الأخت الفاضلة ........... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ذكرتني عبارتك "أفكار تقتلني" بما ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحدث نفسي بالشيء , لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أتكلم به. قال: الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة", وذكرتني أيضا بما جاء في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال : " جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال وقد وجدتموه ؟ قالوا نعم, قال ذلك صريح الإيمان", وفى الرواية الأخرى: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان" وفى حديث آخر : " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق, فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله " ... وفى الرواية الأخرى " فليستعذ بالله ولينته " . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك صريح الإيمان ومحض الإيمان يشير إلى استعظام الشخص الموسوس لهذا الأمر ورعبه منه وتأزمه به فهذا لا يأتي إلا من نفس مؤمنة تعرف قدر الله, وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن يئس من إغوائه, فينكد عليه بالوسوسة والمفهوم من هذه الأحاديث أن الأفكار الوسواسية التي تراود الإنسان فيما يختص بالله أو رسله أو دينه ليست ناقضة للإيمان ولا منتقصة منه بل هي صريح الإيمان ودليل على تمكنه من القلب لأن الملحد والمشرك لا يجد حرجا في القدح في هذه الأمور ولا يجد في نفسه ألما منها, وإنما القلب المؤمن هو الذي يتألم من هذه الخواطر, والحديث أيضا ينبهنا أن لا نأخذ هذه الخواطر مأخذ الجد فنناقشها أو نفندها, وإنما أمرنا أن نهملها وننصرف عنها ما وسعنا ذلك . والوسواس القهري كمرض يختلف عن وسوسة الشيطان ففي الأول نجد إلحاحا شديدا للفكرة لا يستطيع الإنسان الفكاك منه والفكرة الملحة تكون غير مرغوبة أو مقبولة من الشخص ذاته على الأقل على مستوى الوعي, أما وسوسة الشيطان فهي تأتى في أشياء ترغبها النفس وهى – أي الوسوسة – تزول بمجرد الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم أي أنه يمكن التحكم فيها بالإرادة. والأفكار الوسواسية تقتحم وعيك رغما عنك وضد إرادتك وأنت تنكرينها وتعلمين بسخفها ومع هذا لا تستطيعين دفعها, وهذه هي خصائص الوسواس القهري, ومادام الأمر كذلك فإنه لا توجد مسئولية شرعية عليك تجاه هذه الأفكار لأن المسئولية تترتب على الأفعال الإرادية التي يملك الإنسان فعلها أو دفعها, وكما قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". بل إن الوسواس باعتباره ابتلاءً لك وأنت تعانين منه فيرجى أن يثيبك الله عليه مثل أي ابتلاء. والوسواس القهري مرض نفسي معروف له أسباب بيولوجية في المخ (أهمها نقص السيروتونين) وله ارتباطات وراثية وعوامل بيئية يضيق المجال عن الدخول في تفصيلاتها. وقد ثبت أن بعض العلاجات لها تأثير إيجابي في هذه الحالة ومنها مجموعة ال"ماسا" (SSRIs) والتي ينتمي إليها عقار ال "سيبراليكس" الذي وصفه لك الطبيب ومنها العلاجات النفسية والسلوكية التي تساعد على وقف التفكير الوسواسى ووقف الطقوس الوسواسية . أي أن الوسواس القهرى مرض له علاج ولكن علاجه يحتاج لوقت وجهد وصبر خاصة أن معظم الحالات تصل إلى الطبيب النفسي بعد سنوات عديدة وبالتالي تكون حالات مزمنة, ومع هذا فعلاجها ممكن ووسائل العلاج متعددة يختار منها المعالج أبسطها ثم يزيد الجرعة أو الأنواع تدريجيا حتى يحدث التحسن, ومن المفيد جدا إعطاء العلاج الدوائي لفترة لا تقل عن سنة ويصاحب ذلك برنامجا للعلاج السلوكي . وفى بعض الحالات التي تقاوم العلاج ربما يلجأ الطبيب المعالج إلى استخدام جلسات تنظيم إيقاع المخ (ECT) وهناك أيضا بعض المحاولات للعلاج الجراحي ولكن نتائجها مازالت غير مشجعة على الاستخدام الواسع. والوسواس لا يؤدى إلى الجنون كما يعتقد بعض الناس, بل هو في رأى بعض العلماء دفاع ضد الجنون. وأنت تخشين من إصابة ابنتك بالوسواس مثلك وهذا ليس حتميا لأن الأمراض النفسية كلها ومنها الوسواس القهرى متعددة الأسباب والعوامل وليست متوقفة على العامل الوراثى وحده والذي يشكل نسبة بسيطة جدا في حالة الوسواس. وإذا أردت الإطلاع بتفصيل عن هذا الموضوع فأحيلك إلى كتاب الأخ العزيز الأستاذ الدكتور/وائل أبو هندي وهو سفر عظيم في موضوع الوسواس القهرى باللغة العربية, وهو من إصدارات عالم المعرفة بالكويت عدد 293 لشهر يونيو 2003 , وأيضا كتاب الأخ الفاضل الدكتور محمد شريف سالم وهو يركز على التطبيقات العلاجية النفسية والسلوكية والشرعية لمرض الوسواس القهرى، كما يمكنك أن تجدي الكثير على مجانين، في باب نطاق الوسواس القهري، فتصفحي ما تجدين فيه. وبما أن الوسواس القهرى يصنف ضمن أمراض القلق النفسي فهذا يفسر عصبيتك الشديدة منذ الطفولة ويفسر أيضا زيادة الأعراض في ظروف التوتر والضغط النفسي, أما عن مواصفات الإنسان الذي يصاب بهذا المرض فليس بالضرورة أن تكون هناك مواصفات خاصة له, ولكن في بعض الحالات يكون المريض ذا شخصية وسواسية قبل المرض بمعنى أنه يحب النظام والدقة في كل شيء ويهتم بالتفاصيل الدقيقة في الأشياء ولديه ضمير صارم يحاسبه على كل هفوة ويتميز أيضا بالعناد والصلابة وأحيانا بالبخل والحرص . باختصار أقول لك في النهاية أن الوسواس القهرى مرض نفسي معروف أسبابه وعلاجه وأن الشفاء منه ممكن بإذن الله مع استخدام العلاج الدوائي والعلاج السلوكي لفترة كافية (70% من الحالات تتحسن بشكل جيد و 30% من الحالات تتحسن بشكل جزئي), وأنك غير مسئولة شرعا عن الأفكار الوسواسية الدينية بل يرجى أن تثابي عليها كأى ابتلاء . وأسأل الله لك الشفاء والتوفيق. |