إغلاق
 

Bookmark and Share

ملفات فلسطينية ::

الكاتب: زينات أبو شاويش
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/05/2004

 
تباً للأيدي الآثمة

كان والدي فدائيا في جيش التحرير الفلسطيني ورغم أنه أُبعد عن وطنه هو وأسرته فإنه نال ما تمنى في حرب لبنان فاحتسبناه شهيدا عند الله تبارك وتعالى، ومع أنني لم أنعم بصحبته إلا سنوات معدودة فإنه خط بيده كل ملامح حياتي، فكنت نموذجا له في كل شيء، ولم أكن أتخيل أن أرى في أي رجل صورة والدي رحمة الله عليه، حتى تعرفت على الدكتور الرنتيسي الذي فاجأني بمجرد أن عرفته
وقال لي: هل تقبلين أن أكون والدك؟
فقلت له: هذا شرف ولكن والدي كان شهيدا.
فقال: وسأكون أنا أيضا شهيداً إن شاء الله تعالى لتصبحي ابنة الشهيدين.
فقلت له: إذن سوف أكون الشهيدة ابنة الشهيدين إن شاء الله.
فقال: إذن على بركة الله أيتها الشهيدة ويا ابنة الشهيدين.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر الوعد.

وها هو الوعد الأول قد تحقق عندما شعرت بهذا الزلزال الذي هز كياني وجعل الأرض ترتجف تحت أقدامي عندما علمت بنبأ شهادة الدكتور الرنتيسي، ولكن لا نملك إلا أن نقول:
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك لمحزونون يا والدنا الحبيب وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأخذت الذكريات تنساب على ذاكرتي لأتذكر ما انتابني من اليأس بعد أحداث جنين والمذابح التي صارت لأهلنا هناك، عندما فقدت القيمة في كل ما أفعله في سبيل الله ومن أجل نصرة قضيتي التي تسكن بين ضلوعي.

اتصلت بالدكتور الرنتيسي كعادتي وكنت في غاية الغضب من الأوضاع العربية المخزية فقال لي بهدوء لم يعهده من اعتاد أن يراه ثائرا:
"سوف ننتصر يا ابنتي.. النصر قادم لا محالة، وإن كانت إسرائيل تتفوق علينا في كل شيء ومعها أمريكا بل معها كل العالم، فنحن يا ابنتي معنا الله، فمتى كانت يا بنيتي تتساوى حركات التحرر في العدة والعتاد مع قوات الاحتلال والغاصبين للحقوق؟ وهل كان الجزائريون يتساوون مع الاحتلال الفرنسي، وهل كان الفيتناميون يتساوون مع أمريكا؟ إنها قوى الحق والباطل. يا ابنتي مهما طغى الباطل فلا بد للحق أن ينتصر".

وكم أثلجت كلماته صدري واشتعل الأمل في عيوني مرة ثانية.."تذكري دائما قول الله عز وجل: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}، فسيري على درب العالمين

تسعدي في الدنيا وتكوني في الآخرة من الفائزين واستمري بما أنت عليه". رحمك الله أستاذي الجليل.

فرقنا الأعداء وجمعنا رب العباد ورجعت بذاكرتي إلى اليوم الذي تعرفت فيه على الدكتور الرنتيسي، أقصد والدي الشهيد، وبعد أن تعرفت عليه عن طريق أحد الإخوة الذين أعتز بأخوتهم من وطننا الحبيب وكان دائما يراودني الأمل أن تسمح لي قوات الاحتلال بعمل تصريح للعودة إلى أهلي بعد أن حالت الظروف بيني وبينهم، حيث إنني ولدت خارج الوطن ولم أحمل هوية وبالتالي أصبح دخولي إلى وطني وبلدي يحتاج لتصريح من قوات الاحتلال..

أي ظلم هذا الذي نحياه؟ لا أعلم. فكان كل وقتي ما بين المؤتمرات والندوات للمشاركة في كل ما يهم القضية. وفي المؤتمرات التي اعتدت أن أشارك فيها كنت أحرص على دعوة والدي الرنتيسي لكي يكون ضيفا معنا عبر الهاتف لنستمد قوته من كلماته الثورية التي تشحذ الهمم الملقاة على قارعة أبواب الحكومات العربية، وكم كان يسعد بهذه المشاركات رغم كل مشاغله، وما كان يبخل علينا أبدا.

وقد كان خفيف الظل على خلاف ما يُثار عنه، فقد كان شخصية قوية في الحق معنفا لأصحاب الباطل، ولكنه كان يملك نفسا شاعرة وقلبا مرهفا رقيقا وروحا تملؤها الدعابة،

وأذكر أنه قال لي: مرة في أحد المؤتمرات الكبيرة التي كانت تضم ما يزيد عن 30 ألف مشارك في مدينة الإسكندرية،
قال لي: كنت منورة في المؤتمر.
فقلت له: طبعا لأنني كنت أون لاين،
وحضرتك كنت أوف لاين..! وحكى هذه الكلمة لزوجته الكريمة وذكرتها لي في مرة من المرات وضحكت كثيرا على هذه الكلمة. حقا نعم الأب والقائد والرمز.. سأبكيك ما حييت.

الشهادة قادمة إن شاء الله

وتذكرت منذ قريب محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الدكتور الرنتيسي في يونيو/ حزيران عام 2003 عبر صاروخ أطلقته مروحية إسرائيلية على سيارته في قطاع غزة أدى لإصابته هو وابنه الصبي بجروح. وفي تلك الأثناء اتصلت به هاتفيا لكي أهنئه بالنجاة وأرسلت له رسالة عبر بريده الإلكتروني،
فإذا به يرسل الرد ويقول: "الشهادة قادمة إن شاء الله"..!

هؤلاء الرجال هم من نحسب أن الله عز وجل قال فيهم: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً".

لقد ارتوت أرض فلسطين من دماء أبنائها فاستحقت أن تكون مدينة تصنع التاريخ، لقد سطر أبناء فلسطين تاريخا عريقا من البطولات المخضبة بالدماء الذكية، فمن يختار طريق الشرفاء سيكون إن شاء الله من الشهداء. وهل يتساوى موت الشرفاء بموت أناس ظلوا جبناء؟! لقد كان صادقا مع ربه فصدقه وعده فنال شهادة في سبيله نسأل الله عز وجل أن يجعله في الفردوس الأعلى مع سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهنيئا لك بموت الشرفاء يا سيد الشهداء.

تهنئة تتبعها مسئولية

وبرغم الظروف الصعبة التي تحيط بإخواننا في حماس فإن ظروفهم لم تكن تنسيهم البعد الإنساني في قضيتهم، فلم ينس الدكتور الرنتيسي وزوجته الكريمة هو وعدد من الإخوة في حماس يوم مناقشتي للماجستير في شهر سبتمبر من العام الماضي، بل إنه كان أول المهنئين لي قبل المناقشة بيوم.

وقال لي: " إنني موقن من أنك سوف تحصلين على امتياز ولكن هذا سوف يزيد من مسئولياتك تجاه وطنك وشعبك، لا تغتري بالتفوق ولكن عليك أن تعلمي أن هذا التفوق سيتبعه مسئولية حتمية وأمانة كبيرة يجب أن تكون حاضرة دائما نصب عينيك". فأبكتني كلماته;

وقلت: إذا كانت الماجستير سوف تأخذني من وطني ولحمي وقضيتي فلا داعي لها.
فقال: أنا لم أقصد ذلك ولكن قد تأخذك تداعيات الماجستير بعيدا عن ذلك، وكان يضحك كعادته وهو كان يقصد المزاح، ولكنني كعادتي تعاملت مع الموقف بحدة، فأقسمت له أن ذلك لن يحدث.

وها أنا ذا أجدد قسمي أمام الله عز وجل وأمام كل من يقرأ هذه السطور المتواضعة التي عجز فيها قلمي أن يبوح بما يكنه قلبي وبما يسكن في نفسي.

وستبقى ذكرياتي مع والدي الشهيد نورا يؤجج مشاعري حتى يحين لقائي به قريبا إن شاء الله.  


الكاتب: زينات أبو شاويش
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/05/2004