إغلاق
 

Bookmark and Share

00المصدر جريدة الأهرام الثلاثاء 20- 9 - 2005   


هل نندم علي الانسحاب من غزة؟ ::

الكاتب: فهمـي هـويـــدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 21/09/2005

لا أتمني أن يجيء اليوم الذي تضيق فيه صدورنا بعبث الاطراف المختلفة بالملف الفلسطيني‏,‏ الي الحد الذي يشيع بيننا الاحباط‏,‏ ويدفع بعضنا الي القول‏:‏ ليت الاسرائيليين لم ينسحبوا من غزة‏,‏ علي الاقل لأن فضح الاحتلال الصريح والمتواطئين معه‏,‏ ايسر من فضح الاحتلال المقنع والمتسترين عليه‏.‏

(1)‏

قبل أي كلام في الموضوع‏,‏ يظل من المهم للغاية أن يعطي الحدث حجمه الطبيعي‏,‏ حتي لا تنطلي علينا الدعايات والاكاذيب‏,‏ وحتي لا تختلط في أذهاننا الاوهام بالحقائق‏,‏ ولا مفر في هذا الصدد من الانتباه الي ان ما جري لم يكن تحريرا لغزة‏,‏ التي يتمسك الاسرائيليون بالسيطرة علي بحرها وبرها وجوها وعلي المعابر والميناء والمطار‏.‏ وغاية ما يمكن ان يقال ان الاسرائيليين قاموا بتفكيك المستوطنات في القطاع‏.‏ لكن ذلك لا يقلل من وجه الإنجاز في المشهد‏,‏ لان هذه هي المرة الاولي في تاريخ الصراع التي تضطر فيها الدولة العبرية الي اخلاء مستوطناتها في أراض فلسطينية خارج نطاق التسويات السياسية‏.‏ ولئن حدث ذلك في غزة فيحب ألا ينسينا اننا بصدد خطوة اولي علي طريق الألف ميل‏,‏ لان القطاع يمثل‏6%‏ فقط من الاراضي التي احتلت عام‏67-‏ الامر الذي يعني ان الجميع ينبغي ألا يتعجلوا الفرح‏,‏ لان‏94%‏ من الاراضي التي يتعين علي الاسرائيليين ان ينسحبوا منها مازالت تحت الاحتلال الوحشي‏,‏ ومسئولية بهذه الجسامة تتطلب استمرار التعبئة والاستنفار‏,‏ وحشد كل الطاقات المتاحة اقليميا ودوليا وراء مطلب اكمال الانسحاب المنشود‏.‏

بسبب من ذلك‏.‏ قد تصورت ان رد الفعل العربي والاسلامي علي عملية تفكيك المستوطنات‏,‏ ينبغي ألا يتجاوز حدود الترحيب الحذر‏,‏ الذي يطالب بسيادة حقيقية للفلسطينيين علي القطاع والمعابر المؤدية اليه‏,‏ مع تأكيد ضرورة انسحاب اسرائيل من الضفة‏,‏ ووقف الاستيطان فيها والكف عن سياسة تهويد القدس‏.‏ بكلام آخر‏,‏ فإن هذه لحظة اشهار الاستحقاقات ومطالبة المغتصب برد ما سلبه ونهبه‏,‏ وليست لحظة القفز فوق الاستحقاقات‏,‏ والتعبير عن الامتنان والشكر‏,‏ والتسابق علي منح الجوائز لشارون وحكومته‏.‏

لم يحدث شيء مما توقعناه للاسف‏,‏ ووقع كثيرون في الفخ ـ لا تسألني عما اذا كان ذلك من باب العبط او الاستعباط ـ حيث لاحظنا هرولة صوب اسرائيل من جانب عدة دول عربية واسلامية‏.‏ فقد تحدثت التقارير الصحفية عن زيارات منتظرة لبعض القادة العرب الي تل أبيب‏.‏ وزيارة مرتقبة سيقوم بها شارون الي احدي الدول المغاربية‏.‏ وتحدثت تقارير اخري عن لقاءات مرتبة بين شارون وبعض قادة العالم الاسلامي الذين سيشاركون في دورة الامم المتحدة بنيويورك‏,‏ وتواترات انباء عن قرب اقامة علاقات رسمية بين اسرائيل وبين عدد غير قليل من الدول العربية والاسلامية‏,‏ وبدأ الاعلان عن اقامة علاقات مع باكستان‏(‏ اندونيسيا في الطريق‏)‏ مقدمة وتمهيدا لما سمته اذاعة الجيش الاسرائيلي موسم جني القطاف الذي ترتب علي الانسحاب عن غزة الي غير ذلك من التطورات المدهشة التي تعاقبت مكافأة لشارون علي انه اخرج يده من جيب غزة‏,‏ لكي يحكم قبضته علي رقبة القطاع‏,‏ بينما يواصل التهام الضفة‏.‏

يزيل قدرا من الالتباس في المشهد ما نشرته يديعوت احرونوت في‏9/5‏ الحالي‏,‏ نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز‏,‏ وذكرت فيه ما خلاصته ان الرئيس بوش قرر ان يستخدم نفوذه لدي الدول الصديقة لدعم شارون وسياسته‏,‏ حتي لا يتم احراجه داخل حزب ليكود‏,‏ ولتعزيز موقفه في مواجهة خصمه بنيامين نيتانياهو الذي ينافسه علي زعامة الحزب‏,‏ بناء علي ذلك فمطلوب من الاصدقاء ان يكفوا عن مطالبة شارون بأي استحقاقات فلسطينية أخري‏,‏ ومن أراد ان يخاطبه فليتوجه اليه بالتهنئة فقط‏,‏ وهو كلام تبين انه صحيح‏,‏ لان الرسالة وصلت‏,‏ وكما رأيت توا‏,‏ فإنه جار تنفيذ مضمونها‏.‏

(2)‏

اللامعقول في المشهد الفلسطيني لا يقف عند ذلك الحد‏.‏ ولكن له تجليات أخري عديدة‏,‏ منها مثلا ان تليفزيونات العالم سجلت خلال الاسابيع الماضية الجدل بين الفصائل الفلسطينية حول الطرف الذي له الفضل في تحقيق الانجاز في غزة‏,‏ وفي معرض هذا الجدل العقيم فإن الفصائل قدمت الي شارون من حيث لا تحتسب هدية ثمينة وفرت له نصرا اعلاميا مجانيا‏,‏ ذلك ان المنظمات القانونية الفلسطينية والدولية ـ وبعض الاسرائيلية ـ تتمسك بأنه طالما استمرت سيطرة اسرائيل علي اجواء القطاع ومياهه ومعابره الحدودية‏,‏ فان غزة ستظل مصنفة أرضا محتلة‏,‏

وبالتالي فإن اسرائيل يجب ان تتحمل مسئوليتها ازاء القطاع‏,‏ حتي بعد فك الارتباط غير انه في معرض التراشق بين الفصائل الفلسطينية انطلق الجميع من وصف اخلاء المستوطنات بأنه تحرير ونهاية للاحتلال‏.‏ وهو ما افاد الحكومة الاسرائيلية كثيرا في خطابها السياسي والإعلامي‏,‏ التي حرصت علي ان تروج لذات‏.‏ الادعاء‏,‏ لكي تتقدم بطلب إلي مجلس الأمن لاعتبار ما جري في غزة إنهاء للاحتلال‏,‏ الأمر الذي يعد من وجهة النظر الإسرائيلية تطبيقا لقرار مجلس الأمن رقم‏242,‏ الذي يتحدث في صيغته الإنجليزية عن وجوب انسحاب إسرائيل من أراض احتلتها في عام‏67.‏ وهو ما يضعنا بازاء مفارقة شديدة‏,‏ وجدنا فيها فصائل المقاومة واقفة دون أن تدري في المربع الإسرائيلي‏!‏

من آيات العبث واللامعقول أيضا أنه في مقابل صور الابتهاج الفلسطيني بالتحرير الكاذب‏,‏ أغرقت الحكومة الإسرائيلية تليفزيونات العالم بصور معاناة المستوطنين المصطنعة‏,‏ وهم يقتلعون من منازلهم باكين‏,‏ وجنود الاحتلال يقودونهم إلي الحافلات بسكينة ووقار‏,‏ الأمر الذي اسقط من الأذهان صورة المستوطن المغتصب والمفتري‏.‏ وفي هذه المباراة التي خسر فيها الفلسطينيون حرب الصورة‏.‏ لم تتوان إسرائيل عن استثمار ذلك الفوز‏,‏ إقليميا ودوليا‏.‏ ومن المفارقات أن المشاهد التي بثت من المستوطنات جعلت إحدي المؤسسات الإعلامية الإيطالية ترشح شارون‏,‏ الجزار العتيد في قبية وصبرا وغيرهما الكثير‏,‏ لجائزة نوبل للسلام‏,‏ في مشهد يشي باستحالة المأساة إلي ملهاة‏.‏ لقد نجحت الصور في أن تمحو من ذاكرة الرأي العام العالمي التصريحات التي أطلقها شارون وقال فيها صراحة إن خطة فك الارتباط تأتي لتجنيب إسرائيل خوض غمار أي تسوية سياسية لمدة خمسين عاما‏.‏ كما لم يعد يتذكر أحد العبارة الشهيرة التي أطلقها دوف فايسجلاس كبير مستشاري شارون الذي قال فك الارتباط يأتي لإسدال الستار علي أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية‏.‏

(3)‏

الادهي مما سبق والأمر أن إسرائيل من خلال تغطية عمليات الإخلاء حاولت اضفاء بعد انساني علي مستوطنيها عبر إظهار ألمهم علي أنه ألم حقيقي‏,‏ وكأنهم لم يقيموا بيوتهم الفارهة علي ارض فلسطينية مغتصبة‏.‏ وحرصت إسرائيل أيضا علي أنسنة جيشها‏,‏ فالجنود الذين شاركوا في عمليات الإخلاء لم يكن يسمح لهم بحمل أي سلاح‏,‏ في سعي واضح لتحسين صورتهم‏,‏ التي ارتبطت في وجدان العالم بالوحشية المفرطة وإهلاك الحرث والنسل وتدمير البيوت‏.‏ وحتي صور الممانعة والمقاومة التي أبداها المستوطنون في بعض المستوطنات استغلت من قبل شارون لإقناع العالم بأنه لن يكون بوسعه تنفيذ عمليات إخلاء أخري في المستقبل‏.‏ بل إنه ما برح يردد علي مسامع كل من يقابله بأن تنفيذ عمليات إخلاء أخري قد يكون مقترنا باندلاع حرب أهلية‏.‏ ليس هذا فحسب‏,‏ بل إن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية اعتبرت أن الصدمة النفسية التي تعرض لها المستوطنون توجب علي الدولة العبرية ليس فقط عدم إزالة النقاط الاستيطانية التي أقيمت في الضفة الغربية بشكل غير قانوني‏,‏ وإنما أيضا تكثيف الاستيطان كتعويض للمستوطنين عن خسارتهم‏.‏

إلي جانب ذلك بالغت وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم في كيل المديح لشارون علي اعتبار أنه قائد سياسي جدي وشجاع‏,‏ وصاحب قدرة علي إمضاء تعهداته‏.‏ وهذا المديح الذي جعل معظم الإسرائيليين يرون في شارون الممثل الحقيقي للوسط‏.‏ علي الرغم من مواقفه المعروفة والمتشددة من قضايا الصراع‏.‏ كما حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية علي إبداء التعاطف مع شارون‏,‏ عن طريق الاستفاضة في طرح المشاكل الحزبية التي تواجهه بسبب خطة فك الارتباط‏,‏ لتقول للعالم إنه حتي لو أراد تنفيذ مزيد من الاخلاءات فإن الواقع الحزبي في إسرائيل لن يسمح له بذلك‏.‏ ليس هذا فحسب‏,‏ بل تم إظهار شارون وكأنه يسدي جميلا ومعروفا للفلسطينيين‏,‏ يتوجب عليهم الرد عليه من خلال تفكيك حركات المقاومة والقضاء عليها‏,‏ ونزع الشرعية عن المقاومة في مواصلة عملياتها‏.‏

ما أثار الدهشة في هذا السياق أنه في مقابل هذه المشاهد كانت بعض الفصائل الفلسطينية تواصل احتفاءها بالتحرير‏,‏ عن طريق تنظيم الاستعراضات العسكرية التي أظهرت فيها أسلحتها البدائية‏.‏ وهو ما سجلته التليفزيونات العالمية‏,‏ كشاهد أيد مطالبة إسرائيل بتفكيك حركات المقاومة‏.‏ وزاد الطين بلة‏,‏ أن بعض منتسبي الجماعات المسلحة‏,‏ وجهات أخري غير معلومة تورطت في اختطاف عدد من الأجانب‏,‏ العاملين في الإغاثة أو في الصحافة‏,‏ الأمر الذي أضفي بعدا جديدا علي قتامة الصورة الفلسطينية‏,‏ في حين أن الطرف الإسرائيلي ظل يواصل سعيه لتقديم صورة بريئة وجذابة إلي العالم الخارجي‏.‏ حتي بدا أن الجلاد كسب الرهان في حين خسرته الضحية ـ وهكذا يكون العبث وإلا فلا‏!‏

(4)‏

حتي يبلغ العبث ذروته‏,‏ فإن عددا غير قليل من الصحفيين والمعلقين في إسرائيل لجأوا إلي حيلة خبيثة لتقزيم القضية الفلسطينية وطمس معالمها‏.‏ فقد دأبوا علي تشبيه إخلاء المستوطنين بما حل بالفلسطينيين في عام‏48.‏ فأطلقوا عليهم مصطلح اللاجئين‏,‏ وحين تطرقوا إلي المخيمات المترفة التي أقيمت لهم وسط تل أبيب تحدثوا عنها باعتبارها مخيمات اللاجئين‏,‏ وهي المصطلحات التي ظلت طويلا مقصورة علي الفلسطينيين دون غيرهم‏.‏

حتي يديعوت احرونوت‏,‏ كبري الصحف الإسرائيلية اعتبرت أن إخلاء المستوطنين يضاهي في قسوته النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون في عام‏48‏ ـ كما أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية وجدت في حرص إسرائيل علي إيواء المستوطنين الذين تم إخلاؤهم فرصة لمهاجمة السلطة والدول العربية‏,‏ والطلب منها أن تتعلم من إسرائيل كيفية إعادة توطين اللاجئين وتأهيلهم‏.‏ ولم يفت أولئك المعلقون أن يتحدثوا عن معاناة المستوطنين‏,‏ الذين كانوا يمثلون‏0,5%‏ من المقيمين بقطاع غزة‏,‏ وتجاهلوا معاناة‏99.5%‏ من سكانه‏,‏ تحملوا الكثير من عذابات الاحتلال طيلة‏38‏ عاما‏,‏ وقد خرجوا من الهيمنة المباشرة للاحتلال ليجدوا أنفسهم في سجن كبير بالقطاع‏,‏ يحرسه جنود الاحتلال ذاتهم‏.‏

حين كنت أتبادل الرأي مع أحد الأصدقاء في غزة حول الوضع القانوني للقطاع بعد الانسحاب‏,‏ ومفارقة وقوف الفصائل في مربع الحكومة الإسرائيلية التي تحاول تسويق فكرة تحرير القطاع والانتهاء من احتلاله‏,‏ نبهني صاحبي إلي أن السلطة الفلسطينية واقفة بدورها في ذات المربع لهدف آخر‏.‏ هو أنها حين تعتبر الإخلاء تحريرا فإن ذلك يسوغ لها نزع سلاح الفصائل‏,‏ لأن الوضع المستجد لا يبرر لها الاحتفاظ بسلاحها‏,‏ ومن ثم فيتعين علي الفصائل أن تتخلي عن السلاح ولا تبقي لديها علي شئ منه‏.‏ وهو أمر ليس سهلا‏,‏ يفتح الباب لشرور كثيرة‏,‏ قد تكون الحرب الأهلية بين خياراتها‏.‏

تري‏,‏ هل يقع المحظور يوما ما‏,‏ حتي نسمع قول القائل‏:‏ ليتهم ما انسحبوا ؟‏!‏


الكاتب: فهمـي هـويـــدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 21/09/2005