صديقتنا العزيزة.. قرأت رسالتك كثيرًا.. ولا أستطيع أن أقول غير أنني جد فخورة بكِ.. أرجوك لاتقسي على نفسك.. ولا تتهميها بالغرابة.. ودعينا سويًا نحاول تحليل الأحداث.. كنت أكبر أخوتك ويبدو أنك تحملت مسؤوليتهم من طفولتك، كرهت ذلك الدور لأنه لم يكن وظيفتك أو سنك حينئذ، في ذات الوقت لم تأتيك هذه المهمة من باب حب أو بطريقة غير مباشرة تدفعك لهذا العمل من داخلك كسعادتك بإخوتك مثلا أو بيتك.. لا يعني هذا أنك كنت تتحملين نوعًا من القسوة، ولكنك كنت تلاقين المسؤولية والتذكير بالمسؤولية التي أصبحت تثقل كاهلك.. ومع مرور الأيام كرهت ذلك الشعور في أعماقك.. الكبرى والمسؤولة دائمًا.. ووالدتك تعمل معناها: "أنتِ قدوة، لا تتصرفي كالأطفال، لا تبكي كالأطفال، لا تتكلمي، إذا كنتِ أنت الكبيرة تفعلين وتفعلين فما الذي تبقى للأطفال"؟؟ ثم ترين أن إخوتك لا يتحملون مثل مسئوليتك، وبعد أن كبروا وأصبحوا في السن التي كنت تتحملين فيها أنت مسؤوليتهم.. لم يتحملوا عنك شيئًا وبقيت أنت الكبرى..هذه الأحداث وغيرها ربما جعلتك تصلين إلى مرحلة من الحزن أو كتمانه فسرتها أنتِ بأنك أصبحتِ (عيوطة).. ثم تحولت إلى كبت هذا الحزن وعدم التعبير عنه، لكنك لم تذكري شيئًا عن المرحلة الفاصلة.. التي حولتك من مرحلة التعبير إلى مرحلة الصمت الأكثر حزنًا بلا شك، وقد يكون ذلك حدث مع تقادم العهد.. دون وجود جديد يذكر..هذا الصمت.. مع الشعور بالمرارة قبله حولك إلى تلك التصورات.. أضاف إلى ذلك نشأتك في مدينة سعودية صغيرة ومثل ما قلتِ (تربينا داخل البيت في وضع محمي).. ظلت أحلامك الصغيرة لا تتعدى القصص الملونة التي كنت تقرئين، والحياة الهادئة البعيدة عن المسئولية التي تتمنين.. والوالدان في انشغال.. لم تكن هناك تهيئة للحياة، تأخذين رسائلاً سلبية دون أن تشعرين، وليس مستبعدًا أن يكون الطب هو الاختيار الطبيعي لك من والديكِ وأنت شعرتِ أنه الأفضل حتى تغتربي ويصفو لك الحال مع وحدتك.. حتى تستطيعين التصالح مع نفسك..كراهيتك لدور المرأة قد تكون نابعة عن رؤيتك لوالدتك وهي تتعب خارج وداخل المنزل في توجيهكم ورعايتكم، أو عدم رضاك عن الوضع الأسري المشغول، ربما تشعرين أن والدتك مظلومة، أو أنها كانت تشعرك بذلك حتى تعاونيها في رعاية أخوتك، وهذا يفسر الحنق على أنوثتك منذ الطفولة.. ولذلك أيضًا منعت نفسك من الإحساس بالأطفال لأنك ربطتهم بالضغوط والتعب والألم، ثم هاأنت تلقين اللوم على نفسك الحزينة بقولك "لا أريد إخراج معاقين نفسيين للحياة".. لن يحدث ذلك فلا تقلقي، لأنك ستقومين بحماية أولادك من كل ما كان تأثيره عليك سيئًا في شتى مراحل حياتك.. حتى لو كان بسيطًا جدًا.. أنت مرهفة الإحساس يا صديقتي وسترين:)قلتِ إن المرأة تعمل دون أجر وجهد لا ينتهي والرجل عكس ذلك، ثم قلتِ أعلم أنكم ستعارضون، لكننا لا نعارض.. نحن نقول أن القضية لا تجرد من العاطفة، هذه المرأة التي تبذل الجهد تكون مستمتعة جدًا به في حال إن كانت في محيط تحبه غير شاعرة بالظلم أو عدم التقدير ممن حولها.مسألة رفض الخضوع للرجل هذه لم؟؟ لأن المجتمع يشعرك دائمًا أنك عاجزة.. والداك كانا يفرضان عليك حماية زائدة مغلقة، الحياة التي عشتها لم تساعدك على استكشاف نفسك أو العالم من حولك، كل شيء يجب أن يقوم به لك أحد.. شقيقك يرافقك، والدك يوصلك، هذا المكان للأولاد فقط، ممنوع هذا على البنات، وحتى وأنتِ طفلة كانت والدتك تقول لك: العبي مع البنات ولا تلعبي مع الأولاد..من الطبيعي جدًا بعد ذلك أن تكرهي الرجل..ترسبات الطفولة قد شوشت بعض المفاهيم، أو نستطيع أن نقول أن هذه المفاهيم لم تكون لديك من البداية بشكل صحيح..وأنت تشعرين بذلك وقلتِ (أشعر أني لست امرأة كفاية لأبذل العطاء).. تشعرين أن هناك خطأ ما لكنك لم تضعي يدك عليه بعد..وبهذا تصبح الخيالات التي تأتيك لا شبهة فيها لاضطراب جنسي إنما هو موضوع كره الرجل وقد تعاظم في نفسك، خصوصًا بعد مقابلتك للإنسان المغرور الذي كانت علاقتك به (مريضة) كما تصفين ، وليس بعيدًا أن عقلك الباطن كان يبقيك معه لأجل أن يؤكد لك مدى كراهيتك للرجال.. وعندما ابتعدت عنه لتعرفك على الآخر، العاقل والمتفتح، اكتشفتِ أنك لم تكوني تحبين الأول، ولأنك وجدت معاملة مختلفة من الثاني.. تشوشت أفكارك..ثلاث سنوات من الضعف والاستسلام للحب.. هل تعرفين ما تفسيرها؟؟ كنت تريدين أن تفهمي ما يحدث في الدنيا من حولك.. لم تكوني في داخلك راضية أو سعيدة أبدًا وربما كنتِ تقولين: هل هذا هو الحب الذي يقولون!! لم تكوني مقتنعة لكنك بقيت على أمل أن تفهمي ما يحدث حولك، ولم يكن لديك القوة لحسم أمرك برغم عدم حبك له، ليس لأنك (معاقة الإحساس) حاشا.. ولكنك أصلا لم يكن وصلك بعد هذا المعنى، فلم يكن أمام أفكارك أي بديل آخر.. بعد الكثير من المتناقضات والأشياء التي جربتها نفسك ولم تطيقينها أيضًا آثرت الابتعاد للبحث عن الأمان النفسي بعيدًا عن الشعور بالذنب وما يتركه في النفس..وما كان نفورك من الزواج إلا لأن بداية ما عرفت من طريق موصل إليه لم يكن محببًا بالنسبة لكِ بل لم تكوني تطيقينه، فحاولي أن تفصلي تلك الصورة المشوشة عن صورة الارتباط الواضح النقية، ثم الزواج المحبب للنفس أيضًا.. أقول لك ذلك، لأن البعد لا يشفي الجراح، ورفع رايات كراهية الرجال والدنيا تزيد من تضييق الخناق وتصعيد الإحساس المرير، واجترار الذكريات المؤلمة وتعظيم الإحساس بالذنب على ما لم تعرفي خطأه حتى تعاقبي عليه..هوني على نفسك إذن وجربي النظر إلى حياتك من زاوية أخرى، فلعله خير، واعلمي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سير الأحداث كما رأيتِ لحكمة.. لعل مما ظهر منها أنك تعلمت كثيرًا مما كان غامضًا عليكِ وشعرت بفارق شاسع بين الحياتين.. ثم هاأنت تشعرين الآن كل يوم أنك للأفضل كلما تعرفين شيئًا جديدًا..عدم استعدادك لمواجهة الحياة وتسلحك بالوعي أو (عدم التكوين) كما قال د.وائل، هو سر ضيقك التي لا تعرفين سببه من أبويك.. تشعرين أنهم السبب لكنك لا تدركين في أي شيء.. هم السبب لأنهم انشغلوا بحياتهم ولم يعلموك شيئًا عن حياتك.. حملوك المسؤولية منذ الصغر، وحملتها على صغر سنك، وكبت مشاعرك، وكرهت حياتك، واكتفوا هم بالمنظر الزائف من الخارج: الشخصية الاجتماعية وابنتهم الطبيبة، لكنهم نسوا أن في الداخل إنسان ضعيف جدًا أصابه الوهن.. يحتاج إلى حنان ورعاية وفهم.. ليس مجرد دلال..ومع أنك لم توضحي نوع الدلال الذي تشتهر به عائلتك كما تقولين، لكن التدليل أحيانًا يكون من أنواع التضييق لا أكثر، وقد تشعرين أن الدلال الزائد خوف زائد ليس لأنهم يحبونك، ولكن لأنك (بنت).. وهذا يظهر من طريقة إعطائهم الدلال وتوقيته..أنت فتاة طيبة وخيرة.. أحببت إخوتك وحنوت عليهم، هم ليس لهم ذنب فيما حصل، أنت ضحية مجتمع وأسرة تركت أولادها (يربيهم الله) وتلطمهم التجارب.. الذين لديهم أساسات اجتماعية في حياتهم يصمدون في صدمات الحياة أكثر من الذين لم يأخذوا أي تجارب في حياتهم..أرى أنك تحتاجين للمساندة النفسية حتى تعيدي حساباتك وترتبي لحياتك وتقومي بوضع الأمور في نصابها الصحيح، لا تقدمي على الزواج وأنت تحملين هذه المشاعر السلبية.. يجب أن تتخلصي في البداية من ترسبات الطفولة، يجب أن تعودي وتسمحي لنفسك بالإحساس وتعترفي بمشاعرك الطبيعية وتفتحي قلبك للدنيا وتعيشين بطريقة صحيحة.. لا تكبتي مشاعرك، دعيها بسلام مادامت لا تدفعك لعمل خاطئ.. لا ضير يا صديقتي من إحساسك بمشاعر جنسية طبيعية فهذه فطرة ولا خطأ ولا عيب من الإحساس بل إن كبته هو الذي يورث ضيقًا وشعورًا ملازمًا بالخطأ يصعب التخلص منه فيما بعد..افتحي ذراعيك للحياة بدون أي شعور باللوم على نفسك أو النقص، ليس عيبًا أن تخطيء، مادمنا نتعلم من أخطاءنا دائمًا ونحذرها..ولم يقل أحدًا أن هناك أشياء تتمناها الفتاة ولا تستطيع تحقيقها لأنها فتاة.. الفتاة تستطيع أن تقوم بكل شيء تتمناه في إطار الشرع مثلها مثل الفتى تمامًا.. الخطأ هو أن تحملي أي مشاعر سلبية على الجنس الآخر، لأن هذا معناه اختلال في النفسية، ويسبب ضيقًا وحزنًا، لأن الفطرة هي تقبل الجنس الآخر، لأنه سوف يكون منه من سوف تقضين معه عمرك القادم بكل تفاصيل الحياة الصغيرة..الحل ليس في العيش بمفردك.. الحل في التغيير من الداخل، التصالح مع النفس ومع المجتمع، ووقتها لن تستطيعين العيش وحيدة ولن تطيقين لأن الإنسان اجتماعي بطبعه.... صفاتك التي وصفت بها نفسك أنك (لطيفة، محبة للظهور ، مشتتة الاهتمامات، أبالغ في محاولة إرضاء الناس/حياتي زائفة-أشعر بضعف فظيع أخفيه-أريد أن أوحد خارجي مع داخلي). كلها تقول شيئًا واحدًا: أنك كنت غير مهيئة لخوض غمار الدنيا.. حزينة وغير مدركة، وتحتاجين لمن يساندك ويفهمك بشكل واضح.لا تستسلمي للاكتئاب إذن يا صديقتي وحاولي فهم نفسك وتفهمها وإعطائها العذر فيما مضى من أجل الأمل الذي هو آت..أنت تصفين مشاعرك وتقلبات حياتك بأسلوب نفسي عميق جدًا يجعل من الصعب ألا تدمع العين.. وكأن إحساسك العميق -الحزين جدًا- هو الذي يكتب وليس أنتِ.. الحياة لا تتوقف لأنك فتاة.. الحياة تمضي وتشرق وتزدهر ليس لأنك فتاة وحسب، بل لأنك أنموذج مشرق لفتاة مسلمة واعية تخطت صعاب حياتها وتمضي بكل عزم في طريق الإدراك المتطلع دائمًا إلى الأفضل في تكوينك، لإقامة سلام دائم مع نفسك..وفقك الله وأنار دربك، وتابعينا بأخبارك.