إغلاق
 

Bookmark and Share

مِصرُ الجالسة على دكّة الاحتياطي!! ::

الكاتب: علاء الأسواني
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/09/2009


في الثمانينيات حصلت على درجة الماجستير في طب الأسنان من جامعة إلينوي بالولايات المتحدة.. وكان نظام الجامعة يلزم طالب الدراسات العليا بدراسة مجموعة من المواد، وبعد ذلك يعد البحث ليحصل على الدرجة العلمية. وفي أحوال استثنائية كانت الجامعة تمنح بعض الطلاب المتفوقين الحق في إعداد البحث ودراسة المواد في نفس الوقت.. وفي تاريخ قسم الهيستولوجي (علم الأنسجة)، حيث كنت أدرس استطاع طالبان فقط، في مرتين متفرقتين، أن يحصلا على درجة الماجستير خلال عام واحد، كان إنجاز هذين الطالبين محل تقدير الأمريكيين جميعا. هذان الطالبان كانا مصريين والمشرف عليهما أيضا مصري هو الدكتور عبد المنعم زكي.. ثم عدت إلى مصر وعملت طبيب أسنان في أماكن عديدة، من بينها شركة أسمنت طره، حيث اكتشفت بالصدفة أن معمل الأسمنت في هذه الشركة قد لعب دورا مهما في تاريخ مصر.. فأثناء الإعداد لحرب 73 عكف الكيميائيون بالشركة، فخري الدالي ونبيل غبريال وآخرون، على تطوير نوع خاص من الأسمنت بالاشتراك مع سلاح المهندسين بالجيش.. وتوصلوا بعد أبحاث مضنية إلى تصنيع أسمنت جديد يتمتع بصلابة مضاعفة ومقاومة استثنائية لدرجات الحرارة العالية، وقد استعملت الضفادع البشرية المصرية هذا الأسمنت أثناء العبور لسد الفتحات في خط بارليف.. فلما فتح الإسرائيليون مواسير النابالم، التي كانت كفيلة بإحالة مياه القناة إلى جهنم، أصابهم الذهول من قدرة الأسمنت المصري المعالج على مقاومة النابالم الحارق وإيقافه تماما حتى تحت الضغط العالي..

ثم قرأت بعد ذلك حكاية أخرى. فقد كان خط بارليف أحد أهم الموانع العسكرية في التاريخ وكانت التقديرات أنه يحتاج إلى قنبلة نووية لهدمه، لكن مهندسا مصريا نابغا هو اللواء باقي زكي من سلاح المهندسين درس تركيب خط بارليف بعناية فوجده ترابي التكوين وتوصل إلى فكرة عظيمة على بساطتها، فقد اخترع مدفعا مائيا وظل يزيد من قوة دفعه للمياه حتى تكونت له قدرة اختراق شديدة.. وأثناء العبور استعمل الجنود المصريون مضخات المياه التي اخترعها باقي زكي فامتلأ خط بارليف بالثقوب ثم تهاوى، وكأنه قطعة من الجبن..

الحديث عن نبوغ المصريين يطول.. هل تعلمون عدد العقول المهاجرة المصرية في أوروبا وأمريكا واستراليا؟
إنه 824 ألف مصري!! أي ما يساوي عدد السكان في بعض البلاد العربية!!.. كلّ هؤلاء المصريُّون مؤهلون علميّاً على أعلى مستوى، ومن بينهم ثلاثة آلاف عالم متخصص في علوم بالغة الأهمية، مثل الهندسة النووية والجينات والذكاء الصناعي، وكلهم يتمنون أي فرصة لخدمة بلادهم.. وفي دول الخليج يتجلى النبوغ المصري بأوضح صوره.. فهذه الدول التي يمنحها النفط كلّ صباح ملايين الدولارات، استطاعت أن تنشئ مدنا حديثة مرفهة وشركات اقتصادية عملاقة، لكنها لم تنجح في أن تخرج أحمد زويل ولا مجدي يعقوب ولا نجيب محفوظ ولا عبد الوهاب ولا أم كلثوم ولا اسماً واحدا يضاهي آلاف النوابغ المصريين.. لأنّ نبوغ الشعوب لا علاقة له بالثراء، ولكنه تجربة حضاريّة يتمّ توارثها عبر أجيال طويلة.. هذا التراكم الحضاري متوافر في مصر أكثر من أي بلد عربي آخر.

بل إن الدول العربية النفطية مدينة للمصريين في كلّ ما أنجزته.. فالذي علمهم في المدرسة وفي الجامعة أستاذ مصري، والذين خططوا مدنهم وأشرف على إنشائها مهندسون مصريون والذين أنشأوا لهم التليفزيون والإذاعة إعلاميون مصريون، والذين وضعوا دساتير هذه الدول وقوانينها فقهاء قانون مصريون، حتى النشيد الوطني لهذه البلاد ستجده غالبا من تأليف وتلحين فنانين مصريين.

النبوغ المصري حقيقة لا يمكن إنكارها
والسؤال الذي يتبادر للذهن:
إذا كانت مصر تملك كل هذا النبوغ الإنساني فلماذا تقهقرت حتى أصبحت في مؤخرة الدول
ولماذا يعيش معظم المصريين في الحضيض؟
السبب هو كلمة واحدة: الاستبداد..

سوف تظل مواهب مصر مهدرة وإمكاناتها مضيعة ما دام النظام السياسي استبدادياً وظالماً.. المناصب في مصر تمنح دائما لأتباع النظام بغضّ النظر عن كفاءتهم أو علمهم.. أصحاب المناصب في مصر لا يهتمّون بالأداء بقدر اهتمامهم بصورتهم عند الحاكم لأنه الوحيد الذي يستطيع إقالتهم.. ولأنهم غالبا عاطلون عن المواهب فهم يعادون أصحاب الكفاءة لأنهم خطر عليهم وعلى مناصبهم. ماكينة النظام المصري تستبعد -بانتظام!- الأكْفاء وأصحاب المواهب وتفتح الباب الطبالين والزمّارين.. ولعلنا البلد الوحيد في العالم الذي يخرج فيه وزير فاشل من مجال الإسكان، فيتولى المسئولية في قطاع البترول الذي لا يعرف عنه شيئا (لمجرد أن الرئيس مبارك يُحبّه).. والبلد الوحيد الذي يعين فيه شخص رئيساً للوزراء، وهو لم يحضر اجتماعاً سياسياً في حياته!!.. الشعب المصري لم يُختبر.. أو هو اختبر في أوقات قليلة جدا، مثل حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وبناء السد العالي..
في كل مرة اختبر فيها المصريون اجتازوا الاختبار بتفوق، لكنهم عادوا بعد ذلك إلى دكّة الاحتياطي!!!!

نحن ــ المصريين ــ أشبه بمجموعة من لاعبي الكرة الموهوبين، لكن المدرب لا يحبنا ولا يحترمنا ولا يريد إعطاءنا الفرصة أبداً!! وهو يستعمل في الفريق لاعبين فاشلين وفاسدين يُؤدّون دائماً إلى هزيمة الفريق.. في قوانين الكرة من حقّ اللاعب إذا جلس على دكّة الاحتياطي موسماً كاملاً أن يفسخ العقد.. ومصر كلها جالسة على دكّة الاحتياطي منذ ثلاثين عاماً، تتفرج على هزائمها ومصائبها ولا تستطيع حتى أن تعترض... أليس من حق مصر بل من واجبها أن تفسخ العقد؟

خلال زيارتي الأخيرة إلى نيويورك.. رأيت كالعادة مصريين كثيرين من خريجي الجامعات يعملون خدماً في المطاعم وعمالاً في محطات البنزين، وذات ليلة كنت أتنزه في شارع 42 الشهير فوجدت شخصاً واقفاً أمام عربة يبيع فيها سندوتشات السجق، كانت ملامحه مصريّة فاقتربت منه وتعرفت إليه، فوجئت بأنه خريج طبّ عين شمس!! دعاني إلى كوب شاي بالنعناع فجلست في الشارع بجواره، وجاء زبون فقام ليصنع له السندوتشات، وفكرت أنني أرى نموذجاً حيّاً لما يفعله نظام الحكم بالمصريين.. هذا الشاب اجتهد بشرف حتى حصل على مجموع الطبّ وتخرج طبيباً، وهو الآن يصنع سندوتشات السجقّ للمارة!!
وكأنما أحس هو بأفكاري فجلس بجواري وأشعل سيجارة وقال:
ــ عارف.. ساعات أحس إن حياتي ضاعت.. أخاف أقعد طول عمري أعمل سندوتشات في الشارع.. لكن أرجع وأقول أنا هنا بيّاع سجق لكني مُواطن مُحترم.. إنما في مصر أنا دكتور صحيح بس ما ليش حقوق ولا احترام!!

حكى لي كيف كافح أبوه الموظف في الأوقاف حتى علمهم هو وأختيه، وكيف اكتشف بعد تخرجه نظرية اللاءات الثلاث، كما سماها ساخرا:
- لا عمل
- لا زواج
- لا مستقبل
كيف اكتشف أنّ العمل في الخليج مُهين وغير مضمون، والتسجيل للدراسات العليا يحتاج إلى تكاليف لا يملكها.. حكى لي كيف طلب من البنت الوحيدة التي أحبّها أن تنساه لأنه لا يستطيع أن يتزوجها ولا أن يجعلها تنتظره..

ساد الصمت بيننا.. فقال محاولا المرح:
ــ تحب تسمع محمد منير.؟.. عندي كل شرايطه

أخرج جهاز كاسيت صغيراً من داخل العربة وأضاف صوت منير الخلفية إلى المشهد البائس.. فالبرد يشتدّ والمدفئة الصغيرة بجوار العربة غير كافية، أحكمنا إغلاق معاطفنا ورحنا ننفخ في أيدينا بلا فائدة.. انقطع الزبائن والشارع شبه خالٍ، لكنه مُجبر على السهر للصّباح كما اشترط عليه صاحب العربة.. ظللت معه طويلاً نتكلم ونضحك.. ثم استأذنت للانصراف فإذا به يحتضنني بقوة.. لم يتكلم.. لم نكن بحاجة للكلام.. كنت أحس به تماما.. ابتعدت بضع خطوات في اتجاه الميدان ولم ألتفت خلفي..
لكنه نادى بصوت عالٍ:
ــ باقولك إيه..؟
التفت فوجدته يبتسم.. وقال
ــ سلم على مصر عشان.. وحشتني قوي
الديمقراطية هي الحل

اقرأ أيضاً:
للمصريين: إذا كان ثمة أمل!!
مصر عيانة
(صور-6) مصر المغتصبة..هل لها من رجال؟
على اسم مصر...يقدر الأمن يفعل ما شاء!
مصر مريضة: محتاجة كونسلتو



الكاتب: علاء الأسواني
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/09/2009