رسائل من الجنة 5 ::
الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/08/2004
ثم أخذت دربي أمشي بعيدا عن هذه المجموعة..وأفكر كيف سأخترق هذه المجموعة وأتعرف عليهم..وإذا بي أرى شابا لطيفا يقترب من مجلس الشيخ لينضم إليه..كان يمشي بهدوء فطري..أحسست وكأني أنظر إلى طفل..لكن كبير..لم تكن قسمات وجهه تنطق بغير الدعة والبراءة والسلام..يا لهذا الوجه الملائكي.. أظن أنني أعرف هذا الفتى..لم يكن وجهه غريبا علي..آه تذكرت..لقد رأيت صورته على صفحات الجرائد ومواقع الانترنت..جالسا يبتسم بثقة وهدوء.. نعم..إنه سعيد..سعيد الحوتري..ذلك الفتى الذي فجّر نفسه في مرقصٍ وسط تل أبيب..لقد أثارت عمليته الاستشهادية غيرتي كثيراً حينها,وجعلتني أشعر بالفخر الشديد إذ أنه من ابناء أمتي ومن جلدتي.
بقيت أراقبه من بعيد..انضم إلى مجلس الشيخ..سلّم عليه تسليم المشوق الذي طال به زمن البعد عن أحبته..ثم سلم على كل الموجودين في المجلس..وأخذ مكانه بينهم..أخذت تتنامى إليّ أصوات ضحكاتهم, وكلما سمعتها اشتعل الفضول في قلبي لأعرف ماذا يقولون..وعلى ماذا يضحكون..
وبعد أن انقضت ساعة حسبتها من الانتظار دهرا..انفض المجلس..وقام كل منهم إلى قصره..اقترب سعيد في طريقه إلى قصره من المكان الذي أقف فيه..فوجدت الفرصة مهيأة تماما لأبدأ حديثي مع هذا الشاب الأسطورة.. بادرته قائلة: أهلا برفيق الدرب.. فنظر إلي وابتسم بحياء قائلا: - أهلا بك.. هل تعرفينني؟؟ - ألست سعيد الذي فجر نفسه في ملهى ليلي في قلب تل أبيب؟؟ - بلى..أنا هو..وأنت؟ انتظري..دعيني أحزر..أظنك ريم..أم الطفلين الصغيرين..أليس كذلك؟ - فعلا..أنا ريم..كيف عرفتني؟؟ لقد نفذت عمليتي بعدك..فأنت لم ترني لا على صفحات الجرائد ولا على شاشات التلفاز.. - لقد انتشر خبر ما فعلته هنا في السماء قبل أن ينتشر في الأرض..أم تحسبين أننا هنا في معزل عمّا يدور في الأرض.. وما إن اتمّ كلمته حتى جاءنا خبر جديد: أعلنت وكالة أنباء الملأ الأعلى عن وصول دفعة جديدة من الوافدين تمّ تخريهم من الأرض وهم:
عبد العزيز الرنتيسي,ومرافقه أكرم نصّار.....وآخرون..
وفتح الباب ودخلت مجموعة الضيوف الجدد يتقدمهم الدكتور الرنتيسي..أسرعنا جميعا لنسلّم عليهم ونرى خبرهم..فعرفنا أنهم قدموا إلينا إثر حادثة اغتيال بشعة.. نظرت إلى سعيد..فقال لي:أرأيت..هنا أيضا لدينا وكالة أنباء,ولكنها لا تبث لنا صورا,بل تأتينا بالأصل.. ضحكت كثيرا..و قلت له:
نعم,الأصل هنا شيء آخر,لطالما كنت مبهورة بصورتك وبقصة عمليتك الرائعة,وها أنا الآن لا أرى صورتك ولا أقرأ كلمات عنك,ولكنني أراك شخصيا وأسمع منك..
ثم اتجهنا صوب هذه الكوكبة الجديدة من الشهداء لنسلم عليهم ونرحب بهم ونهنئهم على الوصول بالسلامة,فقد كنا السابقين وهاهم قد لحقوا بنا..ولكننا لم نستطع أن نقترب منهم لشدة الزحام,فقد اجتمع أهل الجنة كلهم ليرحبوا بهم..لم يبق لنا مكان..فآثرنا الانتظار قليلا ريثما تنفض الجموع المحتشدة.. وانتهزت هذه الفرصة لأسأل سعيد عن ما دار في مجلس الشيخ قبل قليل..
- أخبرني يا سعيد:عن ماذا كنتم تتحدّثون في مجلس الشيخ؟؟لقد أثارت ضحكاتكم فضولي وبشدّة.!! - آه من تلك الجلسة ومن ذلك الحديث يا ريم,كم كنت أتمنى أن أنضمّ إلى عالم هؤلاء الكبار عندما كنا في الدنيا,وأتعلم منهم وأرافقهم كما أريد,ولكن حالت ظروف المطاردات الأمنية دون تحقيق أمنيتي,فاستعضت عن مرافقتهم بمتابعة أخبارهم وخطبهم وأشرطتهم..صحيح أن المرافقة الشخصية لا بديل عنها,ولكن جيد أن هناك مجال لتعويضها ولو جزئيا.. تريدين أن تعرفي مادار في تلك الجلسة..أليس كذلك؟؟ لم تكن أكثر من جلسة تذكّر لأحداث الدنيا,ولمواقف مضحكة لهؤلاء الصهاينة الأغرار..وكيف كانوا يبولون في ثيابهم من شدة فزعهم من بعض المجاهدين الذين لايبلغ ما يحملونه من سلاح معشار ما مع هؤلاء..بل إن بعضا منهم كانوا يأبون مغادرة سياراتهم المصفحة لتنفيذ الهجمات بل ويظلون يبكون داخلها كما لو كانوا أطفالا صغارا..
مواقف كثيرة يا ريم جعلتنا نشعر بقوّة الإيمان الذي نحمله أمام الباطل الذي يحملونه.. - ليتني كنت معكم لأسمع مثل هذه النكت,فوالله إنها لأشد الطرائف طرافة..أخبرني المزيد عنهم.. لكن..ما لبث الازدحام أن خفّ حول كوكبة الشهداء,فأسرعنا أنا وسعيد لنحيي الوافدين الجدد,فبادر سعيد بمصافحة الدكتور الرنتيسي وعانقه, أما أنا فبادرتهم بقولي:حللتم أهلا ً,ونزلتم سهلاً.. فبادلوني التحية,وسلّموا عليّ بحرارة,يبدو أنهم يعرفونني!! تابعت قائلة: ما أسعدنا بالاجتماع بكم,وما أشد غيظنا من قاتليكم.. ابتسم أكرم لكلمتي,وقال:لا تغتاظي يا أختاه,بل هم الذين سيموتون بغيظهم.. - نعم,أنت محق..هم الذين سيموتون بغيظهم.. ثم استأذنتنا هذه المجموعة الطيبة ليذهب كل منهم إلى ما أعدّ الله له,يبدو أنهم يريدون قضاء بعض الوقت في استجلاء الجنة ونعيمها,فتركناهم وما أرادوا,لم نشأ أن نكون من العذّال الذين يمنعون الأحبة من اللقاء,خصوصا أن الأحبة هنا من نوع خاص:المحب هو الشهيد, ومحبوبته هي الجنة..وهل يبقى بعد نعيم الجنة نصب؟!؟
تركناهم وما أرادوه,وابتعدنا عنهم أنا وسعيد بضع خطوات لنجد في مواجهتنا درجات ذهبية تفضي إلى مساحة منبسطة من العشب الأخضر النديّ,ومحاطة بعرائش الياسمين الأبيض,تنتصفها مائدة مستديرة هي عبارة عن لؤلؤة كبيرة مجوّفة, و حولها مقاعد من اللؤلؤ المجوّف أيضا.. أنا أعرف الياسمين,وأحبه كثيرا..ولكن هذا الياسمين مختلف عما أعرفه..إن منظره يذكّرني بما كنّا نراه في الدنيا في أفلام الرسوم المتحركة: ياسمين لا كالياسمين..يتناثر منه الندى عذباً مبهرا..وتفعم الجو رائحته قوية نفّاذة فيسكن عبقها في لأنوف ويأبى أن يغادره.. جذبتنا هذه البقعة الجميلة بروائحها الشذية فنزلنا الدرجات,وتوجهت إلى هذه الياسمينات لأشمّها وأملأ أنفي بعقبها لكنني لم أكمل لأنها هي التي تحرّكت باتجاهي,يبدو أن لديها مجسّات تلتقط الإشارات الدماغية فتفهم كيف أفكر,وتسبقني لتنفيذ ما أفكر فيه..!!!
يا الله..ما أبدع خلقك..أحاطتني هذه الياسمينات بأزهارها,وإذا بي ولا أدري كيف وعقد من الياسمين قد كلّل رأسي..تحسستها فإذا لها ملمس ناعم حنون يشبه خدّ طفل رضيع..
ما إن جلسنا على المقاعد اللؤلؤية حتى سمعنا صوت تدفق مياه كأنها شلّال..وبدأت الأرض تتحرك فترتفع عاليا..وأخذ الماء يملأ ما حولها,فأصبحنا في جزيرة عائمة يفصلنا عن باقي الجنة أخدود من الماء الملون..لم أر في حياتي ماء ملونا,إنه يشبه قوس قزح بألوانه الزاهية.. كل يوم أرى أشياء تدهشني أكثر وأكثر,ولا أدري متى ستنتهي عجائب الجنة!! قال سعيد:سبحان الذي رزقنا الجنة وهيّأ لنا طريقها يا ريم.. - أجل..سبحان الذي هيّأ لنا طريقها..ولكن هل لك أن تخبرني كيف كان طريقها بالنسبة إليك؟؟ - ألا تعرفين؟؟ أظنك تابعت تفاصيل ما فعلته.. - بلى,ولكنني احب أن أسمع التفاصيل من صاحبها,لا تنس أن الآخرون يروون تفاصيل الحدث فقط,أما صاحب الحدث فيرويه بمشاعره وأحلامه وآلامه وآماله..هلّا أسمعتني قصتك من جديد أنا أكيدة أنه سيكون لها نكهة أخرى لم أتذوقها في كل ما قرأته وسمعته عنك من قبل.. - حسناً يا أختي..لك ما تريدين..وسأعود بك الآن إلى الأرض..وسأبدأ حكايتي من أولها.. - نعم,هذا ما أريده تماما,تفضّل فكلّي آذان مصغية..
- ترجع أصولي إلى مدينة قلقيلية التي غادرها أهلي إلى عمّان بعد احتلال الضفة الغربية سنة 1967,نشأت في عمّان لكن نسيمات من بلادي ظلّت تهبّ عليّ لتذكّرني بها دائما.. بقيت في عمّان إلى أن قررت العودة إلى قلقيلية وقد قاربت العشرين من عمري لأعمل كهربائيا فيها,فقد كانت هذه مهنتي,الحقيقة أنني لم اعد لأعمل فقط,بل لأن نداء الوطن لم يزل بي إلى أن شدّني إليه من جديد.. سررت جدا بعودتي وبعملي..أحببت كثيرا المسجد,لم أكن أطيق الصلاة بعيدا عنه,كنت حين أدخل المسجد أشعر أنني أدخل بيت ربي وأنني في ضيافته ومعيّته..تمنيت لو أستطيع العيش في المسجد,ولكن هذا مستحيل,فأخذت أتردد عليه للصلوات ولحضور الدروس الدينية,فقد كانت تنعش قلبي المجروح والنازف دائما ً.. لم يكن عملي يالعمل الرائج جدا,ولكنني وبفضل الله كنت أستطيع أن أتدبر أمر نفسي بالوارد منه,بل و كان يفيض جزء منه فأرسله لأهلي في عمّان.. ثم بدأت الانتفاضة..ومع بدايتها توقف عملي في التمديدات الكهربائية تماما,ثم عرض علي أحد أصدقائي ان أعمل معه في مجال بيع وتوزيع الخضروات,لم أتردد في قبول ذلك العمل,صحيح أنه بعيد تماما عن مجال مهنتي,ولكنه لا يحتاج مهارة على أيه حال,اللهم إلا وجهاً بشوشاً ولساناً طيباً..وهذا في الواقع ما تتطلبه أي مهنة,بل إن هذا ما يتطلبه كوني مسلماً أصلاً,والحمد لله أن منّ علي بهذا الخلق الجميل,والحمد لله أن والدي غرس في قلبي الحب:حب الناس..كل الناس..حتى أنني لم أعرف الكره يوماً,مع أنني عرفت الألم كثيرا.. كنت أرسل إلى أهلي بما يتيسر لي من مال من عملي الجديد,أما أنا فمتطلباتي كانت شبه معدومة في ذلك الوقت.. لا أدري..ربما هو الزهد في الدنيا,لم يكن يثير منظر الأشلاء الممزقة للأطفال والنساء والرجال إلا مزيدا من الأسى في نفسي..لم أكره اليهود,ولكنني حزنت جدا أن يكون هذا هو حالهم مع أهلي.. وبعد عدّة أشهر من اندلاع الانتفاضة فوجئت بأن أعز أصدقائي "فادي عامر" قد نفّذ عملية استشهادية.. لم يخبرني اي شيء عن ما اعتزم فعله,فكان خبر استشهاده كصاعقة انقضت عليّ.. أخذت أقلّب ما فعله فادي في رأسي أياماً وليالي,وأنا أريد أن أصل إلى حقيقة السبب الكامن وراء اختيار فادي لهذا الطريق؟؟ ولم يطل بي التفكير حتى اهتديت إلى الجواب,لقد كان الجواب واضحا أمامي في كل ما يحدث لأهلي وأرضي..أيقنت بالمبدأ الذي ضحّى فادي بحياته في سبيله:الحقوق لا تُمنَح,وإنما تنتزع انتزاعا.. لو أن استجداء الحق يأتي بنتيجة,لأتى استجداؤنا لحقنا في أرضنا طيلة عشرات السنين بنتيجة.. لكن هذا الاستجداء لم يأتنا إلا بنتيجة واحدة:زيادة الخراب والدمار والانتهاكات يوما يعد يوم.. أيقنت تماما أن هذا العدو لا يفهم إلا بمنطق القوّة.. لم يكن كلام الله عز وجل لنا في القرآن عبثا,لقد نبّهنا إلى هذه الحقيقة حين قال:"وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة, ومن رباط الخيل, ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم".. لقد وصل بنا الضعف إلى أن أصبحنا غير قادرين على استرداد حقنا السليب..فأي رهبة لنا في صدور أعدائنا..ولكن ليس بعد الآن..لن يرهبوننا إلا إذا كنا أقوياء..لن يرهبوننا إلا إذا تمرّدنا وقلنا لا..بدمائنا..لا بحناجرنا التي بحّت أجيالا متتالية ولا من مجيب. وعندها قررت أن أسير أنا ايضا على درب صديقي فادي..والحمد لله أن يسّر لي ربي ذلك, فقد فرحت جدا بلقائه هنا في الجنة.. - وأين فادي الآن؟؟ - إنه في أحد قصوره,هل تعلمين..عندما أريد أن أراه فلا بد أن أطلب موعدا لمقابلته,إنه مشغول جدا.. - وبم؟؟ احمرّ وجه سعيد عند هذا السؤال..ففهمت..يبدو أنه مشغول بحورياته.. لله درّك يا سعيد..أيحمرّ وجهك حياء,كما يحمّر وجه البنات؟؟ ولكن..لم العجب,وقد كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها!!
انتبهت من أفكاري على حورية من الحوريات وهي تقدّم لنا طبقا كبيرا مملوءا بأنواع غريبة من الفاكهة..وضعت الطبق على الطاولة وهي تسأل سعيد هامسة:أسيطول بك المكث هنا؟؟ ماذا جرى لحوريات الجنة اليوم؟؟ كلهنّ مشتاقات!! أجابها –وقد احمرّ وجهه كالعادة-:ليس كثيرا..
غادرتنا وهي تخفي وجهها وراء نصيفها,وعيناها مصوبتان إلى الأرض..لقد استحت هي الأخرى.. كنت أتمنى أن أرى ربع هذا الحياء في وجوه بناتنا وشبابنا في الدنيا..كثيرا ما آلمتني رؤية الوقاحة في عيونهم وعيونهن,وهم يحسبون أنهم بهذه الوقاحة يحسنون صناعة الجرأة..لقد اختلطت المفاهيم عليهم اختلاطا منكرا.. كيف للقحة أن تصبح جرأة؟ أما يحتاج قول الحق إلى "الجرأة"؟؟ أما يحتاج الثبات على المبدأ إلى "الجرأة"؟؟ أما يحتاج الوقوف في وجه شهوات النفس إلى "الجرأة"؟؟ أما ينبغي لمن أراد أن ينجح في حياته أن يكون "جريئا"؟؟ أما يحتاج التمسّك بأوامر الله أمام سخرية الساخرين واستهزاء المسهزئين إلى "الجرأة"؟؟ بل أما يحتاج التمسّك بجوهر الدين الناصع أمام المحرّفين والمؤوّلين إلى "الجرأة"؟؟؟ أما نحتاج "الجرأة" لنسأل عن أكثر الأمور "إحراجا" ليستقيم ديننا؟؟ ألا نفهم من الجرأة إلا معناها المقلوب وهو:نزع الحياء..وفي كل شيء..أي:"الوقاحة"؟؟ مسكين أيها الحياء..لم يعد لك مكان في الأرض..لا عجب إذاً أن أكرمك الله فنزل جبريل ليرفعك منها,فمكانك هنا في السماء,في الجنة..في وجوه الحور والشهداء.. أما أنت أيها الشاب الشهيد,فأنت لا تنتمي إلى عالم البشر..لماذا؟؟لأنك حيي..بل أنت تنتمي إلى عالم علوي سماوي,مساكين من لا يستطيعون الانتماء له من أهل الأرض..فعلا مساكين.. لم يكن وجه سعيد ملائكيا فقط,بل لقد كان حياؤه ملائكيا أيضا..لدرجة أنني تمنيت أن أكون حمرة الحياء التي تضرج خدّيه.. - هل أتابع؟؟ قال سعيد هذه الكلمات فأخرجني من أمنيتي الغالية.. - بالتأكيد..وصلنا إلى حين قررت أن تسير على درب رفيقك فادي..ها..فماذا فعلت؟؟ - لم أدري في البداية ما أفعل,فلم أكن أعلم أي شيء عن طريقة فعل مثل هذه الأمور,لأنني كنت بعيدا تماما عن السياسة والأحزاب والفصائل..صحيح أنني كنت أحب حماس جدا..لكنني لم أعرفهم عن قرب حتى ذلك الحين.. حاولت أن أعرف كيف أصل إلى من يساعدني في تنفيذ مخططي,وبعد جهد جهيد وصلت بفضل الله,ولكن كانت المفاجأة:لقد رفضوا التعاون معي,يبدو أنهم رأوا رقة مظهري فشكّوا في قدرتي على الصمود في مثل هذه العملية حتى النهاية..!! لكنني كنت جادّا تماما..وفي النهاية قلت لهم:إن لم تساعدوني,فسأنفّذ هذه العملية وحدي,وليكن بعدها ما يكون.. وافقوا بعد هذه الكلمات على أن يساعدوني في تنفيذ مخططي.. تم التخطيط لها بعناية,فقد تم تحديد الهدف وهوملهى ليلي في تل أبيب..ولكن كانت العقبة:كيف سأدخل إلى تل أبيب؟؟ وهي مليئة بالحواجز عند كل مداخلها..لقد كانت هذه النقطة هي اصعب نقطة في العملية على الإطلاق.. وعندما اقترب موعد العملية..أخذت أنهي التزاماتي المادية..وأما ما بقي معي من نقود فقد أرسلتها إلى أهلي.. ثم خرجت يومها متوكلاً على الله.. كان الاتفاق أنني سأعبر الحاجز بمساعدة عميل للمخابرات الإسرائيلية,هذا العميل يعمل على سيارة أجرة تحمل لوحة صفراء اسرائيلية, أي أنها تستطيع التحرّك داخل إسرائيل دون مشاكل.. اتصل شخص من طرفنا بهذا العميل مدعيا أنه يريد الذهاب معه إلى تل أبيب كمستأجر لسيارته..وفعلا..مرّ صاحب السيارة على ذلك الشخص فكنت معه ومعنا شخص ثالث..ركبنا جميعا,وانطلقنا باتجاه تل أبيب,وعند المدخل الشرقي لقلقيلية نزل أحد الرجلين الذين كانا معي,وبقيت أنا والرجل الآخر.. وصلنا إلى تل أبيب..وبما أن السيارة تحمل اللوحة الصفراء فقد تجاوزنا الحاجز بسهولة ودون مشاكل..نزلت أمام الملهى الليلي الذي هو هدف هذه العملية,وبقي الرجل الآخر في السيارة ليعود إلى قلقيلية.. وقفت في الطابور بين الشباب والبنات أنتظر دوري لدخول الملهى..وكأنني واحد من هؤلاء السكارى,لم يكونوا يعرفون أنني أحمل لهم الموت!! وما هي إلا لحظات حتى تمت العملية,ووجدت نفسي أصعد مع الملائكة إلى الجنة..
علمت فيما بعد,أن العميل صاحب سيارة الأجرة شكّ فينا حين طلب منه الرجل الذي كان معي أن يعيده إلى قلقيلية,وأنه حاول أن يطلب النجدة من الشباك للقبض على ذلك الرجل,لكنه وبعون الله تمكن من الهرب.. وأما عن نتائج تلك العملية,فالحمد لله أنها كانت مدوّية..21 قتيلا..وأما الجرحى فقد تجاوزوا المئة..
أكثر ما أقرّ عيني في ما فعلته أنني قلت لهؤلاء الأوغاد:لن تنجو منا حتى وأنتم في أشد الأماكن تحصيناً..وقد رأيتم ماذا يمكننا أن نفعل.. - ألم تنتابك مشاعر الخوف وأنت مقدم على هذه الخطوة؟؟ألم تتردد ولو للحظة واحدة؟؟ - يا أختاه..نحن بشر..ولدينا كل ما لدى البشر من مخاوف ومشاعر ورغبات وآمال..ولكن لدينا أيضا ما ليس لدى معظم البشر من آلام..لا أخفيك أن اتخاذ قرارا الاستشهاد لم يكن بالقرار السهل,فكرت كثيرا فيما أنا مقدم عليه,لم يحزنّي أنني سأترك الدنيا,فهي لا يؤسف عليها..كل ما كان يحزنني هو أهلي,وفجيعتهم بفقداني..كم كنت أدعو الله أن يثبت قلوبهم حين يصلهم الخبر..وكنت أدعوه أيضا أن يثبتني على القرار الذي اتخذته,ويعينني في تنفيذه حتى لحظة الضغط على زر التفجير..والله يا ريم,لولا أنني كنت أحسّ بتثبيت الله لي وربطه على قلبي ما كنت لأستطيع الاستمرار أبداً..فالحمد لله أن أعانني لأصل إلى الجنة ومن هذا الطريق:الشهادة.. - نعم يا سعيد..توفيق الله لنا هو الأساس في كل ما كان.. - والآن أستأذنك,فهناك من ينتظرني.. - حسنا ً..أبلغ "المنتظرات" سلامي لهنّ. غادر سعيد مكانه.وبقيت أنا وحدي أفكر في عظمة نفسه ونبل سجاياه..
لقد ملأ سعيد هذا عيني,ليت كل رجالنا مثل هذا الفتى..ذكّرتني قصة تجرّده لله تعالى ولقيمه وأهله وأرضه بفتيان الصحابة.. أمثال مصعب بن عمير..وحنظلة...لو أن ربع فتيان أمتنا..ربعهم فقط..مثل سعيد لانقلب حالنا عقبا على رأس ولاستقامت الدنيا من جديد موحّدة طائعة لله.. ولكن..ما لي ولأهل الأرض,وقد أخرجني الله منها ووصلت إلى هنا بالسلامة.. هل سأظل أحمل همّهم حتى بعد أن غادرتهم؟؟ نعم..لا أستطيع إلا أن أفكر بهم..إنهم أهلي,وأولادي..وإخوتي..كيف لي أن أنسلخ منهم ومن حبهم؟! لكنني لست أملك الآن إلا أن أدعو لهم..أدعو لهم أن ينصرهم الله على أعدائهم,وأول هؤلاء الأعداء:أنفسهم.. أدعو لهم بأن يعينهم الله على استرداد حقوقهم كلها بعد أن يعدّوا العدّة اللازمة ليصبحوا أقوياء بما فيه الكفاية,ليكونوا جديرين باستعادة هذه الحقوق ثم المحافظة عليها..وليكونوا جديرين بقيادة الأرض من جديد تحت هذه الراية الحبيبة: ***" لا إله إلا الله محمد رسول الله "*** وهذا ما سأفعله من الآن إلى أن يأذن الله بقدومهم جميعا إليّ هنا..
اقرأ أيضاً رسائل من الجنة. .(1) / رسائل من الجنة. .(2) / رسائل من الجنة ...(3) / رسائل من الجنة ...( 4)
الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/08/2004
|
|