الأخت العزيزة أهلا وسهلا بك على مجانين وشكرا جزيلا على ثقتك، ليس في بلواك ما يضحك وإن كان فيه ما يستدعي الاستغراب، فأن تأكلي الصابون، هو اضطرب نفسي نسميه العقعقة Pica، وهو الأكلُ القهري لما لا يؤكل عادةً واتفاقًا في مجتمعٍ ما في وقتٍ ما، أو هو التوق الملح المنحرف للشهية False or Craving Appetite، وهو أحد اضطرابات نطاق الوسواس القهري، أي أن للأمر علاقة بالوسواس مع الأسف رغم اعتبارك لنفسك بعيدةً عن الوسوسة، وكي أطمئنك منذ البداية فإن لمعاناتك هذه حلا وشفاءً نسأل الله أن يجعله شفاء لا يغادرُ سقما، فعلاج حالات العقعقة ممكن، ولعلك إن قرأت ردنا السابق أكل الثلج عقعقة؟ ربما على استشارات مجانين، ستعرفين كثيرا من المعلومات عن ذلك الاضطراب النفسي ولماذا أسميناه أنا وأخي ابن عبد الله عقعقةً، بينما أطلق عليه أجدادنا من المسلمين أكل الطين، فقد وصفت حالات ولعٍ بأكل الطين قديما في تراثنا، ولم يكن على أيامهم لا صابون ولا ثلجُ ولا أعواد كبريت، لكي يختاروا اسما أعم.بالطبع أنا لا أعرف كثيرا عن معلومات الأسرة والمحيطين بك عن معاناتك، وإن كنت أنصح بعدم كتمان سرك هذا أكثر من ذلك لأن الأمر يستلزم التعجل في العلاج، ولك أن تتخيلي أن الأغشية الرقيقة التي تبطن أحشاءك الهضمية ليست أحسن حالا من لسانك المحترق، وحلقك الملتهب، فكذلك قد يكونُ المريء، وكذلك المعدة، وهناك أضرار تندرجُ تحت ما قد تحدثه تأثيرات تعرض الأنسجة لتركيزات قد تتفاوت من المنظفات الصناعية بمكوناتها المتفاوتة وإن كان أصلها صودا كاوية NaOH أي أوكسيد الصوديوم المائي وزيت)، صحيحٌ أن حال أنسجة الجزء العلوي من القناة الهضمية قد يكونُ أسوأ إذا كنت تطيلين من المضغ أو الاستحلاب أو (أو أيٍّ من الأفعال القهرية التي لم تذكري شيئا لنا منها)، وبالتالي تطيلين مدة تعرض أنسجة اللسان والحلق لتلك المنظفات، أكثر من تعرض المريء أو ما يليه، إلا أن أجزاء كثيرة من تلك الأنسجة الحشوية أيضًا قد يلحقها ضررٌ ، خاصةً وأنها تكونُ أرق من جدران الفم مثلا ومحمية بالأحشاء مقارنة بالفم أو اللسان، بمعنى آخر ليس الأمر يا أختنا في الله مجرد التهاب اللسان واللوزتين، وإنما هو داء باطني أعمق يستلزم العلاج.
وأما كلام الطبيب الباطني فمع الأسف جاء معبرا عن أفكارٍ قديمة بعض الشيء عن العقعقة التي تكونُ المواد فيها من الأصل لا تحوي عناصر يحتاج إليها الجسد البشري لأنها قليلة في بيئته، فأكل الطين قد فسر قديما كما اشتهرَ عنه في الأطفال بأنه ينتجُ عن فقر الدم المرتبط بنقص عنصر الحديد Iron Deficiency Anemia، أو بنقص عنصر الزنك (والطينُ غني بهذين العنصرين)، وكذلك فسر أكل الجير والطباشير بنقص عنصر الكالسيوم (والموجود في الطباشير وفي الجير)، وأوِّلَ ذلك كله على أن الطفل يشتهي مادةً تحتوي على العنصر الذي يحتاجُ إليه جسده، إلا أن الأبحاثَ الأحدث بينت أن الأمورَ ليست بهذه البساطة إذ أن العَقْعَقة وجدت على سبيل المثال في أطفالٍ غير مصابين بفقر الدم، كما أن سلوك أكل الطين بقيَ في الكثيرين من الأطفال حتى بعد علاجهم من نقص الحديد ومن فقر الدم.، بينما تبين بعض الدراسات ما تزال ارتباط فقر دم نقص الحديد بشكل آخر من أشكال العقعقة هو أكل الثلج Pagophagia، فمنذ أواخر الستينات ظهرتْ في الدوريات الطبية أبحاثٌ تبينُ ارتباطَ أكل الثلج بفقر دم نقص عنصر الحديد، وكذلك اختفاءَ هذا النوع من سلوك الأكل الغريب بعد تصليح النقص وعلاج فقر الدم الناتج عنه رغم أنهُ لم يكن معروفًا على وجه التحديد في تلك الدراسات هل تسببُ أكلُ الثلج في إحداثِ فقر الدم أم تسببَ فقر الدم في إحداثِ سلوك أكل الثلج أو العَقْعَقة (باعتبار الثلج مادةً غير مغذية) وواضح أن الطين أغنى من الثلج في محتواه من الحديد على الأقل، إلا أن أكلَ الثلج فقط هو النوعُ الوحيد من العَقْعَقة الذي ما زال يبدو مرتبطًا بنقص الحديد في الجسد ومستجيبًا للعلاج بإصلاح النقص لكنَّ ذلك غير صحيحٍ بالنسبةِ لأشكال العَقْعَقة الأخرى التي قد لا تستجيب لا للعلاج بالحديد ولا بغيره من العناصر، وأما أنت فتأكلين مزيجا من الصودا الكاوية والزيت، وليس هناك أصلا نقص معين نتعرضُ له كبشر في غياب الصودا الكاوية، ولا حتى الزيت خاصة في عصرنا. رغم ذلك فُسِرَ لك الأمر باستعجال من الطبيب، وها أنت تنتظرين وكأن النقص المدعى في عناصر جسدك لا ينتهي!، وتعُدين القصة قصة غريبة وقابلة لأن يقابلها الآخرون بالضحك وعدم التصديق وتسمينها: قصة غريبة ولكنها حقيقية، وأنا هنا سأذكر لك -تخفيفا عنك- معلومة عن أكل الطين الأبيض في أمريكا، ففقد كان سلوكًا شائعًا في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين أن تجد من يبيعون ومن يشترون حقائب محملة بالطين في مواقف القطارات، ولم يكن غريبًا أن يرسل الأهل لقريبهم الموجود في شمال البلاد طردًا بريديا يحتوى على قطع صغيرة من الطين من بلدته الأصلية ، وما يزالُ أكل الصلصال الأبيض Kaolin منتشرًا في بعض الولايات الأمريكية كولاية جورجيا وغيرها، ليس غريبا إذن أن يأكلَ أحد ما لا يؤكل، ولكن المشكلة في حالتك أعمق من ذلك لأنك لو فكرت لوجدت الصابون محور حياتك الآن، فأنت موسوسة به كما أراك.وأراك تصفين في إفادتك ذلك الولع الغريب بما يضرك من سلوك تجدينه ممتعا في وقته ومخلفا للألم النفسي والجسدي من بعده، ومن المفارقات التي أجدها موحية في إفادتك استخدامك للوصف يحترق، فمرةً استخدمته لتعني به الاحتراق من الشوق في لحظات التوق الملح (الاشتهاء) وذلك في قولك - وحلقي يحترق من الشوق-، ثم مرةً بعد سطرٍ واحد استخدمته لوصف احتراق الحلق الملتهب من آلام التهاب اللوزتين، وبينما الاحتراق الأول احتراقٌ لذيذٌ بطعم الشوق تمثل اللحظات فيه جمال المشاعر المرتبطة بالنزوة، وخيالات محببة غالبا بشأنها، فهو احتراق معرفي شعوري ممتع، مما يدفعك إلى مزيد من التهام الصابون، بينما هذا هو حال استخدامك الأول للكلمة، نجدُ الاحتراق في استعمالك الثاني احتراقا جسديا شعوريا مؤلما بسبب التهاب الحلق واللوزتين، وكأنني بالضبط أقول لك كفي عن حرق جلدك بالكبريت يا ابنتي فتقولين لي آه لو تدري كم تكونُ ممتعة لحظات الحرق!، ألست تقولين: بالطبع هناك أذية تحصل في فمي، ولكني أشعر بشعور جارف جارف وكأنني (أتشهى) بقوة فظيعة إلى الصابون ..؟ ومن الواضح يا ابنتي أن كنت مولعة بالصابون منذ طفولتك، وأن الأمر بدأ معك بالتدريج من الوسوسة في صورة الاهتمام المفرط بالصابون وجمعه وتخزين نماذج- من أنواعه، إلى مرحلة الوسوسة في صورة الولع برائحة الصابون، وانتهيت إلى تذوق كميات منه، صلبا أو سائلاً، وأنت في كل ذلك موسوسة التخيلات والتصورات وموسوسة الأفعال تعيدينها وتكررينها وتشعرين إن حاولت منع نفسك بأن لها قوةً قهريةً عليك، وهكذا حال مرضى العقعقة من ذلك النوع الوسواسي، فهنالك أنواع أخرى ربما، خاصة وأن العقعقة كاضطراب أكلٍ نفسي غير مدروسة بالشكل الكافي بعد لأسباب يضيق المقام هنا عن شرحهاولكنني أكلمك عن قليل من الشحيح الموجود علميا عن الاضطراب، وعن خبرتي الشخصية مع حالات قليلة -لأن الحالات التي تصل الأطباء عموما قليلة، والتي تصل الطبيب النفسي أقلَّ خاصة في بلادنا-، لكنني رغم ذلك أستطيع القول بأنني باستثناء بعض الأطفال لأنهم لم يتمكنوا من الشرح لي جيدا ربما، أستطيع أن أعتبر العقعقة اضطرابا ضمن اضطرابات نطاق الوسواس القهري، وعلاج الحالة ممكن ولكنه ليس فقط مجرد علاجٍ عقاري، فالأمر يحتاج أحيانا إلى علاج سلوكي أيضًا، ذلك أن طريقة العلاج التي جربتها بنفسي وأنعم الله علي وعلى مرضاي بالشفاء كانت نفس طريقتي في علاج مرضى اضطراب الوسواس القهري. أتمنى منك إذن أن تصارحي أهلك بضرورة العلاج لدى الطبيب النفسي، وأهلا وسهلا بك دائما على مجانين، فتابعينا بالتطورات.