إغلاق
 

Bookmark and Share

علم عراقي أم علم هلاكي ::

الكاتب: د. فؤاد محمد فريح الجابري
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/01/2007

قف هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعد الله نعتصم، كلمات طالما رددناها في مدارسنا، وكنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر حتى يرفع هذا العلم مجددا ليبقى شامخا في باحة المدرسة حتى الأسبوع المقبل وكان يثير فينا حماسة وشجاعة مقصودة نتخذ منها منارا يضيء لنا الدرب ويحرك المشاعر بإيمان وثقة كبيرتين لخدمته ومن ثم إن لزم الأمر الموت دونه.
أجيال وأجيال تربت على هذه الكلمات وبات كل واحد منا يعيدها مرارا وتكرار في نفسه، في خلوته، سرا وعلنا، حتى أصبحت كشعبة من شعب الإيمان إن صح التعبير فدائما وأبدا كنا نسمع أن حب الوطن من الإيمان ولا نعرف أو لا ندرك ما هو هذا المفهوم لأننا في مستوى عقلي حسي، ولم نصل بعد أو لم يرتقي نمونا المعرفي Cognitive Development إلى مستوى التجريد، بل إن الوطن بكل ما فيه من معاني كان متمثلا بقطعة القماش تلك بألوانها الزاهية ونجومها المتلألأة التي لا تلبث أن تغادر السماء مع أن النجوم لا تظهر في النهار.

كبرنا وبدأت المفاهيم Concepts تتضح شيئا فشيئا وأصبحنا شبه خبراء أو محللين سياسيين لأننا كنا ملازمين نعيش في قلب الحدث ، فالحروب ملازمة لنا كظلنا وكأننا أو كأن الحروب والمآسي أصبحت صديقا وفيّا مخلصا تعودت علينا وتعودنا عليها، وكان السؤال الذي يراود ذهني دائما إلى ماذا تشير قطعة القماش هذه إن لم تكن هي الوطن؟ سالت احد الأساتذة ذات يوم وقال هل تعرف الرموز قلت الرموز الرياضية؟ قال لا الرموز هنا الاستعاضة عن شيء مكان شيء، لم أكن في وقتها مستعدا للإجابة أو لم تسعفني قدراتي المعرفية على إدراك المفهوم وكان عزائي أن يأتي يوم وأكتشف حقيقة الأمر.

طيلة أيام الحرب وحينما يسقط شهيدا في ارض المعركة كان يؤتى به إلى أهله وجثمانه ملفوف بالعلم، وكل يوم شهيد هنا وشهيد هناك، جيراني، والد أحد أصدقائي، أقربائي لا فرق كلهم يتركون أثرا كبيرا وجرحا عميقا وآلاما في النفس خصوصا بعد أن ندرك أنهم ذاهبون بلا رجعة وحرمنا إلى الأبد من رؤيتهم أو ملامسة أيديهم أو في كثير من الأحيان مشاركتنا أفراحنا بل وحتى ألعابنا، وكانت الصيحات والصرخات لأهل الشهيد تعلو وتعلو وكان أهله وأحباؤه، زوجته وأبناؤه، يجهشون بالبكاء ويذرفون دموعا تراها تنزل على الخدود تاركة أثرا وكأن هذا الخد الجميل شبه محترق.

قفز السؤال إلى ذهني مرة أخرى لأجل أي شيء كل هذا؟ ولم أستطع الإجابة بل لم احصل عليها، لكن فضولي كان أكبر من أن استسلم بهذه السهولة فتشت وفتشت عن الإجابة حتى تمكنت أخيرا منها تخيل ماذا كانت؟ "كل هذا لأجل الوطن"رجعت إلى نقطة البداية الوطن هو قطعة القماش تلك في باحة المدرسة يقتل من وراءها ولأجلها أحبائي وجيراني وكل عزيز ما هذه النتيجة معقول؟ أم أن المجيب على سؤالي كان ساذجا.

بعد التحليل الذاتي أدركت كلام معلمي بالأمس ووصلت إلى النتيجة أن هذا العلم هو رمز للوطن، وأن هؤلاء الشهداء هم مدافعون عن الوطن برموزه ومعانيه المختلفة والمتعددة، زاد حبي للعلم أكثر لارتباطه بمعنى اكبر عزز ذلك الشيء إضافة أحلى الكلمات إليه "الله اكبر".

لكن مسكين هذا العلم، مسكين هذا البلد من ظلمة إلى ظلمة، ومن مأساة إلى أكبر، ربما يحسدنا البعض أن علمنا صار يرفرف قريب أو إلى جانب العلم الأمريكي، لكن ما رأيك إن أنزل علمك ووضع العلم الأمريكي مكانه، دعني أقص لك الخبر.

في فترة قصيرة بعد الاحتلال كان في نية المحتل ومن يسانده أن يبدل هذا الرمز ومعانيه كثيرة متأصلة منذ الطفولة كما استبدل كل المفاهيم الأخرى لكن باءت كل المحاولات بالفشل فمن غير المعقول ولا المنطقي أن تقتلع جذورا عميقة ولا تواجهك المتاعب أو ربما تبوء محاولاتك بالفشل وهذا الذي حصل.

وفي أحد الأيام وأنا في طريق عودتي من الجامعة نقف تلقائيا في سيطرة تفتيش للقوات الأمريكية شدني الانتباه إلى العلم الموجود في مقر تلك السيطرة علم عراقي بالإضافة إلى العلم الأمريكي قلت في نفسي سبحان الله من الذي جمعنا وإياكم مع الاختلاف الشاسع بيننا في كل شيء عقائديا وخلقيا واجتماعيا وثقافيا بل وحتى تاريخيا، اكرر ربما يحسدنا البعض يا بخت علمكم مع علم سيدة العالم، لكنه في تلك اللحظات تجرد من كل المفاهيم ولم يعد رمزا بل هو الآن مجرد قطة قماش ولا يعني لنا أي شيء لأنه لم يكن في المكان الصحيح فمكانه في باحة المدرسة، مكانه على جسد أبي ،أقربائي، أحبائي، والد صديقي الذي عاش يتيما ولكن كان ولا يزال رجلا يفتخر بهذا الرمز، اضطربت الأفكار بل اضطربت كلي واهتزت المفاهيم عندي، قفز إلى ذاكرتي سؤال الأمس ماذا يعني هذا العلم؟ لكن في هذه المرة أرى أن الإجابة ستكون بمثابة الهلاك لذا سأبتعد عن الفضول وأترك الأجيال القادمة ربما تجيب وتصحح المفهوم من جديد حتى يعود الرمز إلى سابق عهده.
 

واقرأ أيضًا:
من قصيدة لبغداد / سقوط بغداد / عن الانتخابات العراقية ! / من العيد إلى يوم العراق البعيد / على باب الله 13 /3 مع العراق / لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ / لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ مشاركة / مدونات مجانين: كيف ننجو بالعراق؟ / عن مهزلة الانتخابات الأمريكية في العراق! / ردا على المغالطات يقول العراقي الشريد / العراق وفيتنام .... أوجه التشابه العراق بين مواكب الموت وصمت القبور(1)  / العراق بين مواكب الموت وصمت القبور(2) / لماذا تنعي مجانين صدام حسين؟ / لماذا تنعي مجانين صدام حسين مشاركتان / عمرو عماد مع مجانين ينعي صدام حسين  / لماذا تنعي مجانين صدام حسين مشاركات / المواطن البابلي يعتقد بانفراج الوضع الأمني/ الموت في بلدي علنا والمقبلات مجانا  



الكاتب: د. فؤاد محمد فريح الجابري
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/01/2007