رمضان دروس وعِبَر ::
الكاتب: مجنونة 74
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/11/2004
آآآآآه أيها الحبيب, أما ترحم لوعة محبيك؟؟ وا لهف نفسي على فراقك.. وا شوق قلبي إلى لقياك.. تُرى.. هل سيمد الله في عمري لألقاك ثانية حين تزورني العام المقبل؟؟ كل عام يرحل رمضان ويترك في نفوسنا حسرات لفراقه, حتى إننا لنقول: ليت الشهور كلها رمضان.. وليت حياتنا كلها رمضان..
لماذا؟؟ لماذا نحبه كل هذا الحب؟؟ ويا سبحان الله, مع أن رمضان يبدو لنا في أيامه الأولى"ضيفاً ثقيل الدم", ولكن, ما إن تطول عشرتنا له حتى نرى كل الحلاوة في"ثقل دمّه" .. منذ بضعة أعوام, دخل رمضان يوم الجمعة, وبدأت دوامي في الكلية يوم الأحد, أي:3 رمضان, يومها كنت أشعر بثقل شديد في أداء العبادة, وتبادلت الحديث مع الصديقات, وإذا بي أقول لهن: كل هذا ولسّه اليوم3 رمضان فقط, فقالت إحداهن بألم: بل لقد مضى3 أيام من رمضان, فتعجبت من موقفها المناقض تماما لموقفي, وتبسمت حسرة على أيامي الخوالي: أيام كنت مثلها, فقلت لها: ما شاء الله, يا ليتني كنت مثلك.. وإذا بالبر الرحيم يحقق لي أمنيتي, ويتحول ذلك الرمضان إلى أحلى رمضان مرّ علي في حياتي كلها: منذ 17 رمضانا!!
ومن شدة حلاوة العبادة في ذلك الرمضان, ومن روعة الخشوع بين يدي الله عز وجل, استمرت الشهور التي تلته كلها رمضان: شوال, وذو القعدة, وذو الحجة, ومحرم.. ثم بدأت الأمور تتفلّت شيئا فشيئا إلى أن مرّ رمضانان وراءه وكأنهما ليسا برمضان, وعادت حليمة إلى عادتها القديمة..
وجاء هذا الرمضان, وأخذت أمرر شريط "رمضاناتي" السابقة أمام عيني أحاول أن أتلمّس السبب في كل ما يحصل, ومنذ أن دخل شعبان, وأنا مشفقة من أن يتحول هذا الرمضان إلى خانة الرمضانات" ثقيلة الدم", فاغتممت كثيرا, خصوصا أنني ذقت الكثير من معاني رمضان ومن حلاوة رمضان منذ بضعة أعوام, فأسعفني تذكري دعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه: اللهمّ سلّمنا لرمضان, وسلّم رمضان لنا, فأخذت أدعو به..
واقترب رمضان كثيرا حيث انتصف شعبان, وكانت لا تزال علي3 أيام لم أقضها من رمضان الفائت, وبدأت بقضائها بعد20 شعبان, وأخذت أدعو وأنا صائمة: اللهم سلّمنا لرمضان, وسلّم رمضان لنا, فعلا كنت خائفة من أن يكون رمضاناً كأكثرية رمضانات حياتي, فقلت لنفسي: طيب, لمَ لا أعيش منذ الآن أجواء رمضان, ربما ساعدني ذلك في ترقيق قلبي وتهيئة نفسي لدخول الشهر الكريم والفوز بثماره, خصوصا أنني أصوم بعض الأيام الآن, وفعلا نفّذت هذه الفكرة, فأخذت أعاود مشاهدة حلقات برنامج عمرو خالد في ليالي رمضان 2001 .. شاهدت حلقة الجنة, وشاهدت حلقة الموت, وشاهدت حلقة التوبة, وشاهدت حلقة التذلل بين يدي الله.. فعلا لقد أثمرت هذه الحلقات, وبدأ قلبي يرق في العبادة, وبدأت نفسي الجبارة تنكسر لخالقها جل وعلا, ليس هذا فقط, بل لقد بدأت ختمة قرآن جديدة, حتى أنه ما إن دخل رمضان إلا وقد أنهيت سورة البقرة ..
أجواء رمضانية فعلا.. ولكن, هل تحرك قلبي بالشكل الذي كنت أتوق إليه؟؟ للأسف: لا.. أنّى لقسوة سنوات, وجفوة سنوات.. وغفلة سنوات أن تمحوها بضع أيام من الصيام, وبضع كلمات لعمرو خالد, وبضع آيات!!! ولكن, الحمد لله أن قلبي تحرّك قليلا, مما يبشر بحركة أكبر في رمضان.. ودخل رمضان.. كنت لا أزال أشعر بثقل العبادة..
وقبل رمضان بيومين, كانت حلقة عمرو خالد من صناع الحياة عن رمضان, وعن كيف نتهيأ لرمضان, وعن الخطة التي يجب أن نعدّها له...
فخططت لرمضان كما يلي: لن أقصّر في التراويح ولا ليوم واحد, ما دمت قادرة على الذهاب للمسجد, وأقصد بقادرة: أي لست معذورة عذرا شرعيا, فهذا أمر مهم, لأننا لو تُركنا لتقديرنا الشخصي لقدرتنا على الذهاب للمسجد لما وجدنا أنفسنا قادرين على التراويح أكثر من يومين أو ثلاثة في رمضان كله!!
0وأما بالنسبة للقرآن فقد قررت أن أختم ختمتين.. في البداية شككت في مقدرتي على إنجازهما, فانا أعمل, والعمل يأخذ من وقتي ومن طاقتي الكثير.. ولكن, سأضع هذا الهدف وإن شاء الله سأحققه, وربنا سيعينني.. ،وأما بالنسبة للدعاء فقد كتبت دعواتي التي سألحّ بها في رمضان, فكانت 9 دعوات!!
0وأما بالنسبة للصدقة, فقد حددت لنفسي مبلغا من المال أتصدق به يوميا, وبما أنني لم أكن قد تسلّمت أي مرتب حتى ذلك الوقت فقد أجلت الصدقة إلى حين أتسلّم مرتبي, والحمد لله أنني تسلمته قبل أن تدخل العشر الأواخر, فتصدقت بالمبلغ المقرر دفعة واحدة..
وبدأت في تنفيذ هذه الخطة منذ ليلة رمضان الأولى, أي منذ يوم الخميس ليلة الجمعة: ليلة1 رمضان.. فذهبت للتراويح, مع أنني كنت متعبة جدا, يومها كان دوامي في العمل طويلا, ست حصص دراسية وأنا مثل النحلة العاملة: لا أهدأ, ولا أدع أحدا من طلابي يهدأ !
ومع ذلك, صممت على الذهاب للمسجد, ولكنني لم أستطع أن أصلي أكثر من ثماني ركعات, فنحن في بلادنا نصلي التراويح عشرين ركعة.. فقلت لا بأس, المهم أنني قمت هذه الليلة وفي جماعة..
عدت إلى البيت بعد التراويح منهكة جدا وأنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي أضع فيها رأسي على وسادتي, والحمد لله.. ما إن وضعت رأسي على الوسادة وقرأت الفاتحة والمعوذتين وسورة الإخلاص حتى رحت في"سابع نومة" ... لا أدري.. ربما يومها ومن شدة تعبي دخلت مباشرة في النومة التاسعة والعشرين!! وتوالت الأيام, وأنا أجاهد نفسي جهادا قويا لأداء التراويح, وللصيام, ولقراءة القرآن..
والحمد لله أن هيأ لنا أخانا في الله عمرو خالد بدروسه اليومية الشيقة في رمضان, ليشحذ هممنا ويقوينا على أداء العبادة.. صحيح أن رمضان بنكهة "عمرو خالد" هو رمضان مختلف تماما, ورائع جدا, ولكن الأساس هو أن نكون نحن متهيئين له وعندها سنكون متفاعلين معه, فها هو رمضان في العام الماضي, كانت فيه دروس لعمرو خالد, ولكنها لم تثمر معي شيئا, لماذا؟؟
لأنني أنا التي لم أخطو الخطوة الأولى فلم آخذ بزمام المبادرة والمسارعة إلى الجنة.. مع أن الله تعالى نبّهنا إلى هذه الحقيقة حين قال:[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (آل عمران:133) ..
أيهما يكون أولا: فتح الباب أم طرقه؟؟ الجواب بديهي جدا, ومع ذلك كثيرا ما تغفل مداركنا عنه!! "عمرو خالد" بدروسه وكلماته وأسلوبه وقصصه يقف عاجزاً أمام من لا يخطو الخطوة الأولى!! بدأتُ هذا الرمضان بداية جديدة, ووضعت الخطة, وعاهدت نفسي أن لا أتقاعس عنها مهما كان السبب.. وما أكثر المغريات بالتكاسل والتقاعس .."اليوم تعبتُ كثيرا في المدرسة, الحر شديد, أحس أن لساني يتدلّى من فمي من شدة العطش, فلأصلّ في البيت.. يعني التراويح سنة, ومش حيحصل حاجة لمّا اصلي يوم واحد فقط في البيت" !!
ولكن رحمة ربي تداركتني فتذكرت عهدي, وتذكرت طبيعتي وكيف كنت في ماضيات أيامي أتفلّت من ما أعزم عليه خطوة خطوة, فلم أستجب لطلب نفسي, وذهبت للمسجد, صحيح أنني صليت نصف التراويح وأنا جالسة, ولكنني انتصرت على نفسي في النهاية وذهبت للمسجد..
وصحيح أنه لن تحصل مشكلة كبيرة على صعيد الثواب وقيام ليلة من ليالي رمضان حين أقومها في البيت, ولكنه ستحصل مشكلة ضخمة جدا على صعيد عزيمتي وعهدي مع ربي, مشكلة لن أستطيع التصدّي لتداعياتها في باقي أيام رمضان..
الآن وبعد أن انقضى رمضان.. أشعر بالسعادة الغامرة وبالثقة في نفسي وفي قدراتي, لأنني وقفت أمام شهواتي وانتصرت على ضعفي وتقاعسي.. بل وأشعر بالثقة في ربي الذي لولا توفيقه لي وتثبيته لما استطعت أن أصمد حتى النهاية..
بل إنه وفي يوم الثامن عشر من رمضان اجتمعت أخواتي وأزواجهن وأولادهن عندنا على طعام الإفطار, بل لقد جاءت أختي المتزوجة في مدينة أخرى, العمل يومها كان كثيرا جدا, وكم كانت الضغوط عليّ كبيرة لأبقى في البيت ولا أذهب للمسجد, ولكنني في النهاية انتصرت –بفضل تثبيت الله لي– وذهبت إلى المسجد, ليس أنا فقط, بل أخذت أختي وابنتها معي إلى التراويح أيضا..
صحيح أنني سمعت بضع كلمات"تفوّر الدم" من مثل:{ما هذا العقل التخين, الترحيب بالضيوف أيضا مهم, واللمّة العائلية من أولويات رمضان .. الخ} .. ولكنني حوّلت أذنيّ إحداهما من طين والأخرى من عجين, فالثبات مهم جدا مهما كانت الضغوط ومهما كانت المغريات..
بل إن الله تعالى يقول:[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ](آل عمران:142) .. وهذا هو أول درس قطفته من مدرسة رمضان.. وإن أردت أن أعدّ دروس رمضان, فإن راعي الموقع – أكرمه الله - سيشتكي من الكلفة الباهظة لمساحة السيرفر المؤجرة لأنني سأحتاج حينها إلى الكثير من الجيجابايتات.. هل أتحدث عن: المثابرة, حتى ولو تأخر القطاف.. أم هل أتحدث عن: المهارات التي اكتسبتها: من تخطيط, إلى إدارة النفس وإدارة الضغوط.. أم هل أتحدث عن نظام رمضان العجيب للصحة البدنية: غذاء متوازن + حركة.. أم تراني سأتحدث عن الآثار النفسية التي أفاضتها أيامه ولياليه علي!!
الكثير الكثير من دروسه وعبره مرّت علي, ولكنني بضعفي البشري وبقلمي الكليل لم أستطع أن أرصد منها إلا بضعة دروس فقط!! وها أنا ذا أسردها لكم.. عسى أن يأجرني الله عز وجل حين أضيء للآخرين طريقا كان مظلما بنور ما شاهدته في أيام وليالي هذا الشهر المبارك..
الدرس الثاني الذي تعلّمته من رمضان هو: المثابرة, حتى ولو تأخر القطاف.. فبرغم تأخر النتائج التي كنت أنتظرها, إلا أنني ثابرت وثابرت, ولم أشعر بقلبي يرتجف من جلال وخشية الله وحبه إلا بعد الثالث والعشرين, وربما أيضا في الخامس والعشرين, لقد تأخر تفاعلي كثيرا, ولكن الحمد لله أن هذا لم يجعلني أفتر وأترك العبادة.. مع أنني كنت أحاول الوصول إلى هذا منذ بداية رمضان, وكلما كان عمرو خالد يقول في درسه اليومي: ها, مين النهاردة حاسس أن قلبه طاير, مين اللي مش عايز الإمام يرفع من السجود, كنت أرد بيني وبين نفسي وبحسرة: للأسف, مش أنا!! يا رب تمنّ علي بأن أجيبه يوما ما: أنا.. أنا..
وإذا بالبر الرحيم يستجيب لي ويأتي اليوم الذي أجبت فيه: أنا.. أنا.. صحيح أنه أتى متأخرا, ولكنه أتى.. وقد علّمني ربي بهذا التأخير درسا شديد الأهمية, وكأني به جلّ جلاله يقول لي: ثابري, حتى ولو لم تَلُح أي بارقة نجاح, فإنني سأمنّ عليك به في النهاية, ولكن بعد أن تثبتي صدقك بمواصلة الجهد والعمل.. فالعمل اختصاصك, والنتائج اختصاصنا.. فلا تتركي اختصاصك لتتدخلي في اختصاص غيرك!! ومع ذلك فإن من رحمتي أنني سأمنّ عليك بالنتائج ولكن ليس قبل أن تثبتي صدق ولائك..
جلّ جلالك يا رب, يا حي يا قيوم تولّ أمورنا دائما, فإنما برحمتك نستغيث, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ..
أما ثالث درس تعلمته من رمضان فهو: مهارة التخطيط, تعلمت كيف أخطط لأدير نشاطاتي المتنوعة خلال هذا الشهر: عمل، تدريس, تحضير للدروس, عبادات وما تضمه من صيام وقيام وقرآن ودعاء وصلة أرحام, أعمال منزلية, و.... بل لقد اكتشفت أن أهم شيء لتنجح الخطة التي أضعها لشيء ما هو أن تبقى عيني على الهدف الذي وضعت الخطة أصلا من أجل تحقيقه, فأهدافي في هذا الشهر كانت: ختمتين+ قيام يوميا في المسجد..
فعندما دُعينا عند الأقرباء لتناول طعام الإفطار, أخذت أنظر لهذا الهدف: إن كان تلبية الدعوة ستحرفني عن هدفي إذاً: فلن أذهب, وإن كان ذهابي لن يؤثر شيئا على مسيرتي فسأذهب, بل لقد أصبح الناس عندما أعتذر لهم عن الحضور بحجة أن التراويح ستفوتني, أصبحوا هم الذين يتعهدون بأن يتركوني أذهب, ولا يتمسكوا ببقائي!! فسبحان ميسر الأمور..
تعلمت أيضا من رمضان –وهذا هو الدرس الرابع – كيف أستغل كل ثانية في وقتي.. عملي يستغرق مني جهدا ووقتا, بل إنني أقضي يوميا 3 ساعات في الطريق ما بين ذهاب إليه وإياب منه.. ولدي ختمتان, وتراويح, بالإضافة إلى الأعمال المنزلية المعتادة..
أخذت أستغل حتى الخمس دقائق في يومي, فلا أدعها تفوت إلا وقد ملأتها بالنافع المفيد, وأما الساعات التي أقضيها في الطريق فملأتها بـ: التحضير لدروسي, وبقراءة القرآن, حتى أنه ما إن كنا في السابع من رمضان إلا وقد وصلت إلى الجزء العشرين من الختمة الأولى!!
أما التلفزيون فلم يبق له محل من الإعراب في حياتي, بل إنني بالكاد استطعت أن أتابع برنامج عمرو خالد اليومي في قصص الأنبياء.. هذا إذا اعتبرنا أن درس عمرو خالد يدخل ضمن نشاطات التلفزة.. مع أن تقديري الشخصي لدرس عمرو خالد أنه لا يدخل في زمرة "أعمال التلفزيون" بل يدخل في زمرة "أعمال رمضان" .. لأنه الكلمات التي تشحن هممنا وترقق قلوبنا وتعيننا على مواصلة السير إلى آخر لحظة من رمضان..
إذا فقد تم إخراج التلفزيون من حياتي تماما في هذا الشهر, ولم أشاهد منه إلا بضع مشاهد من هذا المسلسل أو ذاك وبطريقة المصادفة البحتة.. بل لنقل: عرضا.. وما أحلى الحياة بعيدة عن ذلك الهذر الذي يسمّونه فناً!!
لقد كنت في رمضاناتي السابقة أتابع ما يعرض على الشاشات.. وللأسف فقد كان أبعد ما يكون عن روح رمضان, وعن ما هو مطلوب في رمضان.. وعن ما يجب أن نكون عليه في رمضان.. وعن ما هو متوقع أن نقطفه من ثمار رمضان..
مع أنه في الماضي كنا نتابع مسلسلات دينية كالفتوحات الإسلامية وعقبة بن نافع وحتى عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد.. فإن هذه المسلسلات كانت تقربنا إلى الأجواء الدينية شيئا ما, ولكن في السنوات الأخيرة لم نعد نر شيئا يمت إلى الدين بصلة.. وهذا كان يبعدنا كثيرا عن روح رمضان, إلى أن جاءنا عمرو خالد ببرنامجه اليومي والذي أصبح يشبه المسلسل, لأننا ننتظره يوميا, وهو يضيف لنا الكثير ويقود مسيرتنا خلال هذا الشهر الكريم.. فنحن لا نستطيع أن ننكر أن مفهوم الشهر تحوّل لدينا من شهر العبادة والعتق من النار, إلى شهر التلفاز والمسلسلات.. + المأكولات..
وإذا سألتم أي واحد من أولادنا بل حتى من كبارنا: هل تحب رمضان؟؟ سيقول نعم, فجرّب واسأله: لماذا؟؟ وسيأتيك هذا الجواب: لأننا نتفرّج فيه على مسلسلات حلوة وكثيرة, ولأن ماما تعد لنا فيه أشهى المأكولات!!!
فالحمد لله الذي حوّل التلفاز من أداة تلهي وتشغل عن رمضان إلى أداة تدفعنا باتجاه ما هو مطلوب منا في رمضان..
ومن دروس مدرسة رمضان, ذلك النظام الغذائي بل الحياتي العجيب.. لم أخسر وزنا في حياتي في رمضان إلا مرتين: مرة منذ ست سنوات"موتت نفسي فيها من الريجيم", وهذه المرة ولكن بدون ريجيم, فقط ريجيم رباني.. وفي كلتا الحالتين لم تتعد الخسارة الثلاثة كيلوغرامات وعلى أحسن تقدير..
أما في هذا الرمضان: فلم يكن وقت لدي لنشاط إضافي اسمه"الطعام", فكنت آكل وجبتي فقط, وكنت أتحرّى الطعام المغذّي والمفيد, كالتمر والفواكه.. بالإضافة إلى الحركة الرائعة التي استمرت طيلة الشهر: في الصباح عمل في المدرسة, وفي المساء التراويح, وأصلا لدي في طريقي إلى مدرستي وفي طريقي منها حوالي40 دقيقة من المشي.. كل هذا وأنا صائمة.. الحمد لله أن وفقني.. وثبتني..
ليس هذا فقط, بل إن الصيام أبعد عن ذهني التفكير في الطعام طيلة اليوم, ومعظم الليل أيضا, فالنظام لم يكن من حيث نوعية ما آكله وعدد المرات التي آكل فيها فقط, بل من حيث التفكير أيضا, وهذه ثمرة عظيمة, خصوصا إذا قلت لكم أنني من ضحايا اضطرابات الأكل النفسية بسبب عبادة الصورة والريجيمات المتكررة – الفاشلة وإن نجحت- التي عملتها في حياتي..
لقد تدرّبت ولشهر كامل كيف تكون لي أهداف أخرى أفكر فيها, حتى أنني تحوّلت من عادة سيئة وهي أن ملاذي حين أنزعج –وبطريقة آلية ودون وعي- هو الثلاجة, إلى عادة أخرى هي أنه أصبح ملاذي حين أنزعج: الله جل وعلا.. ولكن بطريقة واعية وهادفة.. لقد منحني رمضان القدرة على التحكم باندفاعاتي"الطعامية" ..
ليس هذا فحسب, بل إن رمضان علّمني شيئا باءت محاولاتي السابقة كلها لتعلمه بالفشل, وهو: أن آكل بقدر الشبع فقط, أي لا آكل إلى أن تئن معدتي.. لماذا ؟؟ لأن ورائي صلاة تراويح, ولا أريد أن أتضايق من ثقل بطني أثناء أدائها.. لأن التراويح مع بطن ممتلئة تعد قطعة من العذاب!! وصلاة التهجد والفجر مع بطن ممتلئة قطعة من العذاب هي الأخرى..
وأمّا على الصعيد النفسي.. فقد كانت لرمضان علي آثار وآثار.. أهمها أن كثرة الأعمال والمهام المطلوبة مني في رمضان, بل حتى من ما قبل رمضان, جعلتني أبتعد كثيرا عن التفكير السيئ بهمومي ومشاكلي الشخصية.. لماذا.. وكيف؟ لأنه "مفيش وقت للحاجات دي, أصل ورايا ختمتين.. ورايا جنة.. ورايا عتق من النار.. ورايا أمة بتضيع, ورائي دماء تتفجر أنهارا.. مفيش وقت للمشاكل الشخصية الآن.. بعدين.. لمّا أفضى شوية حبقى أقعد أعيّط.. بس دلوقت الأيام بتجري والليالي بتخلص وبسرعة.." .. هذا السباق مع الزمن جعلني أحجّم المشاكل, ولا أفسح لها المجال لتتمدمد فتنال من استقرار نفسيتي وأمني الداخلي.. بل لقد وضعتها في أماكنها المخصصة لها فقط..
لا أقصد بذلك أنني علّقتها ولم ألتفت إليها, فالله تعالى يغضب على من لا يسأله في أموره الشخصية, لا .. بل ما قصدته هو أنها لم تتعملق وتصبح هي شغلي الشاغل وهمّي الأوحد, لأنه فعلا.. هناك أولويات في الهموم أيضا!!
وأما آخر ما استفدته فهو: الدعاء والذل بين يدي الله والإحساس الحقيقي بالفقر والحاجة إليه جلّ شأنه, وما يثمره من قرب رائع منه سبحانه..
لقد حاولت من أول رمضان أن أدعو.. ولكن الكلمات كانت تخرج باهتة ميتة, لا تكاد تنبض بالحياة, إلى أن اقتربت العشر الأواخر, وبدأ الهجوم الأمريكي على الفلوجة الأبيّة, حينها كانت الدعوات تخرج من أعماق قلبي, لم أعد أتذكر أن أدعو لنفسي, كنت أجعل كل دعائي لإخواني في هذا البلد الصابر المحتسب, كنت أتمنى من كل قلبي أن يوفق الله المجاهدين فيها وينصرهم على المتغطرسين أدعياء الحضارة..
ربما ننام كثيرا, ونغفل كثيرا, ولكن الحمد لله أن في قلوبنا بقية من خير تحركها رؤية الدماء... صحيح أنها ليست بمزية, ولكنه كما يقال: الرمد أفضل من العمى.. هذا الدعاء والذي كان من قلب متألم مستشعر ذلّة وحاجته لله عز وجل, هو الذي جاء بثمرة الشعور بالقرب من الله عز وجل وارتجاف القلب ودمع العين.. وهذا هو الذي حرّك قلبي تماما في العشر الأواخر.. مهما دعونا ورجونا وعبدنا فإن ذلك لن يُجاوز رؤوسنا ما لم يخرج كل هذا الدعاء وهذه العبادة وذلك الرجاء من قلب يحس بفقره إلى غنى خالقه, وعجزه أمام قدرة بارئه, وحاجته الشديد إلى معونته.. عندها فقط سينزل النصر وستتحقق الإجابة...
وهذا ما عرفته فيما بعد, فقد أثمر دعاؤنا مقاومة سرشة في الفلوجة ومقتل الكثير من الأمريكان, وإسقاط طائراتهم وإحراق دباباتهم.. الحقيقة أنني ذهلت حين قرأت الأرقام, فأنى لهذه المقاومة شبه البدائية أن تهزم أسطورة التفوق الأمريكي.. ولكنها يد الله التي شدّت على أيدي المجاهدين, والحمد له أن جعلني الله من الذين دعوا –ولا يزالون يدعون– للمجاهدين بالثبات والنصر..
بل إنه وقبل أن أسمع أخبار المقاومة المشرّفة في الفلوجة, حدث معي شيء ما في آخر رمضان, جعلني أتأكد من أن الله عز وجل قد استجاب دعاءنا للفلوجة الحبيبة.. فكيف لا يستجيب الله دعائي بشأن أمة حبيبه محمد, وقد استجاب دعائي بشأن فرد من أمة محمد هو: أنا.. ؟!؟!؟
ذلك أنه وفي آخر يوم من التراويح وكانت يوم الجمعة 29 رمضان, ذهبت مع أختي لأداء الصلاة, وإذا بها تنقل لي خبر أنه قد تم إثبات العيد غدا السبت في بعض الدول العربية.. فقلت لها: إن شاء الله لن يكون عيدنا إلا الأحد, يا رب اجعل العيد يوم الأحد وأتمم لنا رمضان ثلاثين يوما, فقط أريد أن أكمل الختمة الثانية التي عاهدت عليها..-ووقتها كنت قد وصلت إلى الجزء السادس والعشرون من الختمة الثانية..-؛ ولكن.. وبينما نحن نصلي التراويح, إذا بالإمام يوقف صلاة التراويح بسبب خبر جاءه أنه قد تم إثبات العيد في بلدنا: غدا السبت.. حمدت الله على ذلك, وهنّأت أختي بالعيد, وقلت لنفسي: كله خير, وإن شاء الله سأتابع القراءة حتى أختم في ليلة العيد.. ولكنني كنت أتمنى من كل قلبي أن يكون العيد الأحد لأتمكن من القراءة في رمضان.. وعدنا للبيت, وبعد حوالي نصف ساعة أذيع خبر على قناتنا المحلية أنه قد تم إثبات العيد: الأحد ..
وأن يوم غد السبت سيكون هو يوم الثلاثين من رمضان, أحسست وقتها أن الله تعالى هو الذي تدخل فأطال رمضان يوما من أجلي.. أحسست بحنان غامر من الله عز وجل, وأحسست بحب شديد له سبحانه..
أفهذا الإله الذي استجاب لي فجعل "الدولة" تغير رأيها في ثبوت العيد, ألن يستجيب لكل هؤلاء المؤمنين الذين سألوه النصر للفلوجه ومجاهديها؟؟ صحيح:"إنّا كنا ندعوه من قبل إنه هو البرّ الرحيم" ..
هذه شذرات من معاني أحسست بها بعد أن أفاضتها علي أنوار رمضان أحببت أن أشارككم بها,
رمضان الذي رحل, ولم يُبق لنا إلا أن نحيا على أمل لقياه في العام القادم.. فأحينا اللهم لأمثاله, وسلّمه لنا وسلّمنا له, وأعنا على أن نعبدك فيه كما تحب يا ربنا وترضى, ثم تقبل منا بفضلك ورحمتك على ما يكون من تقصيرنا..
اللهم إنا كنا ندعوك من قبل إنك أنت البر الرحيم.. اللهم فاغفر ذنوبنا, واستر عيوبنا, ارحم ضعفنا, اجبر كسرنا, يمّن كتابنا, يسّر حسابنا, تولّ أمرنا, اعتق رقابنا, فكّ أسرنا, آمن روعاتنا, استر عوراتنا, اغفر زلّاتنا, اقبل توباتنا, اغسل حوباتنا,
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك, اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً..
اللهم إنّا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم, اللهمّ اكفناهم بم شئت وكيف شئت إنك على كل شيء قدير..
اللهم أعن المجاهدين.. اللهمّ ثبتهم وثبت الأرض من تحت أقدامهم, اللهمّ زلزلها من تحت أقدام أعدائك أعداء الدين, اللهم كن لهم ولا تكن عليهم, اللهم امكر لهم ولا تمكر بهم, اللهمّ آثرهم ولا تؤثر عليهم.. اللهم أعنّا جميعا على الجهاد في سبيلك.. كلٌّ من موقعه الذي أقمته فيه يا رب..
اللهمّ لا تُؤت الأمة من قِبَلِنا.. اللهم احم بنا دينك وأمة حبيبك.. وأعنّا وثبتنا.. وتقبل منّا.. آمين.. والحمد لله رب العالمين
الكاتب: مجنونة 74
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/11/2004
|
|