شاء لي الله في نفس يوم الجمعة بعد العصر أن أخرج في جولة في المدينة وسرت مسافة طويلة حتى وصلت شارع العادلية استجابة لطلب ولدي بشراء بنطلون جينز من محل معين عرفه من أحد أصدقائه، وقد كان بفضل الله، وإن كانت الأسعار خيالية مع الأسف، وفي طريق عودتي ضيعت الطريق الذي جئت عبره طبعا ودخل وقت المغرب وسمعت الأذان من أكثر من مصدر ورأيت أناسا كثيرين يسيرون في اتجاه المساجد، وفعلت ما فعلوا ولكنني لاحظت أنها كلها مساجد صغيرة ومحشورة بين بيوت الأهالي، وعرفت بعد ذلك أنني كنت في أحد الأحياء الشيعية القريبة من منطقة الجُفير والمحاذية لآثار القاعدة البريطانية القديمة، وعرفت كذلك أن مسجد أحمد الفاتح الذي صليت فيه الجمعة وحدي –أقصد الظهر- إنما سمي كذلك لأن أحمد الفاتح هذا هو القائد العربي المسلم الذي فتح البحرين، وهو من مساجد السنة القليلة في البحرين كما قال أحد سائقي سيارات الأجرة.
المهم أنني الآن عرفت أن المشكلة كانت في المنطقة التي يوجد فيها الفندق الذي نزلت به وكلها تقريبا يعيش فيها أهل الفنادق وهم غالبا سائحون من الخليج أو هم أجانب من الساكنين في هذه المنطقة من العاملين في القاعدة الأمريكية.... لكن هذا يؤكد مرةً أخرى أن المعمار الحديث ما لم ننتبه سيكون ضدنا،.... خاصة حين يكون المعمار المحاذي للقواعد الأجنبية مثالا يحتذي به الآخرون، وهو ما يبدو حادثا مع الأسف ما علينا.
عندما عدت بعد لأي إلى الفندق قابلت من توسمت فيه أنه مصري أتى لحضور المؤتمر فرد علي السلام سألته مصري؟ فقال لا أنا سوري قلت ما اسمك قال نديم المُمشمش، فعرفته بنفسي وسألته عن بقية زملائنا، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحنا ثلاثة أنا وهو ومستشار نفسي مصري اسمه إيهاب، وبعد قليل جاءنا الدكتور أحمد شوكة وهو واحد من منظمي المؤتمر مصري الجنسية وكان شخصا مرحا نشيطا، أخذنا إلى فندق الديبلومات لنلتقي ببقية زملائنا ممن سيحضرون المؤتمر، وكانت مفاجأة سارة لي أن أعرف بوجود اثنين أحبهما أحدهما هو أستاذي الدكتور أحمد عكاشه أكبر أساتذة الطب النفسي في مصر وواحد من الأسماء العالمية في مجال الطب النفسي.
وأما الآخر فهو الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري أستاذ الأدب الإنجليزي وواحد من المجاهدين المنهجيين –والجهاد هنا بمعناه المدني-، وكانت هذه هي المرة الثانية التي سأقابل فيها رجلا كان له فضل كبير بعد الله في توجيه وتعديل أفكاري وتنبيهي إلى التحيز في الفكر والعلوم الغربية، وكيف أن علينا كعرب مسلمين في كافة التخصصات أن نكتشف ذلك التحيز سواء في النظريات أو المصطلحات وأن نقوم بتجنبه وتصحيحه علميا قدر إمكاننا على الأقل لكي لا نردد كالببغاوات مصطلحات ومفاهيم متحيزة ضدنا مثل قولنا –الشرق الأوسط- وهو مصطلح يراد منه أن ننسى الشام والعراق ومصر وفلسطين ليصبح الشرق الأوسط الكبير مثلما أصبح الآن معلنا ولم يكن كذلك أيام كتابات الدكتور المسيري الأولى في فقه التحيز، كانت المرة الأولى التي التقيت فيها ذلك الهرم الفكري الشامخ في رمضان الماضي حيث كنا ضيفين في برنامج بث على قناة المحور الفضائية، لكن علاقتي بفكر المسيري وتأثري العميق به بدأت منذ أوائل التسعينات وقرأت معظم ما كتب ومن أهمه موسوعته الأولى في العربية –بل الوحيدة- عن اليهود والصهيونية.
وأما الدكتور عكاشه فهو بالطبع أستاذ طب نفسي ولذلك كثيرة كانت لقاءاتنا وكثيرة كانت محاضراته وآراؤه التي استمعت إليها، وحين رأيته هنا في البحرين في استقبال الفندق قبلته من خديه لأول مرة وسألني هل جئت تعمل هنا فقلت له لا يا سيدي أنا لا أعمل في غير مصر فقال لي ولماذا قلت أحب ذلك قال لماذا لا تجيء للعمل شهرا أو شهرين في إحدى دول الخليج، فتلك ستكون فائدة كبيرة لك من الناحية المادية أجبته لم أدع لمثل هذا ولو دعيت فقد ألبي، سألني أنت هنا إذن من أجل المؤتمر فقط ؟ قلت نعم.
وأما ثالث من التقيت في تلك الليلة فكان الدكتور خالد عبد العظيم منصور –أو خالد منصور كما أصبحت شهرته الآن- وهو كان مدربي الأول ومثلي الأعلى حين بدأت العمل كطبيب نفسي مقيم في الجامعة، ولكن بقاءه في مصر لم يطل فلم يكد يحصل على درجة الماجستير -في سنة 1990 على ما أذكر- إلا وسافر إلى السعودية ومنها إلى بريطانيا ولم يزر مصر من وقتها لأسباب أمنية ما تزال تقف حتى يومنا هذا -16 عاما- أمام تعيينه في أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، كان لقائي مع الرجل حميما وأوجعني أن يناديني بسعادتك وحضرتك حتى كادت الدموع تفر من عيني ولمته فقلت له كيف وأنت واحد من أساتذتي فقال لي أنا لا أعمل بالجامعة وإنما في بريطانيا، وكان مفاجئا لي أن الرجل لا يعرف أو لا يصدق أن يجد واحدا مثلي يعترف له بفضل كبير، ولا يبدو أنه صدقني حتى كان اليوم الأول لمؤتمر وسأحكي لكم في المدونة التالية ما يؤكد ذلك.
المهم أننا في مساء الجمعة وبعد أن أنهينا تلك اللقاءات أخذنا الدكتور أحمد شوكة في جولة في شوارع البحرين ثم اصطحبنا إلى مطعم اسمه ليالي زمان يقدم المأكولات المصرية، وتعشينا مع ثلاثة من الأطباء النفسيين الإنجليز أنا ود.نديم ود.إيهاب، ورغم أنني شعرت بالضيق لأن الإنجليز كانوا يعملون في مجال الطب النفسي العسكري وبكل وضوح قرروا أنهم عملوا جميعا في أفغانستان، رغم ضيقي من ذلك وعدم حبي للحديث بلغة غير لغتي إلا أنني تأقلمت ولم أظهر إلا عدم الرغبة في الحديث بالإنجليزية غير أن د.نديم ود.إيهاب ظنا منهم أن المسألة عدم ثقة مني في مقدرتي على الحديث بالإنجليزية فقد سألوني إن كنت عملت في بريطانيا من قبل؟ فقلت لهم لا وهنا أبدوا هم والإنجليز دهشتهم من قوتي في الإنجليزية فقلت لهم أنها دراستي للطب النفسي هي السبب وأحسب أن أي حاصل على الدكتوراه في الطب النفسي لابد يمتلك أدوات اللغة الإنجليزية جيدا.
كان العشاء جميلا وكان الجو أجمل وقد ملأه د.أحمد شوكة بكثير من الحفاوة والكرم والمرح، وأخذنا بعدها إلى مكان إقامتنا لننام، وحين رجعت غرفتي دخلت على مجانين وفتحت صناديق بريدي الإليكتروني ولم أستطع السهر طويلا بعد نشرة الجزيرة الإخبارية، لأن موعد الاستيقاظ كان في السابعة والنصف من صباح اليوم التالي.
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com