إغلاق
 

Bookmark and Share

رسائل من الجنة (6) ::

الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/01/2005



أنهكني هذا اليوم, لقد كان طويلا جدا, ولكن هنا في الجنة لا يوجد نهار وليل, إذا علي أن لا أنتظر الليل لأنام وأرتاح, بل سآخذ قسطا من الراحة الآن..

توجهت إلى قصري, ولكن.. أين قصري؟؟ أنا لم أره بعد, منذ أن قدمت إلى هنا وأنا أحدّث الناس وأتعرف أخبارهم, ولم أر قصري بعد, يا للمفارقة الغريبة!!

حسنا, سأسأل "الاستعلامات"! لا بد أن يكون هناك استعلامات او طريقة ما أعرف بها أين قصري, إذ ليس من المعقول أن أدخل الجنة وأنا لا قصر لي فيها, هل سأنام في قاع النهر أم على أغصان الأشجار؟؟!! لا بد أن يكون لي قصر!!

وتوجهت صوب باب الجنة, ورأيت منصة كبيرة يقف خلفها مجموعة من الشباب والفتيات لم أر مثلهم في الحسن والبهاء, مبتسمون, ينظرون إلى الناس بمودّة ظاهرة.. بل وبحنان غامر!! تقدمت نحوهم, فبادرتني إحدى الفتيات قائلة: هل من خدمة أقدمها لك؟؟

- نعم, شكرا لك.. أريد أن أعرف أين قصري, فقد تعبت وأريد أن أرتاح..
- ولكن, ألم تأخذك ملائكة الاستقبال إليه حين دخلت الجنة؟؟
- لا, ولكنها ليست غلطتهم, فما إن دخلت الجنة حتى تركتهم ورحت أتجوّل هنا وهناك, يبدو أنهم لم يحبوا أن يفسدوا رغبتي في التجوال فتركوني وما أريد.. والآن وعيت لأمري, فهلّا ساعدتني؟
- طبعا طبعا.. على الرحب والسعة. هيا بنا.. سأرافقك إلى قصرك..
- ولكنك لم تعرفي بعد من أنا؟؟
- بل أعرفك, ألست أم الطفلين؟؟
- بلى..
- أرأيت, أنا لا أعرفك أنت فقط, بل أعرف كل سكّان الجنة, لدي ذاكرة قوية..
- يبدو أن ذاكرتك أقوى من ذاكرة أقوى كمبيوتر لتستطيعي حفظ أسماء كل أهل الجنة!! بالمناسبة, ما هي مساحة ذاكرتك؟؟ ألف جيجا بايت؟؟
ضحكت لهذا السؤال, وضحكت أنا أيضا عجبا من قدراتها الخارقة.. لو أنني مكانها, لاحتجت إلى خمس سنوات من الدراسة المتواصلة لأستطيع استظهار أسماء كل أهل الجنة, ناهيك عن قصص حياتهم!!
- ها قد وصلنا, هيا اركبي..
يبدو أنه مركز الانطلاق الموحد لكافة أرجاء الجنة, يا لهذه المركبات البديعة, لقد كنت أتمنى عندما كنت في الدنيا أن أتعلم قيادة السيارة لأقتني واحدة من نوعية الليموزين الفارهة.. لقد كنت أحبها كثيرا.. ولكن, الآن زهدت فيها تماما!!
يا للفخامة, أخذت أتحسس مقاعد هذه السيارة, إنها مغطاة بقماش ناعم الملمس جدا, آه إنه حرير
حرير وردي اللون, وأرضها مفروشة بالمخمل العاجي.. وأما نوافذها, فلا نوافذ لها.. بل هي سيارة مكشوفة من كل الجهات..
- ولكن أين السائق؟؟
- السائق هو: رغبتك وأفكارك.
- كيف؟؟
- هذه السيارة ذكية جدا, وهي تفهم ما يريده راكبها, فتلبي رغبته..
وفعلا, هذا ما كان, تحركت السيارة, وحدها بكل هدوء وانسيابية واخذت بحركتها تهفهف علينا نسيمات شذية عطرية, ثم تمهلت قليلا إلى أن توقفت تماما..
- تفضلي يا سيدتي يا أم الطفلين: أنت الآن أمام قصرك..
- فعلا هذه السيارة عجيبة.
- ألم أقل لك, لقد فهمت ما أردته منها فحققته لك حتى دون أن تكلفي نفسك عناء النطق به.
- شكرا لمساعدتك.
- ستظل هذه السيارة أمام قصرك دائما, لتكون في خدمتك متى أردت الخروج.
- حقا؟ هذا جميل.. يبدو انني ومن فرط إعجابي بها سأظل راكبة فيها طيلة الوقت..
ضحكت الفتاة لكلماتي, ثم ودعتني وعادت أدراجها إلى عملها. التفتّ صوب قصري لأدخله, لم أكن قد انتبهت له بعد, فقد أخذت السيارة كل اهتمامي. ما إن تقدمت من الباب المغلق حتى انفتح على مصراعية ودوّى نشيد رائع بأصوات تخلب اللب عذوبة ورقة وجمالا.. لقد اصطف كل خدم القصر من الحور والولدان صفين على جانبي الممر المؤدي إلى القصر, فتلك البوابة لم تكن إلا بوابة الحديقة: حديقة القصر..

أخذت أتهادى بين صفوف المنشدين وكلماتهم البديعة تطربني أيّما طرب.. أحسست برغبة عارمة في ضمّهم وتقبيلهم, وتذكرت أطفالي وزوجي, ليتهم كانوا معي الآن.. ولكن إنّ غداً لناظره قريب..

وصلت إلى باب القصر, باب كبير لم أر مثل روعته وجماله, رأيت الكثير من فنون العمارة والتزيين والديكور في الدنيا و ولكنها بدت لي كخربشات الأطفال أمام عظمة وروعة ما أراه.. لا عجب إنه صنع الله الذي أحسن كل شيء.. قلت في نفسي: سبحان الله..

دخلت إلى الردهة الكبيرة, وأخذت أتجول بين أرجاء هذا القصر الواسعة, أين أنت يا ماري أنطوانيت مما أنا فيه الآن, آه لو علمت ما في الجنة لما قتلت شعبك جوعاً بغرورك ولهوك.. ولما أعجبتك كل زينة الدنيا التي ضيعت بلادك من أجلها..

ها قد وصلت أخيرا إلى غرفتي, استقبلتني ثلاثة من الحور, وأخذن يمازحنني ويضحكنني بعذب حديثهن.. ما أجملهن.. وما أرق طباعهن.. تباركت يا ربي يا أحسن الخالقين.. تمنيت أن أكون مثلهن بهاء وحسنا ورقة, ولكن لا.. الحمد لله على ما أعطاني.. أنا راضية بنصيبي الذي قسمه الله لي.. أما يكفي أنه قد سهّل لي طريق هذا القصر المشيد؟؟

بدّلت ثيابي, وارتديت ثياب النوم المريحة.. وأردت أن أمشّط شعري قبل أن آوي إلى سريري لأرتاح فيه.. ولكن ماهذا؟؟ من هذه التي في المرآة؟؟
أنا!! ولكن ماذا جرى لي..؟؟ لم أكن يوما بهذا البهاء والحسن, هل أجروا لي عمليات تجميل قبل أن يدخلوني الجنة؟؟
ولكن لم يتغير أي من ملامح وجهي, فما الذي حدث؟؟
آه يا ربي.. ماذا تفعل بنا جنتك؟؟ ألن نجد فيها منغّصا واحدا!!

لك الحمد يا رب على ما أعطيتني..
- كيف بمن حلّ عليه رضوان الله تعالى يا حبيبتي يا ريم.. التفت إلى مصدر الصوت فإذا بها إحدى الحوريات.. يا إلهي.. الكل هنا يعرف بماذا أفكر, وليست المركبة فقط!!
- رضوان الله يفعل كل هذه العجائب بالانسان؟؟
- نعم يا سيدتي.. أما تذكرين في الدنيا, كيف أن هناك بشرا تشع وجوههم بالبشر والأنس والرضا, وهناك بشرا يتطاير شرر السخط والغضب من وجوههم تطايرا؟؟
- نعم أنت على حق..
- أما هنا, فالأمر أكمل وأتم, الرضا أصبح يصبغ حياتك كلها من أولها إلى آخرها, فكيف بمن رضي الله عنهم يا عزيزتي؟؟
- مساكين أولئك الذين فضّلوا السخط على الرضا.. فعلا مساكين, سيندمون ندما شديدا حين يأتون إلى هنا, ولكن هيهات أن ينفعهم ندم تلك الساعة!!

ثم توجهت إلى سريري لأستلقي فيه, يا لأغطيته الجميلة الفاخرة, ما هذا؟؟
إنها ليست صور جامدة على الغطاء, إنها لوحات فنية متحركة.. هاهي السمكة تسبح في ماء النهر, وهاهو الطير يغرّد ويقفز من غصن إلى غصن..
 
يا إلهي ما أعجب هذه الجنة.. الحمد لك يا رب أن جعلت لي نصيبا فيها.. الحمد لك..

أخذتني ذاكرتي بعيدا إلى أيام الدنيا.. ورحت أتذكر أيام الشقاء والكفاح والعذاب, لكم تعذّبنا ولكم تألمنا ولكنني لا أجد لهذا الألم أي طعم الآن بعد ما رأيته من نعيم ومن وجوه نضرة.. وبعدما أحسسته من هناء واطمئنان لرضوان ربي عني.. حقا ليس بعد النعيم من شقاء..

كم رأينا قتلا وتنكيلا, كم رأينا أشلاء ودماء.. كم رأينا هدماً وتشريدا.. أين كل هذا الآن!! بل إنني لشدّة ما رأيت من حفاوة ونعيم, أشعر أن ما قدّمته قليل فعلا.. آآآآآآآآآآآه يا ربي ما أكرمك..
ترى ماذا يفعل الناس في الجنة الآن؟؟ هل يشعرون بما أشعر به أيضا؟؟

وما إن تساءلت هذا السؤال حتى انفتحت أمامي شاشة كبيرة فيها عدّة شاشات صغيرة تصوّر كلٌ منها الجنة من زاوية مختلفة, فهذه مجموعة من الناس يتجوّلون في أرجائها المختلفة ويلعبون ويمرحون.. وهذه مجموعة أخرى من الشبان يجلسون تحت ظل شجرة كبيرة لا تستطيع حدود الشاشة الصغيرة أن تحيط بها.. وهاتان فتاتان واقفتان على الجسر الماسيّ تتسامران..

وهذا شاب يتجوّل وحيدا قرب نهر العسل, لماذا هو وحيد؟ ليس من عادة الملائكة أن تترك أحدا وحيدا هكذا, لكن.. يبدو أنه هو من أراد البقاء وحيدا.. وسرعان ما صعد شجرة تفّاح كبيرة ليستقر فوق غصنها الضخم, أسند ظهره إلى جذع الشجرة وحلّق بخياله بعيداً.. بعيداً.. تُرى هل يفكر بما عاشه في الدنيا, وما يراه اليوم ها هنا؟؟ ولكن..

يبدو لي أنني أعرف هذا الرجل حق المعرفة, آآه.. أظنه ذاك الذي أقام الصهاينة ولم يقعدهم, نعم نعم.. إنه المهندس: يحيى عياش مخترع القنابل والسيارات المفخخة!!  آه أيها المهندس, ها قد وجدتك هنا معي في هذا النعيم.. قفزت من سريري الجميل, وأسرعت بارتداء ثيابي, بل إنني لم أسمح حتى لوصيفاتي أن يساعدنني في ارتدائها.. وخرجت مسرعة من قصري, تذكرت أمر السيارة العجيبة, فركبتها.. وإذا بها تنطلق بي بسرعة البرق لتستقر أمام الشجرة التي يجلس عليها المهندس.. رفعت رأسي فوجدته جالسا على الغصن, ولا يظهر منه شيء, يا لضخامة هذا الغصن..

- السلام عليكم أيها المهندس.
- وعليك السلام أيتها الأم الفاضلة..
- هل تسمح لي بمشاركتك جلستك..
- بكل سرور..
- ولكنني أخشى أن افسد عليك خلوتك.
- لا تهتمي, هيا تفضلي واصعدي..

- هل سأتسلق الشجرة!! لم أفعلها عندما كنت طفلة فهل سأفعلها اليوم؟!
- ولم لا.. لن أكون محكومة هنا بماضيّ الذي ولّى وانتهى في الدنيا, وسأفعل كل ما كنت أراه غريبا.. سأتسلق الشجرة..
- وصلت إلى الغصن الذي يجلس عليه المهندس, يا لبديع ما أرى, إنه ليس غصن من خشب بل هي مفارش ووسائد من أوراق الشجرة الغضة ذات الرائحة الشذية, وبسرعة البرق تشكّل مفرش ووسائد جديد لأجلس عليها.. وجلست وانا أتعجب من خلق الله وبديع صنعه..
- يا سبحان الله.. عندما كنت في الدنيا قرأت حديث رسول الله عن أهل الجنة وكيف أنهم يُلهَمون التسبيح كما يُلهم البشر في الدنيا النَّفَس, فقلت في نفسي: يبدو أن أهل الجنة من الطراز الأول في العبادة, ولكنني لم أكن أتخيل أن هذا التسبيح لشدّة إعجابهم ببديع صنع الله عز وجل..!!
- نعم يا ريم, لا تكاد تمرّ ساعة دون أن ننبهر بشيء جديد خلقه الله وأعدّه لنا بيديه الكريمتين..
- الحمد لله أن جعلنا ممن يلهمون التسبيح دائما!! ولكن هلّا أخبرتني عن رحلتك في الدنيا قبل أن تصل إلى هنا.. ومنذ البداية, أي منذ ولادتك, فأنا يهمّني كثيراً أن أعرف النشأة التي نشأتها, لأنها هي التي أوصلتك إلى هنا..
- كما تعلمين فقد وُلِدت في نهايات مارس من عام 1966، و نشأت في قرية "رافات" بين نابلس وقلقيلية, كانت أسرتي عائلة متدينة, وقد كانوا دائما ما يصفونني بأنني حاد الذكاء، دقيق الحفظ، لكنني كنت كثير الصمت، خجولاً هادئاً..
- بدأت بحفظ القرآن الكريم في السادسة من عمري، ثم حصلت في الثانوية العامة على معدل 92.8% في القسم العلمي، فالتحقت بجامعة بيرزيت في قسم الإلكترونيات، ولكنني بقيت على حبي الأول للكيمياء فجعلتها هوايتي..
- ثم أصبحت أحد نشطاء الكتلة الإسلامية، وبعد تخرجي حاولت الحصول على تصريح خروج للسفر إلى الأردن لإتمام دراستي العليا، ولكنّ سلطات الاحتلال رفضت طلبي.. وقد ندموا على ذلك فيما بعد أشد الندم, فقد بلغني أن يعكوف بيرس رئيس المخابرات قال: "لو كنا نعلم أن المهندس سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحًا بالإضافة إلى مليون دولار".

أضحكني كلامه كثيرا, وتذكرت قول الله تعالى:وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (آل عمران:54)
- إي والله, يحسبون أنهم بتدبيرهم يمكّنون لدولتهم, ولا يعلمون أن الله قادر على أن يأتي بنيانهم من القواعد فتخر عليهم الأسقف التي يحسبون أنها تحميهم, إن الله قادر أيها المهندس أن يجعل تدميرهم في تدبيرهم.. سبحان القادر القهّار المنتقم..
- نعم, سبحانه.. ما أعظم شأنه...!!
- ثم ماذا؟ ماذا بعد أن منعوك من السفر لإكمال دراستك؟
- طبعا لم أستطع أن أبقى مكتوف اليدين متفرجاً على أبناء شعبي تقتلهم غطرسة عدو لا يعرف الرحمة, فما إن بدأت الانتفاضة في عام 1987 حتى وجدت الفرصة سانحة لأشارك بما استطيع في رفع الظلم عن بلدي وأهلي, فكتبت رسالة إلى كتائب الشهيد عزّ الدِّين القسَّام أوضح لهم فيها خطةً لمجاهدة اليهود عبر العمليات الاستشهادية، فأُعطيت الضوء الأخضر، وأصبحت مهمتي هي: إعداد السيارات المفخخة والعبوات شديدة الانفجار.

وبقيت أؤدي هذه المهمة إلى أن فجّر "باروخ جولدشتاين" رصاصاته في رؤوس الساجدين في الحرم الإبراهيمي في رمضان عام 1994م, عندها بدأتُ ردودي على هذه المجزرة, وقد آلمت اليهود كثيراً, فبعد أربعين يوماً فقط من هذه المجزرة توجه "رائد زكارنة" (عكاشة الاستشهاديين) بحقيبة من حقائبي في مدينة العفولة؛ ليفجّرها ويمزق معه ثمانية من الصهاينة ويصيب العشرات.

وبعد أسبوع تقريبًا فجَّر "عمار العمارنة" نفسه؛ لتسقط خمس جثث أخرى من القتلة. وبعد أقل من شهر عجَّل جيش الاحتلال الانسحاب من غزة، ولكن في 19-10-94 انطلق الشهيد "صالح نزال" إلى شارع ديزنغوف في وسط تل أبيب ليحمل حقيبة أخرى من حقائبي ويفجرها ويقتل معه اثنين وعشرين صهيونيًّا. وتوالت صفوف الاستشهاديين لتبلغ خسائر العدو في ما أطلقوا عليه اسم "عمليات المهندس عياش" في تلك الفترة 76 صهيونيًّا، و400 جريح.

- ولكن, ألم يفطن الصهاينة إليك؟ أقصد.. ألم تتعرض للملاحقة؟
- نعم بالتأكيد.. بل لقد بدأت مخابرات العدو الصهيوني بمطاردتي منذ عام 1993
- إذاً, كيف استطعت تنفيذ كل هذه العمليات؟
- ما ظنك يا ريم بالله تعالى وهو يرانا نجاهد في سبيله ونقدم أرواحنا ونبذل دماءنا له فقط ليرضى عنا؟ هل تُراه يتخلّى عنا؟ حاشا وكلا, بل هو الذي قال:وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم:47)
طبعا توكُّلي على الله تعالى لم يمنعني من اتخاذ أسباب الحيطة والحذر, وللحق.. فقد كانت سنوات لمطاردة تلك عصيبة حقاً, ولكنني بعون الله استطعت أن أفلت منهم..
- وكيف كان حال أهلك؟ والدك ووالدتك؟ يبدو أن قلوبهم كانت تنفطر عليك شوقا وألماً؟
- نعم, ولا تنسي زوجتي وأطفالي أيضاً..
- هل كنت متزوجاً؟
- نعم, لقد تزوجت من ابنة عمتي بعد تخرّجي من الجامعة, ورزقني الله بالبراء, وبيحيى قبل استشهادي ببضعة أيام..
- يبدو أن زوجتك هي الأخرى طراز فريد من النساء لتستطيع احتمال بعدك عنها والخطر المحدق بك على مدار الأربع وعشرين ساعة..!!
- نعم, جزاها الله كل خير, لقد كانت نعم الزوجة التي تعين زوجها ولا تعيقه, بل تدفعه للأمام, حتى ولو كان ذلك على حسابها ليس كزوجة فقط بل و كإنسانة أيضاً.. لقد تحمّلت الكثير, كانت هي الأخرى تتخفى دائما عن كل من حولها, وذلك حتى لا يشك بها أحد إذا أتت للقائي, مع أنني لم أكن أستطيع لقائها أكثر من سويعات كل أسبوع..

كانت هي أيضاً تحيا حياة مليئة بالقلق, فهي أيضاً مستهدفة من العدو الصهيوني, إذ أنهم لا يتورعون عن اعتقال النساء ليستخدموهن كوسائل ضغط على أقاربهم المطلوبين من الرجال.. فكانت تتنقل كثيراً من بيت لآخر, ولا تمكث في بيت واحد أكثر من أسبوع, وتنام والقنابل اليدوية فوق رأسها، وسلاحها بجوارها، وخاصة أنها كانت تتقن استخدامه وتتقن كيفية تحديد الهدف؛ لقد كانت حياتها معرضة للخطر في كل لحظة، ولكنها ما تذمّرت يوماً ولا اشتكت, جزاها الله كل خير عني وعن الاسلام وعن فلسطين كلها..

- نعم الزوجة والله, لقد صدق الحبيب المصطفى حين قال: "الدنيا متاع, وخير متاعها المرأة الصالحة".. ولكن, إذا كنت أنت وزوجتك وأهلك قد اتخذتم كل التدابير اللازمة في الحيطة والحذر والتخفي, فكيف وقعت في أيديهم أخيرا؟
- ماذا أقول يا ريم, هل ألعن ضعاف النفوس الذين وشوا بي؟؟ أم أشفق عليهم من هذا الضياع الذي يعيشونه في الدنيا والذي سيستمر معهم ضياعاً أيضا في الآخرة!! أنت لا تتخيلين مدى الرعب الذي كان يبثه اسمي في نفوس الصهاينة, لقد كانوا يرونني أسطورة, بل لقد بلغ الهوس الإسرائيلي ذروته حين قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك إسحق رابين: "أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست". وقال أيضًا:"لا أشك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، وإن استمرار وجوده طليقًا يمثل خطرًا واضحًا على أمن إسرائيل واستقرارها"؛ أما "موشيه شاحاك" وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق فقد قال:"لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عيَّاش إلا بالمعجزة؛ فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حدًّا لعملياته التخريبية".

وأمّا الصحف العبرية فقد كتبت عن مواصفاتي، ونشرت عدة صور مختلفة لي لتحذر الشعب الصهيوني مني تحت عنوان رئيسي "اعرف عدوك رقم 1.. يحيى عيَّاش".

مع أنني انسان عادي جدا, بسيط جدا, لا أملك معشار ما يملكون من تفوق مادي عسكري, ولكنني كنت أملك ما تعجز البشرية كلها عن الوقوف أمامه, لقد كان الله معي, ولهذا لم يجدوا سبيلاً للإيقاع بي إلا أن يشتروا ذمم بعض المقربين مني..

نعم يا ريم, العمالة والخيانة والغدر هي السبب في وقوعي وتمكّنهم مني, بعد أن عجزت كل أجهزتهم ووسائلهم وأعقد تكنولوجياتهم عن تطويقي.. العمالة والغدر ليس لها عند الله إلا مصير واحد, وهو نفس المصير الذي لاقاه أول الغادرون في الإسلام: بنو قريظة.. لا أحسبك تجهلين حكم الله فيهم؟
- كيف أجهله, لقد كان حكما قاسياً, ولكن ما كان يصلح أقل منه ليتناسب مع فداحة الجريمة التي ارتكبوها..
احك لي عن عملية اغتيالك, وعن آخر لحظاتك في الدنيا..

- كانت عملية وضيعة جداً, لقد استغلوا رغبة الابن في أن يسمع صوت أبيه, ورغبة الأب في أن يطمئن على ابنه, فلغّموا جهاز الهاتف النقّال الذي كنت أتكلم فيه, وما إن بدأت حديثي مع والدي في الميعاد المحدد وهو صباح يوم الجمعة من الخامس من يناير 1996م حتى انفجرت العبوة الناسفة لتفجر رأسي معها.. فتنقلني من التعب والنصب إلى الراحة والهناء, لقد أراد الله لي أن أرتاح بعد طول عناء.. ولكنني كنت أريد تقديم المزيد والمزيد لله تعالى, فكل ما أبغيه هو أن يرضى الله عني وأن ألقاه وهو يضحك إلي, ووالله وبعد أن رأيت الجنة وما فيها من نعيم وإكرام ازددت قناعة بقلّة وتواضع ما قدّمته من مهر لها, صحيح أن هذا المهر مختوم بأجزاء من مخّي الذي تناثر في الانفجار, ومصبوغ بدمي الذي أريق يوم اغتيالي, إلا أنه قليل, قليل جدا.. ووالله لوددت أن لي بعدد شعر جسدي أدمغة تنفجر الواحد تلو الآخر في سبيل الله, لما رأيت من حلاوة الشهادة..

- نعم, يا أخي المهندس, والله هذه رغبتي أنا أيضا, بل ورغبة كل من رأيته في الجنة حتى الآن.. ولكنها إرادة الله اللطيف الخبير, لقد كتب أنه من خرج من الدنيا فإنه لا يعود إليها أبداً.. آآآه.. هذه هي مسرحية الدنيا, تتكرر فصولها دائما, ما يختلف فقط هو الأبطال.. فمرة أنت, ومرة أنا والله أعلم من سكون في المرة القادمة..
- عذراً هل لي بالانضمام إليكما؟
رفعت رأسي لأرى صاحب السؤال وإذا به..

وإلى اللقاء في الرسالة القادمة إن شاء الله..

اقرأ أيضاً
رسائل من الجنة. .(1)/ رسائل من الجنة. .(2)/ رسائل من الجنة ...(3)/
رسائل من الجنة ...( 4)/ رسائل من الجنة (5)

 



الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/01/2005