشبه كما تشابه البقر على بني إسرائيل!!
وفي إطار ثقافة تزعم أنها تنطلق من الإسلام رسالة التدقيق والتمحيص، وعدم القول إلا عن علم عميق، ودراسة مستقصية، ودراية واسعة، وفي إطار عالم يتعامل الآن بالفيمتوثانية، والنانو تكنولوجي، أي الوحدات متناهية الصغر في القياس والتوقيت، في هذا العالم تختلط علينا الأمور فلا نكاد نفرق بين من يفعل لنا شيئا ينفعنا، وبين من يفعل فينا شيئا يزري بنا ويضرنا!! وللمصريين في هذه مثل عامي يصعب قوله هنا أو شرحه!!
والأمثلة تفوق الحصر، فالحديث عن حتمية تجديد الدين وأموره أصيل في شرعنا وفقهنا وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل إن التجديد شرط خلود هذا الدين، ثم لما قالت أمريكا شيئا عن تجديد الخطاب الديني، وبدأت الدوائر الرسمية تكرر وتعزف نفس النغمة خلطنا بين الأصل الحتمي والمنشود، وبين الرغبة الأمريكية أو تصريحات هذا المسئول أو ذاك، وصار سهلا أن نتهم كل فكرة جديدة أو اجتهاد مبدع لا ندرك أبعاده أولا نسبر غوره أو لا نفهم شفراته أو أبجدياته بأنه مستورد وعميل ومدسوس وجزء من مخططات الصهيونية العالمية، أو الصليبية الحاقدة المتربصة!!
وينعدم عندنا التمييز بين العدو والصديق بالتالي، والغث والسمين، والحق والباطل، والمصلحة والمفسدة، وأنا أتكلم عن آفة عامة لا ينجو منها إلا من رحم ربك!! ومنها العداء المؤسس على الجهل!!!
في ظل هذا الوضع يصبح الناس مستعدين لتصديق أي شيء عن أي أحد، وبسهولة يمكن أن يتداولوا أية أفكار أو شائعات أو أخبار صحيحة أو كاذبة، ويمكن أن ينكروا أو يستحسنوا أو يستقبحوا من عند أنفسهم أو أهوائهم، أو بحسب ما يقول الإنترنت أو القناة الفضائية المفضلة لديهم، وليس استنادا إلى عقل وفكر ومنهج!!! هل هو سبب أم نتيجة لعبادة الهوى؟!
لا مصدر ولا توثيق ولا تحري للصواب أو الصدق، والمجد للنميمة إذن، وللأوهام طالما تستطيع زخرفة الزيف والإصرار على البهتان وسط جمهور مستعد لتصديق أي شيء، وجاهز مسبقا للخلط بين الصواب والخطأ، بين الوقائع والبراهين والتخاريف والأراجيف!! هنا تغيب العقول أداة التمييز، وتتضارب المشاعر!!
وهذا الفرد المتخبط هو مواطن القرن الواحد والعشرين، وهو العربي بامتياز، وهو الأساس الأمثل لحكم الاستبداد والشمولية لأن مناخ التجريح والغيبة والتشكيك في كل شيء وأحد حين يشيع يؤول الأمر للأقوى، ويصير الحكم للمتسلط المتجبر صاحب السيف والسطوة لا الفكرة والمشروع، والثروة أيضا تلعب لعبتها، وتسود أخلاقيات وقيم الجنون والقهر والشمولية!! سعار الخبل الذي يصرخ تجاه كل مبادرة، ورعب الهشاشة الذي يتنامى عقب كل حركة شاردة أو واردة، ومرارة العجز عن إدراك الاختلاف ـ أي اختلاف ـ فضلا عن إدارته، وفقدان القدرة على التفرقة والتمييز، وخطَل التسوية بين الكل.
إنها حالة مرضية أصابتنا بالجملة، وهي مأزق نعيشه عقليا وسلوكيا ليحطم حياتنا ومستقبلنا، ويلعب الإعلام دورا كبيرا في نشر هذا الوباء، فمن ناحية يتم ضخ كم هائل من المعلومات مما يحول دون توثيقها أو تمحيصها بالنسبة للفرد، وربما حتى المؤسسات والهيئات!! وأغلب هذه المعلومات لا يفيد!
كما يختلط الواقع الحقيقي بالمشاهد التي ينقلها الإعلام، وقد يختلقها من الأساس فيما يقدمه من فرجة، وبذلك تتضخم أمور مثل أخبار الفن والرياضة وصناعة الترفيه والنجوم بينما تضمر أمور أخرى أكثر أهمية وواقعية، بل وتتعلق بحياة كل إنسان في علاقاته ويومياته!!
ولذلك فإن طرح القضايا الأجدر بالنقاش بأسلوب واقعي أصبح يبدو مستغربا وفريدا، وربما مصيره التهميش والطناش في مقابل قضايا أخرى مظهرية أو أقل أهمية!!
وفي نفس السياق فإن التناول الصادق الصريح لقضية ما أمسى فعلا ضد التيار، والتناول السطحي هو السائد، وصارت أطراف الحوار مجرد أفواه ليس بالضرورة أنها تنطق عن علم أو إلمام فضلا عن التبحر فيما تخبر عنه، أو ما تفتي بشأنه!
صار الكل يتكلم ـ ولو عن غير دراية ـ والكل يتفرج، ولا أحد يتناول أو يستطيع تمييز ما يمكن فعله، وما لا يمكن، ما ينبغي أن يقال فينفع، وما ينبغي إغفاله ليسقط ويندثر!!
صناعة الحمق والحمقى صارت بضاعة رائجة، والنتيجة كتل بشرية لا تدرك حقيقة واقعها أو قضاياها، ولا تبحث لها عن حلول حقيقية بمنطق أو خارطة طريق، وإنما جموع تتفرج وتنفعل دون تمييز حقيقي بين التافه والأصيل، أو بين الخير والشر!!
هذه الحالة من التشويش تصيب أية محاولة للتجديد أو للإصلاح أو حتى للتفهيم أو قول الصدق في مقتل، لأن هذا الماء العكر هو البيئة الأمثل للحشائش الضارة، والطفيليات بأنواعها، والصدارة تكون للأعلى صوتا أو لأصحاب القدرة على اللمعان وجذب الآذان، دون قدرة على تعقل أو مراجعة، أو فرز أو تساؤل!
هذه حالة تبدو لي أخطر من الأمية الأبجدية لأنها أوسع وأخفى وتتزايد دون انتباه بل تستشري!!
فهل هذه الحالة هي سبب أم نتيجة للكسل العقلي الشائع، والاستسلام للشكوى دون المبادرة إلى تحريك الوضع إلى الأفضل؟!
لقد اقتربت من بعض هذه النقاط من قبل وأنا أتحدث عن غواية السرد، ولكنني اليوم أراها أوسع وأخطر مما تصورتها بالأمس!! أرى الاعتقاد الراسخ بأن مجرد قشور المعلومات تعطي درجة المعرفة والرأي!! وأصبحت الأمور تتشابك وتترابط في رأسي على شكل مصفوفات ومتواليات، فالاستسلام للفرجة، واستسهال التبسيط، وسرعة مضغ المعلومات تأتـي على حساب التأمل والتذوق والهضم، والرغبة في عمل أشياء كثيرة بسرعة تأتي على حساب التجويد والإتقان والاستيعاب، فهل نتدبر أم نجري وننساق؟!
الكل يريد أن يحب ويتزوج ويدرس وينجب ويعمل وينجح ويربي الأولاد بأقل مجهود، وربما بغير مجهود على الإطلاق!! والكل يلهث، ويريد أن يفهم على الواقف، هو يلهث، ويصدر أحكاما متعجلة متعسفة بالشبه، ولا يكاد يتمهل لينصت أو يقارن أو يقبل أو يرفض عن بينة أو دليل وبرهان!!
وجاهزون للحكم المستبد هكذا نحن على تلك الحال، وأرض خصبة لأشجار الزقوم الفكري حيث يربح الشياطين بأنواعهم، ويخسر أصحاب النوايا الحسنة، ومشاريع الإنقاذ لأنهم وسط أمواج متلاطمة، وجمهور يعتقد أنه يأوي إلى جبال تعصمه من الماء، بينما سفينة نوح تمضي مهجورة، ويبدو أن هذه هي طبيعة البشر تتكرر كما حصل مع "نوح" عليه السلام، حين لم يؤمن معه إلا قليل!!
إن إطلاق العقل من محبسه، وبعث الضمير، وتكوين التفكير، واعتماد منهاج آخر غير السائد في التعامل مع شئوننا فرديا وجماعيا تبدو لوازم، إن كانوا يعقلون.
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com