إغلاق
 

Bookmark and Share

جاكسون: الجسدُ المبدِع، والألم الراقص!! (2من3) ::

الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 31/08/2009


تعتعة: مايكل جاكسون، و.. باراك أوباما!! (1من2)  

لم أشاهد أو أسمع أغنية واحدة لمايكل جاكسون قبل رحيله، شاهدت أوباما يتراقص (لا يرقص) مع مذيعة تليفزيونية وهو يخطو خفيفاً رشيقاً من باب الأستوديو إلى مقعد اللقاء، وذلك بعد نجاحه، فرحتُ آنذاك برشاقته قبل أن أكتشف في القاهرة أنه يسوّق بها "كاريزمته".

أول ما سمعت عن عبقرية جاكسون كان من المرحوم الفنان أحمد مظهر أثناء صحبتي له مع شيخنا نجيب محفوظ، في طريقنا إلى بيت الصديق توفيق صالح في إحدى ليالي الحرافيش، قال لي أنه سمع وشاهد جاكسون ليلة أمس، وراح يحكي كيف أنه معجزة، قدّرت كم أنا جاهل، وخجلت أن أعلن له رأيي المسبق الرافض لهذا الجاكسون، ربما من خلال رفضي هوس الشباب به، خاصة شبابنا الذي يتقن تقليد الهوس لا معايشته.

كنت عبر سنوات –مثل غيري- أتابع الأخبار والإشاعات التي تدور حول هذه الشخصية الأسطورية سلباً وإيجاباً، من أول تغيير لونه بالمرض أو بالقصد أو بكليهما، حتى تبديل أو تعديل ملامحه، وأيضاً من أول تعاطفه مع قضايا المظلومين والأرض إلى اتهامه بالتحرش بالأطفال (فبراءته)، وكذلك من أول تحيزه للناس ضد السلطة، إلى احتمالات نرجسيته في قوقعته الأكسوجينية الخاصة، وأخيراً من أول إسلام أخيه إلى إشاعة إسلامه، كنت أتابع كل ذلك بالصدفة أو رغماً عني، لكن ذلك لم يغير موقفي الحكمي المسبق منه، كيف يحق لي ذلك وأنا لم أره، ولم أسمعه.

ثم مات جاكسون يرحمه الله، سألت صديقاً شاباً جداً، غربي المزاج (نسبياً)، يكتب الشعر بالإنجليزية، عن مشاعره إثر موت جاكسون، فقال إسأل أختي، ففهمت، ولم أعلق، طلبت منه أن يعرفني عليه لأنني أشم رائحة تشابه واختلاف مع أوباما، وأنوي الكتابة عن ذلك، فنصحني باستشارة مولانا "جوجل"، ففعلت، واخترت أغنيتين بالصدفة، "الإنسان في المرآة" و"أغنية الأرض"، ومرة أخرى خجلت من جهلي، ومن أحكامي المسبقة، ومن نفسي أكثر مما فعلت مع الصديق أحمد مظهر.

في أغنية "الإنسان في المرآة"، دع جانباً الكلمات الآن، انتبهت إلى أن جاكسون كان مغمض العينين معظم الوقت، لكنه كان يرى كل الناس كل الوقت، وحين رأيت الجمهور كتلة ملتحمة من الدموع الحقيقية والدموع الدرامية، ومن الإغماءات المستوعِبة، والإغماءات الهشة، عرفت أنه وصل إلى مستوى أعمق من الوعي الجماعي الحاضر، لم أشعر أنه يغني طالباً أياً من ذلك، وإنما كان يوصل رسالته طائراً، دائراً، حاضراً، راقصاً، مبدعاً بجسده قبل لحنه وكلماته، رأيته كتلة ألم إنساني صادق تتناغم مع لحن قدَرٍ قادم، رأيته يدعونا أن نشكل معاً نحن هذا القدر الجديد نزيح به كتلة القدرٍ الجاثم، وفهمت بعض الظاهرة: هذا المبدع لا يغني وإنما هو يمد يده داخلنا إلى عمق وعي آخر، وعي لم يستطع الاغتراب المعاصر أن يدفنه تحت أوهام الغرور والجشع، رأيته يجسد هذا الوعي الذي نكتمه داخلنا فلا نسمح له بالظهور إلا في الحلم أو الجنون، يجسده في اللحن والحركة أساساً.

كم تكلمت عن مشاركة الجسد في الإبداع والتفكير، لكنني لم أنجح أبداً في شرح هذه الفكرة، رأيت جاكسون يقدمها: قافزاً، وسط ألحانه وبها: باكياً، صائحاً، جزعاً، ثائراً، قادراً، متجاوزاً فيخترق بذلك عمق وعي كتلة مشاهديه: إلى عامة الناس. فكرة أخرى من أفكاري الغامضه شرحها جاكسون بأدائه مباشرة وهى: إن "الجسد وعيٌّ متعيّن"، رأيته حين يرقص ليس جسداً، وإنما هو وعيٌّ استطاع أن يحتوي كل الألم البشري الذي ندفنه أولاً بأول فإذا اقترب من وعينا نُلبسُه أقنعة تُشَوّهُهُ مثل ألفاظ القلق والاكتئاب والتوتر، وما شاء النفسيون والخطباء أن يسموه. هذا الألم الشريف داخلنا، داخل داخلنا، نادراً ما نسمح له بالوصول إلى وعينا الظاهر، ولو نسبياً، حتى لا نتحمل مسؤوليته، فيأتي الفن ليطلق سراحه رافضاً، حتى كلمات أغنية "الإنسان في المرآة" تذكرك أنك "أنت فاعلها "أنت، الآن"، الأغنية تقول قرب نهايتها: "ألقِ نظرة على نفسك، ثم هيا إلى التغيير".

الألم الذي تجسد في "أغنية الأرض" هو نفس الألم الإنساني الذي اشتعل في "الإنسان في المرآة" لكنه هنا غائر شائك حزين، وبرغم هدوء الإيقاع الرثاء، وحزن أنغام الصور الخلفية المصاحبة إلا أن الألم راح يتسلل مع اللحن الأساسي والأداء إلى موقعه من وعينا الأعمق، ثم يأتي دور الكلمات، فتكتمل الصورة، كما وصلت لي، مثلاً، ف مقطع "الأرض تنوح والشواطئ تبكي" ثم آاااااااااااااه، آااااااااااه.
ما علاقة كل ذلك بما زعموا أن جاكسون –شخصياً- فعله بجسده؟ بوجهه؟ بلونه؟ بحياته؟ بدينه؟.
وما علاقة كل هذا بصورة دوريان جراي؟.
وماعلاقة كل هذا وذاك بباراك أوباما.
هذا حديث آخر.

اقرأ أيضا:
تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!! / تعتعة نفسية: كيف تعمل العقاقير النفسية (2) / الحق في الفرحة وسط المصائب، والأحزان!! / الزمن والتاريخ، ومعنى ما هو: أوباما / غزة، والبشرُ خلايا المخ العالمي الجديد!! / دعوة إلى: الوعي بما تملك (2/أ) / الحذاء الطائر، والبصقة العالمية، ومسؤولية الفرحة / نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية / متواطئــون!!! / قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان  / أتعلم من بني كيف أنهزم بشرف وشجاعة؟ / "دورية" محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزةلكنّ دَسَّ السم في نبض الكلامْ: قتلٌ جبانْ  / تعتعة سياسية: هل أنت مثقف؟ / النظام العالَمي القَـبَـلي الجديدْ: آلهةٌ وأنعام!! / الوصايا العشر، لحكّام العصر، في بر مصر / تعتعة... الآخرون / تعتعة: لؤلؤة غامضة وسط كومة قش مشبوهة!! / تعتعة: معنى آخر لـ: "حسن نصر الله"!! / تعتعة: الوطن: وعيٌّ يتشكل!! إياكم أن يتخثَّرَ / تعتعة: تحديث أرجوزة: عن المفاوضات وخطة الطريق / تعتعة:‏ ‏هل ماتت الدهشة فينا من فرط الاستقرار؟ / تعتعة: أغنية إلى الله: حزنٌ جليلٌ، وشعبٌ جميلْ!!

نشرت في الدستور بتاريخ 8-7-2009



الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 31/08/2009