إغلاق
 

Bookmark and Share

خطايا ثقافية 2-2 ::

الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/10/2009


خطايا ثقافية (1-2)

خلصنا في المقال السابق إلى نتيجة هامة تتلخص في أن: (الخطايا) تصبح (ثقافيةً) حين تلتصق بالثقافة أو ُتلصق بها أو تنبع منها أو تسوّق من خلال مفرداتها أو تمرّر عبر وظائفها، والمسئولية مشتركة بيننا وبين ثقافتنا في صناعة الخطايا الثقافية وتجذيرها والتسويق لها ولكن الثقافة برمتها هي صنيعتنا، ويفترض أن تكون إلى حد ما تحت سيطرتنا، من هنا تتضاءل مسئولية الثقافة باعتبارها متغيراً تابعاً وتتضخم مسئوليتنا باعتبارها متغيراً مستقلاً، ومن المؤكد أنه لن يتضح المعنى الذي طرحناه ل (خطايا ثقافية) إلا من خلال التطبيق العملي بالإتيان على جملة من (خطايانا الثقافية) في مجتمعنا العربي. ولعلي أناقش ست خطايا ثقافية كبار، وذلك بشكل مكثف:

1- ضعف تبصر الثقافة بنفسها
ثقافتنا العربية المعاصرة لا تتبصر بنفسها، ولا تتحسس أطرافها وعوامل نموها وضمورها، بل إنها لا تدرك في أحايين كثيرة أدوارها المحورية ولا تتبع وظائفها الرئيسية والثانوية؛ وكل ذلك من جراء عدم توافرها على أدوات منهجية فعالة للتشخيص، كما أنها عجزت عن تحديد الأمراض الكبرى التي تفتك بها وتضعف من ثم فعاليتها في تحقيق الأهداف العليا للمجتمع، ويترتب على ذلك إشكاليات خطيرة، منها: هزال التشخيص - انعدام التراكمية - الاتكالية في علاج المشكل الثقافي - عدم التجدد في وظائف الثقافة وأدوارها- الترهل الثقافي.

2- تجاهل الحتميات المطلقة:
ثقافتنا العربية تتجاهل بل تنسف أحياناً بعض الحتميات المطلقة، ولعل من أبرز تلك الحتميات (حتمية التحيز)، فنحن نميل إلى تجاهل أو عدم الاعتراف بوجود التحيز، وربما حاولت الثقافة من خلال بعض المثقفين والباحثين تمرير مقولات من شأنها إعطاب آلة التحيز كمقولة (الموضوعية) ونحوها. ويدخل في ذلك مسائل يسميها البعض ب(الأدلجة!)؛ فنحن في كثير من الأحيان نخفق أو نجبن عن الكشف عن الأطر المنهجية والفكرية (الأيديولوجية) التي نؤمن بها أو نتبناها، وأذكر أنني طالبت أحد الروائيين السعوديين بالكشف عن بعض (مصادر التحيز المحتملة) في أعماله الروائية بطريقة ملائمة؛ ليكون ذلك معيناً للقارئ على التحليل والفهم، فرد بصرامة: (يجب ألا يكون لدينا تحيزات... يجب أن نكون موضوعيين)... في إجابة تشي بأن ذلك الروائي لم يقرأ شيئاً يذكر عن (الموضوعية) من منطلق فلسفي!!

3-
ضمور التفكير الاستبصاري:
التفكير الاستبصاري هو: لون من التفكير يمتلك (قرون استشعار) ويتعامل بحساسية كبيرة تجاه القضايا محل التفكير من خلال معالجة أبعاد (المعادلة الحرجة)؛ فهو يتلمس بحواس مرهفة وملاحظات تراكمية كافة الأبعاد الحرجة عبر عمليات ذهنية تحليلية راقية ذات طبيعة فلسفية، ومثل ذلك الضمور يجمد قدرة المجتمع على تحديد الأبعاد الحرجة في التشخيص الثقافي والحضاري والهندسة الاجتماعية مما يورطه في تحديد كم هائل من (المشاكل الجزئية)، التي يمكن إرجاعها إلى (قضايا إشكالية كبرى) أو (أمراض اجتماعية خطيرة)، إن نحن أفلحنا في حلها فسوف يمهد ذلك لنا سبيلاً لحل كثير من المشاكل الجزئية والأمراض الصغيرة؛ فعلى سبيل المثال، نحن نكاد لا نقر بوجود إشكالية (التزكية الفجة لذواتنا) أو (إشكالية نقص المصداقية) في مجتمعاتنا العربية وفشو مرض (الكذب)، ومن صوره (النفاق الاجتماعي) الذي يكلفنا الكثير؛ ففي المجتمع السعودي مثلاً نتكلف قرابة المليار ريال سنوياً وذلك في بعض الجوانب من نفاقنا الاجتماعي؛ أي ننفق عشرة مليارات ريال خلال عقد واحد.. خسائر كبرى ننجح في حصدها بجدارة بسبب تغييب التفكير الاستبصاري.

4-
الأمية المنهجية:
ثقافتنا العربية المعاصرة أخفقت في إزاحة (الأمية المنهجية) من رؤوس الأكثرية؛ فعصف بأدمغتنا التفكير (العشوائي) و(الخرافي) و(الرغبوي)، وجفانا التفكير العلمي والنقدي والإبداعي، والموجع أن الأمية المنهجية لم تكتف ب(عوام الناس) بل دهمت كثيراً من (الخاصة) من طبقة المثقفين والكتّاب، ومن يشكك فعليه حضور اجتماع لبعض المثقفين أو الكتاب في مجتمعاتنا العربية ليرصد كيفية إدارتهم للحوار ومعالجة المسائل وتقييم البدائل وإنضاج الأفكار... في المقابل يمكننا المقارنة -على سبيل المثال- بحوار يدور بين بعض العمال في إحدى الورش في إنجلترا... كارثة حقاً!... وما هو أكثر كارثية عدم اعترافنا بذلك النوع من الأمية المنهجية، وتلك خطيئة ثقافية كبرى!!

5- عدم الكشف عن الحقائق بالأقدمية والتسامح معها:
ثقافتنا لم تطور أدوات فعالة للقبض على الخرافات والأغاليط التي تصبح حقائق أو شبه حقائق بمجرد تقادمها، وتلك أسميها (حقائق بالأقدمية)، فنحن لا نبادر بكشفها وتعريتها، فضلاً عن تصنيع أدوية علاج أو أنصال وقاية، إلا بعد أن يستفحل تأثيرها ويصل إلى (المناطق الحساسة)، إن سياسياً أو دينياً، وتلك لعمري خطيئة ثقافية كبرى!

6-
اغتيال الإبداعية:
ثقافتنا العربية بارعة في اغتيال كل ما يؤول بنا إلى اكتشاف مسارات الإبداع وأسراره؛ فالثقافة تولد مكبلات كافية لتقييد حركتنا، والنمط التقليدي والتفكير الاجتراري في مجال الأفكار هو سيد الموقف، بل في مجال الفلسفة أيضاً والتي يفترض أن تكون من أكبر محرضات الإبداع، ولقد بدا لي ذلك واضحاً حين طرحت مسألة (السلفية الفلسفية)، وسيكون لي وقفات عدة حول تلك المسألة.

وأعاود التأكيد أن (الخطايا الثقافية بالمعاني السابقة حتمية في وجودها في كل مجتمع إنساني، أياً كان، غير أن الثقافة النشطة يمكن أن تخلِّص المجتمع من أكبر قدر ممكن منها!)، فهل نفلح في جعل ثقافتنا العربية المعاصرة ضمن الثقافات النشطة؟

اقرأ أيضاً:
البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (10)  
(حذاء) يفضح (العقل العربي)!  
مدننا وتنشيط ذاكرتنا الجمعية!



الكاتب: د. عبد الله البريدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/10/2009