الأخ العزيز ...... أبو عبد الملك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نشكر لكم غيرتكم على حدود الله وحرصكم الشديد على أخلاق الإسلام النظيفة وعلى طهارة صفحات هذا الموقع وغيره ممن يتصدون للمشكلات النفسية والاجتماعية, وأود أن أخبرك أنه في أكثر من مناسبة كنا مشغولين بما شغلك في هذا الأمر: أننشر ما يصلنا ونرد عليه مهما كان بهدف تصحيح المفاهيم وإزالة الغموض وبيان الحق مع ما في هذا النشر أحيانا من قصص وحالات تعكس أوضاعا تؤلم النفوس الطاهرة؟ ... أم نسكت عن ذلك حتى نتجنب شبهة الوقوع أو المشاركة في نشر الفواحش؟ ...
وبعد مناقشات طويلة استعنا فيها برأي أهل الاختصاص من أصحاب العلم الشرعي خلصنا إلى أن هناك بعض الحالات نرد عليها بشكل شخصي ولا تنشر على الموقع لأن فيها إشاعة للفاحشة وليس من وراء نشرها أي فائدة للقارئ, وهناك حالات أخرى ربما تكون صادمة للضمير وللخلق القويم ولكننا نرى مثيلات لها بأشكال مختلفة في ممارساتنا لمهنة العلاج النفسي ونرى –مجتهدين- أن التنويه عنها وإيضاح دوافعها الخفية من باب اكتشاف النار وهى شرر قبل أن تشب في الهشيم .
والحالة التي قدمناها تعكس أخطاءً في الفهم وتجاوزات في السلوك والعلاقات الأسرية ويكمن وراءها الجهل من ناحية ودوافع الجنسية المثلية من ناحية أخرى, وكل هذا يحتاج لأن يوضع في موضعه لكي يدرك كل فرد في هذه الأسرة وفى كل أسرة مشابهة أو مقاربة حدود ودوافع تصرفاته, فالأب يتصرف بدوافع كامنة ربما لم يستوضحها من قبل, ويسمح بما تأباه النفوس الكريمة بسبب هذه الدوافع من ناحية وبسبب جهله بعواقبها أو تجاهله لها, والأمهات والأخوات يخطئن حين يظهرن في بيوتهن بملابس غير مناسبة على زعم أنه لا يوجد غريب في البيت, والأبناء يتجاوزون الحدود بالضغط والتهديد والابتزاز, وهذه الأخطاء تحدث في كثير من البيوت بدرجات متفاوتة, ولذلك وجب التنويه والإيضاح بغية الوقاية والفهم .
وأنت تعرف قصة الشاب الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "يا رسول الله ائذن لي في الزنا ... فانزعج صحابة رسول الله رضوان الله عليهم من تجرؤ هذا الشاب على مجلس النبوة, وهموا بأن ينهروه, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك, وتوجه إلى الشاب وقال له: أدنى (أي اقترب), فلما دنا قال له : أترضاه لأمك؟ قال الشاب لا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يرضونه لأمهاتهم, ثم عاود سؤاله: أترضاه لخالتك ؟ قال الشاب لا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يرضونه لخالاتهم ........
وهكذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد عليه هذا السؤال مستخدما درجات مختلفة من القرابات (العمة والأخت والابنة), وكان الهدف من ذلك إحداث صور ذهنية سالبة بالنسبة لشهوة الزنا, لأن هذا الشاب قد غلبته شهوة الزنا , وهو يعرف حرمتها وإلا لما جاء للرسول ليسأله الإذن, إذن فإلقاء حكم الشرع على مسامعه بخصوص الزنا لن يغير من الأمر شيء وإنما هو يحتاج لموازنة لذة الزنا بقبح الفعل, وهذا لا يتأتى إلا بإحداث هذه الصور الذهنية المتكررة في مستويات متعددة من درجات القرابة حتى يتعمق الشعور بقبح الفعل في الحرام.
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا العلاج المعرفي وإنما دعم هذا بعلاج روحي حين وضع يده على صدر الشاب الذي غلبته شهوته ودعا له, فخرج الشاب من هذا المجلس وليس شيء أبغض إليه من الزنا (كما قال هو بعد ذلك).
وقد حدث خلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم حين تزاوج المهاجرون من الأنصار والعكس وحيث كان لأهل المدينة أوضاعا في الجماع لم يألفها أهل مكة والعكس وربما يعتبرون ذلك من المحرمات فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطرحوا عليه الأمر ونزلت آيات تتلى في القرآن الكريم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين}البقرة223, ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الممنوع في هذه الأمور وهو المحيض والدبر, وكل ما عدا ذلك حلال بين الزوجين, وأفرد ابن كثير مساحة كبيرة في تفسيره لإيضاح هذا الأمر .
وهناك فرق بين الإنترنت وبقية وسائل الإعلام الأخرى كالراديو والتليفزيون فهذه الأخيرة تدخل كل البيوت ويراها الجميع بلا تمييز لذلك فإحاطتها ببعض المحاذير أولى لأنه لا يوجد انتقاء في المشاهدة أو المشاهد, أما في حالة الإنترنت فالانتقاء قائم نسبيا, حيث أن كل شخص يفتح ما يهمه من المواقع ويقرأ ما يهمه من الموضوعات, فهي لا تأتى إليه على الشاشة تلقائيا, وبالتالي يحظى الإنترنت بمساحة أكبر من الجرأة في مناقشة بعض الموضوعات الحساسة والتي ربما تنخر في المجتمع دون أن ينتبه إليها أو يصححها أو يقاومها أحد, والأمر أولا وأخيرا مرتبط بالنيات والله وحده أعلم بنيات من ينشر أو من يحجب .
والأمر كما ترى يحتمل الاختلاف في الرأي حسب توقع المصلحة أو الضرر ولهذا يجوز فيه الأخذ والرد ولا يمكن لأحد أن يدّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة في هذا الأمر (أو غيره), ولذلك فمن الأمور الصحية أن نتجاذب أطراف مثل هذه المشاكل حتى نصل لرؤية أكثر وضوحا، فنحن لا ندّعى أن نشر مثل هذه المشكلات هو الصواب المطلق, وإنما اجتهدنا وتشاورنا مع أصحاب العلم الشرعي وتوصلنا أن الرد على ما يصلنا بهدف التوضيح والتصحيح واجب علينا على الرغم من أن بعض ما يصلنا قد يكون صادما للشعور العام أو غير مألوفا له أو مثيرا لحساسيات قد يكون وراءها هي الأخرى مشكلات تستدعى مناقشتها في النور بدلا من أن تعمل في الظلام.
ونحن نحرص طول الوقت على احترام كل صاحب مشكلة على اعتبار أنه أرسل يطلب المساعدة فهو إما مريض أو مبتلى وفى الحالتين لا يجوز لنا نبذه فنحن لسنا جهة اتهام أو إصدار أحكام بل جهة مساعدة وعلاج, وهذا لا ينفى أن هناك جهات أخرى لها الحق في التحذير والتوبيخ وإصدار الأحكام وتوقيع العقوبات على المتجاوزين, وهذا دور علماء الدين والقضاة وأصحاب سلطة التنفيذ, وليس دور الطبيب, وفي النهاية كلها أدوار متكاملة تؤدي إلى تطهير المجتمع من شوائبه وملوثاته, وكل يقوم بدوره حسب موقعه ولا تعارض فى النهاية بين تلك الأدوار, وليس من المصلحة خلطها فلو تصورنا أن الطبيب يصدر أحكاما قيمية على مرضاه ويقوم بعقابهم على أخطائهم فإن الطبيب هنا يكون متعديا على أدوار أخرى إضافة إلى فقدانه طبيعة دوره المساعد والمداوي والمواسي, فالطب – كما قال الزمخشرى من مئات السنين – مداواة ومواساة، وليس عصا غليظة تؤدب المرضى على أخطائهم التي أدت إلى مرضهم .
ونحن نشكر لك هذه المرة استخدامك للفظ يا إخوتاه أكثر من مرة مما خفف من حدة الخطاب الماضي وقسوته وكنا نتمنى أن تخلو هذه الرسالة من اتهامات مثل قولك : "الأخلاق الإسلامية التي تسترتم خلفها" ..... "خنوع وتراخ وتخلى عن المسئولية" .... فنحن أولا وأخيرا نجتهد في المساعدة وقد نصيب أو نخطئ, ونفتح الباب دائما للتصويب من إخواننا القراء ونستفيد كثيرا بكل ما يرد من تعليقات وتصويبات – ومنها تعليقك – ونفترض حسن النية وصفاء الطوية, ونحاول تطوير أداء هذه الرسالة كل يوم, وفى النهاية نرجو جميعا الخير لأهلنا والمثوبة من ربنا, والله الموفق لما فيه الخير. |