الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي نشرت على الموقع بتاريخ: 21/12/2006
ـ قالت البنت لأبيها وهى تغلق الكراسة أمامها: أنا لم أفهم يريدونه منا بالضبط!! تعجب الأب ورفع حاجبيه في دهشة نصف نصف. مضت البنت، التي لم تتجاوز الثامنة، تكمل وكأنها لا تخاطبه "أنا لم أعد أفهم ماذا يريدونه لنا بالضبط رفع أبوها حاجبيه هذه المرة في دهشة كاملة، وقال وكأنه يصيح: "ماذا تقولين يا بنت أنت؟ ما هذا الكلام الفارغ؟، ثم أردف: أريني هذه الكراسة التي أغلقتها حالاً، لابد أن بها ما أفسدك"، قال ذلك وهو يتقدم نحوها وكأنه يقفز، لم تنزعج البنت، بل تقدمت تناوله الكراسة وهي تبتسم ابتسام غامض لابد أن يكتشف المدقـِّق حول ذاوية فمها اليمين أنه مزيج من الشفقة والحب والسخرية، لا يمكن أن تضبط جرعة مزجهم إلا امرأة مجرّبة حول الأربعين. اختطف أبوها الكراسة وهو متأكد أنه سيجد فيها ما يطفئ دهشته، هزت البنت رأسها ببطء ومازالت نفس الابتسامة تتراقص حول فمها، لكن عينها كانت تلمع ببريق تحفُّز ولد شقي يهم بتوجيه ضربة جزاءٍ ترجيحيه.
ـ أخذ أبوها يقلب أوراق الكراسة وهو يبحث عما أفسد ابنته هكذا، ما هذا؟ الكراسة غير مسطرة، ولا حتى صفحة، وصفحة الكراسة ورقها أبيض ناصع، لم يمسسه قلم، أغلقها لينظر ماذا على الغلاف فلم يجد أي اسم، أو علامة، أو تاريخاً، قلبها ثانية وكاد يقذف بها بعيدا كأن بها ما يمكن أن يلدغه، لكنه تراجع وتماسك، واخفي خوفا لم تلحظه ابنته كما أنه بدوره لم يلحظ ابتسامة البنت التي تراجعت، وتغيرت واتسعت إلى ضحكة واسعة لشابة تخطت العشرين لتوها، شابة مليئة بالحيوية، والحب، والرغبة، والدفء، والطيبة، والإيمان، والجنس، لم يهدأ غضب الأب وإن نجح أن يخفى دهشته تحت بطانة سترته وهو يتقدم، ليسأل بهدوء:" كراسة رسم هذه يا حبيبتي؟ هزت البنت رأسها يميناً وشمالاً فوصلته أجابتها بالنفي، فأكمل. "إذن، كراسة ماذا؟، قالت البنت وما ذلت ضحكة الشابة الحيوية تملأ وجهها "هي كراستي "، قال أبوها: أعرف طبعا أنها كراستك، لكني أسألك إن لم تكن كراسة رسم، فماذا تكون وصفحاتها كلها بيضاء هكذا"؟.
قررت البنت أن تسحبه إلى ناحية أخرى وهى واثقة أنه لن يعترض:"كم الساعة يا أبي؟ أريد أن أنام" قال وكأنه تخلص من كابوس ثقيل: الحادية عشرة، ما الذي سهّرك إلى هذا الوقت، هيا يا حبيبتي لتستيقظي مبكرا لتذهبي إلى المدرسة"، قالت البنت وهي تنصرف:"حاضر، تصبح على خير" ولم يسمعها وهى تتمتم ذاهبة إلى حجرة النوم "أذهب أفعل ماذا يا أبي؟ أنت لا تعرف الجاري".
ـ أمسك الأب بالكراسة الخالية، وأخذ يقلب أوراقها البيضاء بهدوء، في صفحتي الوسط، فوجئ بكلام مكتوب، بخط رقْعَة فاقع السواد، فرح باحتمال حل اللغز. الكلام عن دورة حياة كائن لم تتحدد معالمه ، بهدوء متسحَّب تشكلت من الحروف الرّقعة السوداء صورة ظلت تتكثف حتى اتضحت، الرأس صغيرة تبرق من جانبيه عينان زجاجيتان ذكيتان بلا عواطف، لماذا إذن يصفونه بالغباء؟ يبدو أنه لم ينقرض، ثم ما هذا الذي يحيط بجسده من كل جانب هكذا يبدو أنه حشرات زاحفة، لكنها غير متميزة أيضاً. حل به يقين أنها حشرات سامة، وأن هذا هو السبب أن الحيوان يبدو بلا حراك، مشلول أو ميت، لا فرق، قال لنفسه وهو ينظر إلى حجرة النوم:"وتقول إنها ليست كراسة رسم!!.
ـ عاد ينظر إلى الصفحتين المتقابلين وفزع حين انتبه إلى أن الديناصور يتحرك في اتجاهه، وكأنه أفاق من سبات طال مليون عام، لم يصدق، وألقى بالكراسة بعيدا، فأوقعت كوبا كان على المائدة، فانكسر، لم يلملمْ الزجاج، ولم يخَفْ أن تجرح شظايا الزجاج أحد المارة الحفاة. ارتد فجأة هاجما على التليفزيون يستنقذ به فاستجاب من لمسة واحدة. تصلب أمامه ونسى كل شيء، وظل يتنقل بين محطاته:
روتانا موسيقى، روتانا كليب، روتانا زمان، "اقرأ " دريم2، ART ، CIA، KGB ، FBI ، M16 ،MBC ، روتانا طرب، ثم إلى الفضائية المصرية. أيها المخابرات وأيها الفضائيات؟ ـ رفع رأسه ونظر حوله فدهش أن ضوء النهار يملأ الحجرة، التفت بسرعة إلى ساعة الحائط، يا خبر!!، الثامنة إلا ثلثا!!. قفز متجها إلى المدرسة، وجدها مازالت تغط في نوم عميق. راح يتأملها طويلا، ثم مال على جبهتها بهدوء وقبلها خفيفا حفيفا، بحيث لا يوقظها، ثم انصرف على أطراف أصابعه وهو يتمتم: معها حق،............والله العظيم معها حق.
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com