حين قرأت المتابعات والمشاركات على مشكلة "غشيان المحارم بين الجهل والجنسية المثلية الكامنة" شعرت بارتياح وقلق فى ذات الوقت, أما الارتياح فسببه هو تلك المشاعر العارمة التي عبر عنها القراء الذين صدمتهم أحداث المشكلة, وهذا يعنى أن مجتمعاتنا مازالت بخير حيث تستنكر وتستقبح تلك الأفعال والممارسات التي تنتهك حواجز الدين والعرف والخلق القويم وتلوث وعيَ من يقرأها أو يسمعها لذلك يهب منتفضا ورافضا, ولا يشعر بقيمة ذلك إلا من عايش مجتمعات أخرى ورأى كيف أنهم أصبحوا لا يستنكرون هذه الأشياء بل يعتبرونها خيارات شخصية لا تخضع للقوانين أو الأعراف (أو لا يجب أن تخضع فى نظرهم).
أما ما أقلقني فهو لغة الخطاب التي استعملها أحد المشاركين فى سب وقذف صاحب المشكلة والمستشار والقائمين على الموقع والمجتمع وكل شئ, تلك اللغة التي جعلت الإنترنت يحول الرسالة أوتوماتيكيا إلى أل Junk Mail لكثرة ما تحتويه من شتائم, وإذا كان صاحب الرسالة الغاضبة يستنكر ما حدث فمن حقنا نحن أيضا أن نستنكر أسلوب خطابه لأننا فى النهاية نود الوصول إلى حالة من نظافة القلب والضمير واللسان والسلوك, وهى أشياء شديدة الارتباط ببعضها البعض, ومع هذا فلم تخل رسالته من إيجابية وهى الغيرة الشديدة على محارم الله وعلى أخلاقيات المجتمع, وندعو الله للجميع بالهداية والتوفيق .
وقد ورد في رسالة الأخت القارئة فكرة التواطؤ اللاشعوري من الأب, وفكرة أنه يمكن أن يكون راضيا عن ذلك ومستمتعا به (كما ذكرت القارئة), وهذا تأكيد لما ذكرناه حول فكرة الجنسية المثلية الكامنة لدى الأب, ذلك الاحتمال الذي ربما يفسر قبوله لما يحدث وتشجيعه عليه بشكل خفي مدفوع برغبات جنسية مثلية قادمة من منطقة اللاشعور وهى توجه سلوكه دون أن يدري,على الرغم من إعلانه (الشعوري) عن رفض ما يحدث وضيقه به والبحث عن مخرج من هذه المشكلة, فهو بعقله الواعي يرفض ولكن بعقله اللاوعي يرضى، وهذه الازدواجية في الرؤية وتلك المشاعر المتناقضة هي التي سمحت للمشكلة أن تستفحل إلى هذا الحد.
وإذا صح هذا الاحتمال فإن الأب هنا يحتاج لعلاج نفسي فردي يبصره بكل ذلك ويبصره بمسئوليته كأب في حماية كيان الأسرة ويصحح مفاهيمه التي تبناها من أن السماح للابن بالاعتداء على أمه يحمى أخته من اعتدائه لأن الحقيقة أن السماح للابن بذلك يفتح شهيته للاعتداء على الجميع بما فيهم الأب .وكما ذكرنا فإن الأسر ة كلها تحتاج لعلاج حيث قد أصابها خلل جسيم من جراء انحراف الابن ووقاحته وتواطؤ الأب وضعفه .
أما عن فكرة أن تكون الحكاية كلها ملفقة (أو حكايات أخرى تأتى عن طريق الاستشارات), فهذا لا يغيب عن وعي المستشارين فهم يعملون في هذا المجال منذ سنوات طويلة ولهم خبرة عميقة بسلوك البشر, ويقابلون هذا الموقف في حياتهم العملية كثيرا, ولكن هناك ما يسمى بالحقيقة النفسية مقابل ما يسمى بالحقيقة الموضوعية, فنحن في مجال العلوم النفسية نهتم بالحقيقة النفسية التي يشعر بها الشخص (بصرف النظر عن كونها حدثت حقيقة أو هي من وحي إدراكاته وخياله) لأنها تعبر عن شيء بداخله يؤثر في سلوكه, أما الحقيقة الموضوعية فيهتم بها أكثر وكلاء النيابة والمحققون لأنهم سيصدرون حكما على أحداث لابد وأن تكون قد وقعت, فهم لا يتعاملون مع النوايا والأحاسيس والتخيلات وإنما يتعاملون مع السلوك الظاهر ودوافعه التي يتوصل إليها من دلائل واقعية كأقوال الشهود أو القرائن.
إذن فالمستشار أو المعالج النفسي ليس مطالبا بالتحري عن صحة كل كلمة أو كل حدث يذكره له المريض وليس مطا لبا باستدعاء شهود للتدليل على صحة ودقة ما حدث, فما يذكره المريض هو حقيقة نفسية تمثل رغبات وتوجهات وتمنيات ونماذج سلوكية بداخله ربما تكون قد تحققت جزئيا أ و كليا, وربما ت كون مشروعات سلوكية مستقبلية . وهذا لا يعني إهمال المستشار والمعالج النفسي للحقائق الموضوعية, فهو في أغلب الأحيان يستمع للشكوى من الأهل والمرافقين للمريض ليعرف الصورة منهم كما عرفها من المريض ثم يرى مدى التطابق أو التباعد بين رواية المريض ورواية أهله ومرافقيه وهذا يعطى دلالا ت مهمة خاصة في حالات المرضى المصابين بضلالات ( وهامات ) ويدّعون شيئا لم يحدث في الواقع, ولكن مع هذا ومع علمه بأن ما يقوله المريض لم يحدث في الواقع إلا أنه يعتبره حقيقة نفسية بالنسبة للمريض لأنه يستجيب لها ويتصرف بناءا عليها.
وقد حدث أن إحدى مريضات فرويد قد ظلت تحكي له أشياء كثيرة عن حياتها فى جلسات متتالية, وفى إحدى الجلسات قالت له : " سيدي لقد كنت أخدعك طوال هذه الفترة فكل ما حكيته لم يحدث في الواقع وإنما هو من وحي خيالي ....!! " فرد عليها فرويد قائلا: " ولكن كونك قلت ما قلت فهذا يعنى أنه بداخلك بصر ف النظر عن حدوثه من عدمه, وهو يؤثر في سلوكك كما لو كان قد حدث, وهذا ما يهمني" . خلاصة الأمر أن المعالج النفسي يختلف دوره عن دور المحقق أو القاضي فلكل منهما دائرة اهتمامه وفلسفة عمله .
وقد يسأل سائل وما وجه الاستفادة من نشر مثل هذه الأشياء على الناس فتجرح مشاعرهم وتهدد ثوابتهم ؟ ... ولقد ناقشنا هذا كثيرا في لقاءات علمية فوجدنا أن النشر على مواقع الإنترنت لهذه المشاكل النفسية والاجتماعية – على الرغم مما تحويه من أحداث صادمة للوعي الديني والاجتماعي – أفضل من السكوت عليها وتركها تسرح في وعي الناس ولا وعيهم وبيوتهم وغرفهم المغلقة, وإذا أخذنا هذه المشكلة كمثال لوجدنا أن فيها استفادات كثيرة .
( برغم ما فيها من صدمات وبصرف النظر عن حدوثها فى الواقع أو فى خيال صاحبها ) نذكر منها :
1-ارتداء بعض الأمهات أو الأخوات لملابس رقيقة أو شفافة أو تظهر أ جزا ء من الجسم لا يجب أن تظهر وتأثير ذلك على من يعيشون معها في البيت, وهذا أمر ربما يستهين به الكثيرون ويحدث من جرائه مشكلات عديدة .
2-حدود ا لعلاقات داخل ا لأسرة ووجوب الالتزام بآداب الاستئذان وآداب التعامل بين كل أفراد الأسرة كما أوضحها الدين الحنيف وارتضاها أصحاب الخلق القويم .
3-وجوب استشارة علماء الدين والنفس والاجتماع فيما يعن من مشكلات في بدايتها قبل أن تستفحل وتهدد كيان الأسرة كما حدث .
النقطة الأخيرة في هذا الرد والتي يعيبها علينا أحد المشاركين وهو أننا لم نعنف ونقسو على السائل ولم نعطه درسا لا ينساه في الأخلاق ولم نسبه بما يستحقه ( في نظره هو ), فإن هذا كله يخضع لآداب مهنة الطب ولأخلاقيات الإسلام, فلسنا في وضع الحكم على الناس أو وصمهم أو لعنهم, وإنما نحن نقدم التفسير والإيضاح والإرشاد والمساعدة مع احترام للسائل ومساعدته بكل ما نملك من وسائل المساعدة مهما كانت أخطائه أو زلاته ,
ونحن نذكر دائما حديث الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفسا ثم ذهب إلى عابد يسأله عن التوبة فقال له : " ليس لك من توبة فقتله وأ كمل به المائة ", ثم ذهب بعد ذلك إلى عالم فقال له ذلك العالم : "ومن يمنعك منها" فتاب الرجل وقبل الله توبته,
ونتذكر قصة الشاب الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم يقول له : " يا رسول الله إئذن لي في الزنا " فهب الجالسين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكرين جرأة هذا الشاب على مجلس رسول الله وهيبته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من نهره أو إيذائه, وقال له أدنه فدنا, فقال له هل ترضاه لأمك قال لا, قال ولا الناس يرضونه لأمهاتهم, ثم كرر عليه السؤال هل ترضاه لأختك ... هل ترضاه لعمتك ... هل ترضاه لخالتك ... هل ترضاه لابنتك .... وفي كل مرة كان يجيب الشاب بلا, والرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد على إجابته بقوله : ولا الناس يرضونه, ثم وضع يده على صدره ودعا له .... فخرج الشاب وليس شيئا أبغض إليه من الزنا ...
وهذا مثال للعلاج النفسي النبوي نرى فيه كيف استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المعرفية ( من إحداث صور ذهنية لدى الشاب توازن سورة شهوته الجنسية ) والوسائل الوجدانية من تقريبه منه ووضع يده على صدره ) والوسائل الروحية ( من الدعاء له ), ونتذكر أيضا قاعدة طبية كان يعلمنا إياها أساتذتنا وهى أن المريض يحترم والمريض لا يعاقب . فسواء كان صاحب الرسالة مخطيء أو مريض فمن حقه علينا المساعدة, ومن حقنا نحن بعد ذلك أن نستنكر مثل هذه الأشياء ونعمل على محاصرتها حتى لا تتفشى في مجتمعاتنا كي نعيش حياة نظيفة طاهرة .
وأخيرا أشكر باسمي وباسم إدارة الموقع كل من تحمس وشارك, وهذه علامات صحية ترتقى بنا إلى ما نرجوه ويرضاه لنا الله سبحانه وتعالى . |