الكيان الصهيوني ويهود العالم... مؤشرات فك الارتباط
شهدت العلاقات بين الكيان الصهيوني ويهود العالم في الأعوام الخمسة الماضية تحولات هامة، تُنذر بحدوث تغيرات جوهرية على مكانة الكيان الصهيوني العالمية ومنعته وترسم علامات استفهام كبيرة حول مجرد بقاء هذا الكيان في هذه البقعة من العالم؛ حيث أن جزءً من هذه التحولات تُعزى إلى تغير ظروف حياة اليهود في أرجاء العالم مقارنة بالكيان الصهيوني، في حين يُعزى الجزء الآخر إلى أنماط سلوك النُخبة السياسية الحاكمة في الكيان الصهيوني والتي باتت تُبدي استعداداً للتفريط بعلاقات الكيان الصهيوني مع الجاليات اليهودية في أرجاء العالم لدواع سياسية داخلية ضيقة.
صدمة قانون "التهود"
ولعل أحد أهم التطورات التي سرَّعت من وتيرة الفُرقة بين الكيان الصهيوني ويهود العالم، وتحديداً في الولايات المتحدة وكندا، هي تمرير قانون "التهود" في الكنيست، وهو القانون الذي يُنظم عملية تحول غير اليهود لليهودية؛ فقد قابل اليهود الأمريكيون الذين يُشكلون أغلبية اليهود في العالم تمرير هذا القانون بردة فعل غاضبة وقاسية، وصلت إلى حد تهديد الكثير من النُخب اليهودية الأمريكية بالتخلي عن دعم الكيان الصهيوني والتوقف عن إبداء الحرص على مصالحه. وقد أثار هذا القانون ردة الفعل الغاضبة هذه لأنه منح مؤسسة الحاخامية الكبرى، وهي المؤسسة الدينية الرسمية في الكيان الصهيوني الحق الحصري في تحديد الشروط الواجب استيفاؤها في الشخص الذي يرغب في التحول لليهودية.
وتعود حساسية النُخب اليهودية الأمريكية لهذا التطور لأن الحاخامية الكبرى تقع تحت تأثير المرجعيات الدينية اليهودية المتزمتة المعروفة بـ "الحريدية"، والتي تتبنى الاجتهادات الفقهية الأكثر تطرفاً في تحديد "من هو اليهودي"، بالإضافة لتوسعها في فرض القيود على الراغبين في التحول لليهودية؛ علاوة على ذلك فإنه بالنسبة للمرجعيات الدينية "الحريدية" فإنه لا يمكن الاعتراف بيهودية أي شخص تحول لليهودية عن طريق حاخامات إصلاحيين أو محافظين، مع العلم أن الإصلاحيين والمحافظين يُشكلون الأغلبية الساحقة من يهود الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وبالتالي فإن الحاخامية الكبرى في الكيان الصهيوني تُخرج عملياً يهود الولايات المتحدة عن دائرة اليهودية؛
ففي الوقت الذي تعتبر المرجعيات الدينية "الحريدية" أن اليهودي هو الذي وُلِدَ لأم يهودية، فإن نتائج آخر دراسة أُجريت في الولايات المتحدة تُبين أن 50% من اليهود الأمريكيين يتزوجون زواجاً مختلطاً، وهو ما يجعل هؤلاء خارج إطار اليهودية في نظر المرجعيات "الحريدية". ويرى الكثير من قادة اليهود الأمريكيين أن سن القانون يُمثل طعنة في ظهرهم، وهم الذين يلعبون دوراً مركزياً في تأمين مصالح الكيان الصهيوني الإستراتيجية. وما يُثير سخط هؤلاء القادة أن سن القانون جاء فقط من أجل ضمان استرضاء الأحزاب "الحريدية" المشاركة في الائتلاف الحاكم في تل أبيب، وهي الأحزاب التي لا يخدم أنصارها في الجيش وتميل للانعزال عن المجتمع في الكيان الصهيوني.
فقدان قوة الجذب
في نفس الوقت تُدلل الكثير من المؤشرات على إن الكيان الصهيوني لم يعد مكان جاذب لليهود في أرجاء العالم، فحسب المعطيات التي كشف عنها المكتب المركزي للإحصاء في الكيان فقد تدنت معدلات الهجرة اليهودية إلى الكيان بشكل كبير، لتصل إلى 18.129 مهاجر يهودي في العام، وهو أقل عدد منذ عام منذ العام 1988، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تضم أكبر تجمع لليهود في العالم، فإن متوسط ما يُهاجر من اليهود الأمريكيين لا يتجاوز 2600 مهاجر في العام، في حين أن عدد اليهود في الدول التي كانت تُشكل الإتحاد السوفياتي الذين يُهاجرون إلى الكيان قد انخفض إلى 6600 مهاجر، مع العلم أنه كان يُعول على هؤلاء تحديداً كمصدرٍ لتعزيز الواقع الديموغرافي اليهودي في أرض فلسطين.
ومما فاقم خطورة هذا الواقع أن هناك مؤشرات على تدني مكانة الكيان الصهيوني في نظر يهود العالم وتحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية، فحسب نتائج دراسة أُجريت لصالح ديوان رئاسة الوزراء في الكيان الصهيوني فقد تبين أن 50% من الشباب اليهودي الأمريكي لا يهمهم إذا كفَّ الكيان الصهيوني عن الوجود، في حين أن 20% فقط من اليهود في الدول التي كانت تُشكل الإتحاد السوفياتي يتعرضون لمضامين يهودية.
وقد دفعت هذه المعطيات الوكالة اليهودية المسئولة بشكل مباشر عن تهجير اليهود في العالم إلى الكيان الصهيوني إلى اتخاذ قرار غير مسبوق وتاريخي يتمثل بتعديل سُلم أولياتها، حيث أن مجلس إدارة الوكالة الذي انعقد في (كييف) عاصمة أوكرانيا مؤخراً قرر أن يكون على رأس أوليات الوكالة العمل على تعزيز العلاقة بين اليهود في العالم والكيان الصهيوني، بعد أن كان تهجير اليهود إلى الكيان على رأس هذه الأولويات.
مؤتمر لافت
ومما لا شك فيه أن أوضح دلالة على مظاهر فك الارتباط بين اليهود والكيان الصهيوني هو المؤتمر الذي عُقد في موسكو في نيسان الماضي والذي نظمه المئات من الشباب اليهود الروس الذين سبق لهم أن هاجروا إلى الكيان الصهيوني أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وقرروا بعد ذلك مغادرته والعودة مجدداً إلى روسيا بعد تحسن الأوضاع الاقتصادية والأمنية فيها. وقد كان من اللافت أن أهم اسـتنتاج صدر عن المؤتمرين هو إنـه بإمكان اليهود في أرجاء العالم العيـش بدون الكيان الصهيوني، وذلك بعد أن عددوا مظاهر خيبات الأمل الشخصية التي صُدموا بها خلال تجربة وجودهم في الكيان. ومن المفارقة أن عدداً من الشخصيات الإسرائيلية البارزة قد لبت الدعوة وحضرت المؤتمر رغم إدراكها اتجاه النقاشات فيه، حيث حضرت النائب السابق (داليا رابين)، ابنة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (إسحاق رابين)، والنائب (ياعيل ديان) ابنة وزير الدفاع والجنرال الإسرائيلي (موشيه ديان).
الشباب اليهودي الأمريكي والاتجاهات الليبرالية
ومن التحولات التي تُقلق صُناع القرار في الكيان الصهيوني هي الاتجاهات الليبرالية التي باتت طاغية على ميول الشباب اليهودي في الولايات المتحدة، والتي تُقلص من حدود تضامن اليهود مع الكيان الصهيوني. ويقول الأكاديمي اليهودي (جاي باخور) المحاضر في جامعة "هارفارد" أن معظم الشـباب اليهودي في الولايات المتحدة هم من ذوي التوجهات الليبراليـة، حيث باتوا يرفضون بشـكل مبدأي السـياسـات الإسـرائيليـة العدوانيـة ضد الفلسـطينيين، وبل ويوافقون على العمل ضدها داخل الولايات المتحدة.
وفي مقال نشره على النسخة العبرية لموقع "جي بلانت" التابعة لإحدى المنظمات اليهودية الأمريكية، يقول (باخور) أن الحرب الإسـرائيليـة على غزة أواخر عام 2008 وما تخللها من جرائم أرتُكبت ضد المدنيين الفلسـطينيين مثلت نقطـة تحول فارقـة بالنسـبـة لمعظم الشـباب اليهودي الأمريكي. ويجزم (باخور) بأن معظم الشـباب اليهودي في الولايات المتحدة "يخجل من ذكر (إسـرائيل) ويتمنى لو لم تجرِ هذه الكلمـة على لسـانـه".
وفي مقال نشراه مؤخراً في مجلة "ذي نيشن"، يُرجع الباحثان اليهوديان الأمريكيان (آدام هورفيتش) و(فيلفي فايس) هذه التحولات التي طرأت على موقف الشباب الأمريكي بشكل عام وتحديداً الطلاب الجامعيين من القضية الفلسطينيين وتحديداً بعد الحرب على غزة، حيث كتبا أن "كل طالب في أي حرم جامعي في الولايات المتحدة لا يعرف نفسه كمتضامن مع الفلسطينيين يتم توصيفه بأنه عنصري" مما جعل الطلاب اليهودي "تواقين للتخلص من العار الذي تُلحقه بهم (إسرائيل) كيهود".
تهاوي فكرة الملاذ الآمن
إن أحد المسـوغات التي عزَّزت مطالبـة الحركـة الصهيونيـة بإقامـة "وطن قومي" لليهود تتمثل في أن هذا "الوطن" سـيكون ملاذاً آمناً لليهود في أعقاب ما تعرض له اليهود في أوروبا، وبشـكل خاص على أيدي النازيين، وفي أعقاب تعاظم مظاهر ما يُعرف بـ "اللاسـاميـة". ومما لا شـك فيـه أن تهاوي معدلات الهجرة اليهوديـة إلى الكيان الصهيوني وتزايد معدلات الهجرة العكسـيـة منـه يُدلل ضمن أمور أخرى على تهاوي هذه الفكرة. ويُفسر (أبراهام تيروش) سكرتير الحكومة الإسرائيلية سابقاً هذا التحول قائلاً: "أن (إسـرائيل) باتت في نظر معظم اليهود في العالم دولـة في خطر ووجودها موضع شـك وهي تُخيف اليهود أكثر بكثير من اللاسـاميـة في دولهم".
ويروي (تيروش) ما سمعه كثيراً من بعض قادة اليهود في الولايات المتحدة من أن (إسرائيل) باتت تحتاج اليهود في "الشتات" أكثر مما يحتاج هؤلاء اليهود (إسرائيل). ويُقر المحامي (دوف فايسغلاس) الذي شغل منصب رئيس ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (آرئيل شارون) بتراجع مكانة (إسرائيل) في نظر اليهود الأمريكيين بشكل واضح، حيث يُشـير إلى أن مظاهر الوهن أصبحت باديـة على العلاقـة بين (إسـرائيل) ويهود الولايات المتحدة، حيث أن الشـباب اليهودي الأمريكي لم يعد يرى في (إسـرائيل) مكاناً لعيشـه، ولا تُمثل بالنسـبـة لهم مركزاً روحياً وأيدلوجياً، ولم تعد حتى هدفاً للزيارة.
الكيان الصهيوني لم يعد ملاذاً آمناً حتى لعدد كبير من الإسرائيليين الذين وُلدوا وعاشوا فيه؛ فحسب المعطيات الإسرائيلية الرسمية فإن 750 ألف إسرائيلي غادروا الكيان ويعيشون في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. لكن الظاهرة الأكثر دلالـة على تهاوي فكرة الملاذ الآمن تتمثل في تهافت الإسـرائيليين حالياً على الحصول على جوازات سـفر أجنبيـة لاسـتخدامها وقت الضائقـة! وقد تعاظمت هذه الظاهرة مؤخراً لدرجـة دفعت رئيـس الكنيسـت (روفي ريفلين) لأن يكتب مقالاً لاذعاً حول الظاهرة وخطورتها وتداعياتها "المأسـاويـة" على الكيان.
مخاطر متعددة
إن المخاطر الناجمـة عن مظاهر فك الارتباط الواضحـة بين الكيان الصهيوني ويهود العالم كبيرة وجديـة، ولعل أهم هذه المخاطر هي المخاطر الديموغرافيـة الناجمـة عن تدني رغبة اليهود في الهجرة إلى الكيان؛ فالمشـروع الصهيوني قام على ركيزتين أسـاسـيتين: السـيطرة على الأرض الفلسـطينيـة وجلب المهاجرين اليهود، وعندما تتدنى معدلات الهجرة فإن القدرة على السـيطرة على الأرض تتقلص، ليـس هذا فحسـب، بل إن تدني معدلات الهجرة يعني جعل الكيان الصهيوني مرتبط تحديداً بالجماعات اليهوديـة غير المنتجـة، سيما أتباع التيار الديني "الحريدي" الذين يتسمون بميزتين أساسيتين، وهما:
زيادة معدلات التكاثر الطبيعي، وفي نفس الوقت هجر سوق العمل والعيش على المساعدات التي تُخصصها لهم الدولة بفعل الضغوط التي تُمارسها أحزابهم التي تشارك في الائتلافات الحاكمة، علاوة على أن معظم هؤلاء لا يؤدون الخدمة العسكرية. من ناحية ثانية فإن ردة الفعل الغاضبة التي تجتاح حالياً يهود الولايات المتحدة بسبب قانون التهود، فضلاً عن التحولات التي طرأت على اتجاهات الشباب اليهودي هناك تنطوي على مخاطر ذات طابع استراتيجي لأنها تؤدي إلى تآكل التأييد والدعم اللامحدود الذي تقدمه المنظمات اليهودية الأمريكية، الذي لا خلاف في الكيان الصهيوني على أنه يُمثل أهم ضمانات بقائه، بسبب قدرة هذه المنظمات على التأثير على السياسة الخارجية لواشنطن، وتحديداً في الشرق الأوسط. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه المؤشرات تتوالى في وقت بالغ الحساسية والصعوبة بالنسبة للكيان الصهيوني الذي تدنت مكانته الدولية بشكل غير مسبوق، بعد حرب غزة 2008 وفي أعقاب أحداث "أسطول الحرية"، حيث أن الكيان بات في أمس الحاجة لدعم يهود العالم غير المتحفظ.
إن بروز مظاهر فك الارتباط بين الكيان الصهيوني ويهود العالم تسـتوجب من الفلسـطينيين والعرب والمسـلمين اسـتغلال هذا التطور والبناء عليـه من أجل تكريـس هذه الظاهرة وتعميقها، لما لذلك من آثارٍ اسـتراتيجيـة سـلبيـة على الكيان وقدرتـه على مواصلـة العدوان على الفلسـطينيين والعرب. لكن هذا يسـتوجب اسـتحداث (ماكينزمات) عمل جديدة، تتمثل في التواصل مع الجاليات اليهوديـة، سـيما الأُطر الشـبابيـة فيها، ومحاصرة الدعايـة الإسـرائيليـة وتسـليط الضوء على ما تقوم به تل أبيب من جرائم. ومما لا شـك فيـه أن هذا يتطلب من بعض الأوسـاط العربيـة تغيير جذري في خطابها الإعلامي، سـيما ضرورة التفريق بين اليهود من جهـة، والكيان الصهيوني والصهيونيـة من جهـة أخرى، فتناقضنا كفلسـطينيين وكعرب ومسـلمين مع الكيان الصهيوني ككيان إحلالي ومع الحركـة الصهيونيـة كحركـة عنصريـة تسـتهدف الوجود الفلسـطيني، وليـس مع اليهود كمنتمين لدين سـماوي.
اقرأ أيضاً:
ندين سياسة العنف والعدوان التي تستخدمها إسرائيل/ على متن أسطول الحرية الإرهاب حين يمشي عارياً...!!/ لا تحزنوا.. فالإنجاز عظيم/ أسطول الحرية إلى غزة/ قافلة الحرية: التحول النوعي للعبة