رغم ولعي المبكر بقضاء أوقات طويلة في قراءة الروايات والتي شكلت وجداني لحد كبير إلا أنني لم أعد أتمكن (أو أحتمل) قراءة رواية طويلة منذ سنوات بسبب مشاغل العمل والحياة وقضاء الوقت بين العيادة والمستشفى والعمل الأكاديمي في الجامعة أو ربما بسبب السن الذي حين يبلغ حدا معينا يصبح الوقت عزيزا بحيث يصعب التضحية به في أشياء تستغرق وقتا طويلا, وأذكر أن آخر رواية قرأتها كانت "ساحر الصحراء" لباولوا كويلهو (ترجمة عن روايته الكيمياء) وأعتبرها من أجمل الأعمال الروائية التي قرأتها.
وبناءا على ذلك كنت أتمنى قراءة "عمارة يعقوبيان" ولكن يشغلني عنها ألف شاغل, ولكن سرعة انتشار الرواية وكثرة ما كتب عنها أغراني بالمحاولة فقرأتها ولم أجد أي صعوبة في استكمالها للنهاية, ربما لجودة فن القص فيها أو لأن المؤلف رسم الشخصيات بشكل صادق ومؤكد فداعب بذلك تخصصي في الطب النفسي وجعلني أشعر بتفوق الأدب والفن في معرفة أغوار النفس بشكل فطري دون الحاجة للتعمق في النظريات النفسية, أو لأسباب أخرى ربما تبدو في ثنايا الحديث الآن.
واختيار اسم العمارة منسوبا إلى "خواجه" هو المليونير "هاجوب يعقوبيان" عميد الجالية الأرمينية في مصر آنذاك والذي أسس تلك العمارة عام 1934 م على الطراز الأوروبي الراقي بواسطة مكتب هندسي إيطالي شهير مع ما تتسم به العمارة من جمال معماري أوروبي, لكل هذا دلالة على رغبة واضحة لدى المؤلف لبيان ما سيتم تشويهه بعد ذلك داخل وحول وفوق هذه العمارة وما سيتم من غزو للعشوائيات والقاذورات المادية والبشرية من مفردات الحياة المصرية المعاصرة.
أما الغرف الحديدية الخمسين التي بنيت على سطح العمارة (حين تأسيسها) بعدد الشقق لتكون مكانا لتخزين المواد الغذائية أو مبيتا للكلاب الكبيرة الشرسة أو مكانا لغسل الملابس, ولم يكن سكان العمارة آنذاك يقبلون مبيت الخدم فيها لاعتبارهم بأنها لا تصلح بأي حال لسكنى آدميين (حيث كان للآدميين عندهم آنذاك وزن وكرامة), ولكن بعد الثورة تغيرت الأمور واستخدمتها زوجات الضباط (الأحرار وغير الأحرار) الذين استولوا على شقق العمارة لمبيت السفرجية والخدم وتربية الدواجن, ثم استخدمت بعد ذلك لسكنى50 أسرة مصرية ليتحول سطح العمارة الأوروبية الأنيقة إلى حي مصري عشوائي ملئ بالمتناقضات والتشوهات.
وقد وضع المؤلف جام غضبه في وصفه لكمال الفولي السياسي والبرلماني الانتهازي الذي قضى سنوات طويلة في العمل النيابي ويتمتع بقدرات هائلة طوعها وشوهها طبقا لتغير اتجاهات المصالح وتغير الأنظمة والأيديولوجيات في مصر بعد الثورة حتى لقد أصبح اسمه يستدعي إلى ذهن المصريين معنى الفساد والنفاق وتزوير الانتخابات واستغلال نقاط الضعف لدى النواب والوزراء من خلال ملفات يحتفظ بها لكل واحد منهم ويخرجها عندما يحاول أحدهم أن يرفع رأسه أو يخرج عن الخط المرسوم, وهو يتقاضى رشاوى كبيرة من المرشحين حتى يضمن نجاحهم في الانتخابات بالتزوير والبلطجة, كل هذا معروف للناس, ولكن المبهر في الأمر (على الأقل بالنسبة لي) هو هذا الوصف العبقري لشخصية أحد أهم رموز الفساد كما جاء في الرواية على النحو التالي:
"وكان كمال الفولي يترك في نفس من يراه انطباعا متضاربا: ذكاؤه وسرعة بديهته وحضوره الطاغي من ناحية, ومن ناحية أخرى جسده البدين وكرشه المتدلي ورابطة عنقه المفكوكة دائما قليلا وألوان ثيابه البذيئة غير المتناسقة وشعره المصبوغ بطريقة فجة ووجهه المكتنز الغليظ ونظراته الوقحة الشرسة الكاذبة وطريقته السوقية في الحديث حين يمد ذراعيه أمامه ويحرك أصابع يديه ويهز كتفيه وبطنه وهو يتكلم وكأنه امرأة سوقية, كل ذلك يجعل منظره فكاهيا على نحو ما (وكأنه يؤدي فقرة لتسلية المشاهدين), ويترك أيضا في النفس إحساسا مبتذلا كريها".
ويبدو استغلال المرأة وانتهاكها جليا في المجتمع المصري الذي تصوره الرواية في شراء الحاج عزام لسعاد جابر تحت اسم الزواج وهو لا يريد منها إلا المتعة في الفراش مقابل ما يغدقه عليها من مال فهو يشتري شبابها بثروته وهي تبيع له سعادتها مقابل المال الذي تدخره لابنها من زوجها السابق الذي مات أو فقد في العراق, وتتبدى معاناة سعاد جابر وامتهانها في وصف المؤلف لرؤيتها للحاج عزام في الفراش على النحو التالي:
"إنها الآن في الفراش مع الحاج عزام تؤدي مشهدا تمثيليا وهي لا تشعر بشيء سوى الاحتكاك, مجرد احتكاك جسدين عاريين بارد ومزعج وفي وعيها الحاد القابع في الخلفية الذي لا يغفل لحظة, تتأمل جسد الحاج المنهك الذي ذهبت فورته وبان ضعفه بعد شهر واحد من الزواج, تتحاشى النظر إلى بياض جلده العجوز المجعد وشعيرات صدره القليلة المتناثرة, وحلمتيه الصغيرتين الغامقتين, تتقزز عندما تلمس جسده وكأنها تمسك بيديها سحلية أو ضفدعة لزجة مقرفة".
وهو قد حرمها من طفلها الوحيد أن يعيش معها وأصر على أن تعيش وحدها في شقة تنتظره ليقضي معها لحظات متعته لمدة ساعتين كل يوم ثم يتركها تعاني الوحدة وتجتر الذكريات وتتحرق شوقا لطفلها الذي تركته عند خاله لتوفر له المال الذي يعيش به بعد أن ضاقت بها السبل وفقدت كل الفرص للعيش الشريف في مجتمع لم يرحمها أو يرحم ابنها ووسط رجال يختلفون في ألوانهم وأشكالهم ولكن يتفقون جميعا على رغبتهم في انتهاك جسدها وكرامتها تحت ضغط الفقر والاحتياج.
والحاج عزام نموذج للمتدين البراجماتي الذي يسخر المظهر الديني لخدمة أغراضه الشخصية ويسرف في استخدام اللغة الدينية لتغطية جشعه واستغلاله للآخرين ويعلن بمناسبة أو غير مناسبة أن كل ما يفعله حسب شرع الله أو على سنة الله ورسوله, ويقوم ببعض أعمال الخير الظاهرة كذبح العجول وتوزيعها على الفقراء أمام محلاته بشكل معلن وصارخ ليغسل في داخله وخارجه ما علق به من أدران يعرفها هو قبل غيره, فهو يعيش حالة ازدواجية ظاهرها الصلاح والتقوى والتجارة والعمل الشريف وباطنها –كما اتضح بعد ذلك– تجارة البودرة واستغلال الناس وانتهاك حقوقهم والتحالف مع السلطة بهدف الاحتماء وتحقيق مزيد من الربح, وهو نموذج شاع في المجتمع المصري بشكل متوحش في العقود الأخيرة.
أما النموذج الآخر لانتهاك المرأة فيتبدى في شخصية الفتاة بثينة السيد الحاصلة على دبلوم التجارة والتي توفي أبوها وترك الأسرة بلا عائل فخرجت لكي تعمل وتعرضت لمضايقات تطورت بعد ذلك لتحرشات لتصل بعد ذلك إلى كثير من محاولات الاستغلال الجنسي من أصحاب المحلات التي كانت تعمل بها, وهي قد تعلمت من صديقتها (وبشكل غير معلن من أمها) أن تكون مرنة وأن تحافظ على نفسها وتحافظ في نفس الوقت على أكل عيشها, وقد أعطاها ذلك صيغة للتعايش في هذا المجتمع مؤداها أن تهب جسدها لمن يدفع بشرط أن تحافظ فقط على غشاء بكارتها وكأن هذا هو الخط الأحمر الوحيد لعفتها في مجتمع يطمع في جسدها ويضطرها للتنازل حتى لا تجوع أو تتشرد.
ولذلك عبرت في الرواية عن كراهيتها للبلد ورغبتها في السفر إلى أي مكان بعيدا عنها, تلك الحالة من عدم الانتماء أو ضعفه والتي أصابت الكثير من الشباب المصري تحت وطأة الإحباطات والتنازلات والفشل في تحقيق الحلم بوسائل مشروعة تحفظ على الشاب كرامته. وحين فقدت بثينة شعورها بطهارتها ونقائها وبراءتها ابتعدت عن حبيبها طه الشاذلي وتحطم حلمها وحلمه وترتب على ذلك حالة من الكراهية والسخط لديهما تجاه المجتمع عبرت هي عنها بالانغماس في الرذيلة وعبر هو عنها بالتطرف والعنف المدمر.
وطه الشاذلي ابن البواب الذي كان يحلم بالالتحاق بكلية الشرطة ولكنه رسب في كشف الهيئة بشكل مهين بسبب مهنة أبيه ثم اتجه بعد ذلك محبطا ومرغما إلى الجامعة وهو يحمل في نفسه ضغينة على المجتمع الذي ظلمه وحطم أحلامه وحرمه أيضا من تحقيق حلمه العاطفي بالزواج من حبيبته بثينة تلك الفتاة البريئة التي ضاعت في سراديب المجتمع المتوحش ونهشها الذئاب في كل مكان ذهبت إليه.
كل هذا جعل طه الشاذلي قابلا للانتماء لمجموعات دينية تعلن مطالبتها بعزة الأمة الإسلامية ورفض الذل والهوان أمام القهر الأمريكي والتبجح الإسرائيلي, وكأن طه الشاذلي قد نقل معركته الشخصية التي أذله فيها المجتمع (ممثلا في لواءات كشف الهيئة في كلية الشرطة) إلى معركة أكبر وأوسع بين الأمة الإسلامية المقهورة والمضطهدة والمهانة وبين العدو الأمريكي الصهيوني المتغطرس, ولكنه يفاجأ بالقبض عليه وإذلاله على أيدي الأمن المصري وانتهاك شرفه أكثر من مرة بواسطة الجنود تحت إشراف ضابط كبير.
وهنا يتحول العدوان من الخارج إلى الداخل ويصبح الصراع بينه وبين من انتهكوا كرامته وشرفه وأذلوه فيدخل في حالة ثأر مع النظام ورموزه باعتبارهم كفارا يتحالفون مع رموز الكفر في الخارج للقضاء على الإسلام, وهنا يجد من يوظف هذه الرغبة الانتقامية الجبارة لديه في صورة عمل عنيف يتم إعداده لتنفيذه من خلال تنظيم ديني مسلح. وتكاد تكون قصة طه الشاذلي نموذجا واقعيا لتفريخ حالات العنف والإرهاب لدى عدد غير قليل من الشباب المصري الذي دفعه الفشل والإحباط والظلم والقهر والإذلال وفقدان الأمل وفقدان الحلم إلى صفوف التجمعات المنادية بالعنف كوسيلة للتغيير خاصة بعد إغلاق منافذ التغيير السلمي أمامهم.
وتظهر شخصية الشاذ حاتم رشيد والتي أجاد المؤلف رسمها وتوصيفها من الناحية النفسية والاجتماعية, وحاتم رشيد نموذج حقيقي وواقعي للشذوذ (نراه في العيادات النفسية وفى الحياة) فليس كل الشواذ ينطبق عليهم الصورة النمطية من الميوعة الأنثوية الظاهرة أو التهتك في السلوك مع كل الناس أو الوقوف على النواصي لاصطياد الفريسة, ولكن هناك هذا النمط الذي يمثله حاتم رشيد والذي يقبع في أعماقه فقد للصورة الوالدية (نظرا لانشغال والده أو غيابه أو غموض دوره أو بهاتة حضوره).
وفى مرحلة ما يظهر من يعطيه الحنان الأبوي (على يد خادم أو قريب أو صديق أكبر سنا) ثم تتخطى المشاعر حاجز الأمان ويختلط الحنان بالجنس بحيث يصبح الاحتياج للاثنين إدمانا مزمنا يضع هذا الشاذ في مأزق الجوع العاطفي والجنسي بشراهة تفوق أي احتياج آخر, وربما ترجع هذه الشراهة إلى الاحتياج المركب لمشاعر ضرورية وأساسية للإنسان مثل الحب والشعور بالأمان والشعور بالتقدير والحميمية والقرب, تلك المشاعر التي لم يجدها الشخص في مصادرها الطبيعية المأمونة والموزونة ولكنه وجدها في ظروف غريبة دفعته لقبولها والارتماء في بحرها بغير تعقل (وهذا تفسير وليس تبرير للشذوذ الجنسي في نسبة كبيرة من الحالات).
ولقد بالغ المؤلف في رسم عالم الشواذ ومفرداتهم وأنماط حياتهم وعلاقاتهم بشكل تفصيلي ربما يزعج كثيرا من قرائه ويشكل تهديدا لبراءة من لم يعرفوا هذا العالم أو يقتربوا منه. وقد يبدو تعاطف المؤلف مع شخصية حاتم رشيد وإبرازه في صورة الشاذ المحترم الموهوب والمثقف والمهذب والودود, وربما يريد أن يبرزه أكثر صدقا ونبلا من شخصية تدّعى التدين كذبا مثل الحاج عزام (الذي استغل المجتمع كله وخدعه واستغل جسد زوجته لتحقيق متعته ثم ألقاها في الشارع بعد ذلك وانتقم منها) ومن شخصية سياسي انتهازي كريه المظهر والمخبر مثل كمال الفولي, وكأن المؤلف يلقي في وجه المجتمع كله بصقة إدانة ويسخر من قشرة الفضيلة الخادعة التي يكتسي بها كثير من الناس ويفعلون من خلفها كل الموبقات.
فهي صرخة إدانة أو بصقة إهانة يطلقها المؤلف أو يبصقها في وجه الذات المصرية المشوهة الكاذبة, وهو يفعل ذلك بأكبر قدر من القسوة والفجاجة يقدر عليه مؤلف, وكأني به (أي المؤلف الدكتور علاء الأسواني) وقد امتلأت نفسه غضبا وغيظا مما يراه من مظاهر العشوائية والفهلوة والكذب المتدين أو التدين الكاذب والسياسة الفاسدة الكريهة المتحالفة مع رأس المال الانتهازي وشعبا رضي بالحياة على الهامش أو على سطح العمارة في غرف حديدية تحد من حريته ومن إرادته يتعاطى الحشيش ويلقي النكات الفاحشة ويغرق في متع رخيصة مهترئة ويرضى بحياة لا تليق بالحيوانات أو العبيد, فيجمع كل هؤلاء في سلة واحدة لكي يبصق عليهم جميعا بلا رحمة ويحتقرهم أكثر مما يحتقر شاذا مثل حاتم رشيد أو سكيرا نزويا مثل زكي بك الدسوقي.
وإذا كان المؤلف قد أظهر احتراما وتقديرا لحاتم رشيد الشاذ فإنه لم يخف في كثير من المواقف تقديره لشخصية زكي بك الدسوقي ابن الباشا القديم المنتمي للثقافة الأوروبية والذوق الأوروبي والأخلاقيات الأوروبية, ويعتبره ضحية لثورة مصرية هوجاء عشوائية وبدائية كرست للجهل والتخلف وقلة الذوق والانتهازية والكذب والقذارة والفحش وأطلقت نزعة دينية مضادة تتسم بالعنف والكراهية للآخر الخارجي والداخلي.
وعلى الرغم من ظهور زكي بك الدسوقي في صورة السكير النزوي الذي يتتبع النساء الساقطات إلا أنه يبرزه صاحب قلب طيب وقيم نبيلة يترفع بها عن الظلم والانتقام واستغلال البشر, وقد نجح المؤلف في رسم هذه الشخصية بكل تناقضاتها إلى حد كبير كما نجح في رسم كل الشخصيات التي أوردها في الرواية بدقة شديدة بحيث تجد في الحياة الواقعية شخصيات مقابلة بنفس السهولة وتجد فيها نفس التناقضات والتقلبات والتشوهات.
ونلاحظ أن المؤلف كلما اقترب من شخصية غربية أو من بار أو مطعم ينتمي إلى الطراز الغربي نجده يفيض رقة وعذوبة في وصف النظافة والنظام والرقة والهدوء والدماثة, وعلى العكس كلما اقترب من رمز أو شخصية أو مكان مصري أو إسلامي نجد أوصاف القبح والعشوائية والإدعاء والكذب والنفاق والتلوث والقذارة, وقد يفهم سطحيا من هذا إعجاب المؤلف بالنموذج الغربي وخاصة أنه يورد مفرداته الدقيقة التي لا يعرفها إلا من عاش فعلا هذا النموذج أو اقترب منه وأعجب به, ولكن من ناحية أخرى يمكن فهم ذلك من خلال رغبة قوية لدى المؤلف لوخز وإيلام الضمير الوطني المصري أو الضمير الإسلامي بتلك المقارنة المؤلمة بينه وبين النموذج الغربي الذي نرمي أصحابه بالكفر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وثمة حدث له دلالة وهو أن الرواية حين تحولت فيلما سينمائيا تم حشد ميزانية ضخمة لهذا الفيلم وتم تجميع عدد كبير من نجوم الصف الأول للقيام بالتمثيل فيه, وحين اكتمل الفيلم وجاء موعد العرض الافتتاحي تم دعوة الكثيرين من رموز المجتمع على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمشاهدة العرض الافتتاحي وسط حشد إعلامي غير مسبوق, وفي هذا احتفاءٌ بالفيلم القائم على الرواية بكل ما فيها من نقد غاضب, ومع هذا لم يدع المؤلف (الدكتور علاء الأسواني) لحضور هذا العرس, وهذا شيء غريب, وربما يكون مدلوله أن المجتمع (الرسمي غالبا) يقول للمؤلف:
"نحن نعلم أن ما قلته يستحق الاهتمام ولكننا غاضبين منك من فرط صراحتك ومن فرط غضبك منا وعلينا ورافضين أن تفرغ الصديد من جسدنا باستخدام فأس غليظة بدلا من مشرط رقيق ومهذب". وعلى الجانب الآخر نجد المؤلف مصرا على موقفه في وخز الضمير المصري وجلد الذات المصرية بل والبصق عليها من خلال أحداث الرواية, وإفراغ الصديد بفأس غليظة.
وفي النهاية يلتقط المؤلف حدثا معبرا وهو توقيع عقد توكيل السيارات بين الجانب المصري والجانب الياباني ليلتقط مغزى هاما نقرأه في وصف هذا المشهد كما ورد في الرواية:"وكانت الصورة المنشورة لتوقيع عقد التوكيل فريدة ومعبرة, يظهر فيها الحاج عزام بقامته الضخمة ووجهه السوقي ونظرته الثعلبية المراوغة وبجواره يجلس المستر ين كي رئيس مجلس إدارة شركة تاسو بقامته اليابانية الضئيلة ونظراته المستقيمة ووجهه المهذب الجاد.. وكأن المفارقة بين مظهر الرجلين تلخص المسافة الشاسعة بين ما يحدث في مصر وما يحدث في اليابان".
ولما كان المؤلف يحوي بداخله طاقة من الغضب والرفض تجاه السلبيات والتشوهات والعشوائيات والتناقضات في المجتمع المصري فإنه ركز طول الوقت على نماذج مريضة ومشوهة ولم تستطع عدسته التقاط صورة إيجابية أو صورة صادقة واحدة فكل النماذج كاذبة أو مدّعية أو فاشلة أو ناقمة أو محبطة أو شاذة أو منحرفة أو متواطئة, ولا يستطيع أحد يعيش الواقع المصري أن يلومه في ذلك فهذه النماذج تكاد تشكل جزءا هاما من الحياة المصرية في السنوات الأخيرة.
ولكن هذا لا يمنع من وجود نماذج صادقة وشريفة لا يخلو منها مجتمع وهي جديرة أيضا بالرؤية والتسجيل لأنها تمثل حالة صعود ضد تيار عام يميل نحو الهبوط, ومن المعروف أدبيا وفنيا وديناميكيا أن الصعود جدير بالاحترام والتسجيل والتقدير أكثر من الهبوط فهو أكثر سموا وشرفا, ولكن مع هذا نجد أن الأدب غالبا يميل إلى تسجيل نماذج الهبوط والسقوط ربما لكونها أكثر درامية وأكثر تنبيها وإزعاجا ووخزا للضمير العام خاصة حين يتبين أن هذا الضمير أصبح مريضا أو نائما ويحتاج لزلزال يهزه.
وهنا يأتي الزلزال في صورة رواية مثل عمارة يعقوبيان يحشد فيها المؤلف كل ما يهين الضمير المصري العام ويؤلمه من صور جنسية فاضحة وأنماط شذوذ جارحة وغريبة ومحرجة وصور فساد عفنة الرائحة ومظاهر قذارة في الشوارع وأعلى السطوح وفي النفوس. فالمؤلف هنا يشعر أن المجتمع المصري الذي يخاطبه غير جدير بالرحمة أو الشفقة أو احترام المشاعر لذلك فهو يعمد لأن يبصق عليه بلا رحمة وأن يجرح مشاعره بلا أدنى تحفظ وأن يهينه بلا أي حرج أو اعتذار, وأن يخفي إيجابياته وحسناته ويتنكر لها إمعانا في التنكيل به, وكأن المؤلف تعمد أن يأخذ القارئ إلى مقالب الزبالة ومحطات الصرف الصحي في المجتمع المصري وأبعد عينه عامدا أو غاضبا عن الحدائق والمنتزهات وبقايا النبل والشرف في نفوس بعض المصريين الذين ما يزالون يحلمون ويحاولون إنقاذ هذا الوطن الغالي مما لحق به من تلوث وتشوه بالكلمة الصادقة الناصحة والنصوحة وبالفعل الإيجابي الصابر والمثابر والمحب.
اقرأ أيضاً:
الشائعات في عصر المعلومات / الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(5) / شخصية الرئيس(بين الزعامة والوظيفة)4