تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها وعرض مزاياها بل أن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام وتصاعد الطلب عليها. ويتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير وقيم واتجاهات بحيث يصبح الطلب على تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك على صناعة السياحة بقدر صدقه على صناعة السينما وجراحات التجميل وكذلك الأسلحة.
ولعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة وأكثرها ربحية، ولذلك فمن الطبيعي أن تسعى تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها وتساعد على ترويجه، وأن تجند لنشر تلك الثقافة –أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية على رأسها الإعلام وعلم النفس بل والتاريخ أحيانا. وهكذا شهدنا عبر سنوات طوال آلاف الأفلام والكتب ودواوين الشعر، بل والدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية والسبيل الأوحد للحصول على الكرامة والاحترام والحفاظ على الحقوق.
لقد ازدهرت تلك الثقافة وضربت بجذورها في كافة نواحي الحياة بحيث لم يعد أمام الدول والجماعات مهرب من غواية الحصول على الأسلحة حتى لو لم تكن تخطط لقتال، فعليها دوما تكديس الأسلحة لكي لا تغري أحدا بالاعتداء عليه، وبحيث تستمر تجارة السلاح في الازدهار تحت كافة الظروف. وما أن تشتعل الحرب حتى يبلغ ذلك الازدهار أوجه ولا يقتصر تدفق الأرباح آنذاك على منتجي السلاح فحسب بل يشمل العديد من المهربين وتجار السوق السوداء وغيرهم، ومما يدعم ذلك أن مناخ الحرب بما يفرضه من سرية –خاصة فيما يتعلق بصفقات الأسلحة وعمولاتها- يشجع استشراء الفساد دون رقابة أو خوف من افتضاح، بعكس ما ينبغي أن يفرضه مناخ السلام من شفافية تتيح على الأقل فضح الفاسدين والمرتشين، ولعلنا ما زلنا نذكر تعبيرا شاع بيننا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عن "أغنياء الحرب" أي أولئك الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء فجأة بفضل مناخ الحرب والسوق السوداء، غير أن "أغنياء الحرب" هؤلاء لا يحتلون سوى ذيل قائمة أغنياء الحرب الحقيقية.
لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلى قائمة الدول التي تتصدر صناعة السلاح وتتربع الولايات المتحدة على رأسه، تليها روسي، ثم فرنس، ثم بريطاني، وألمانيا، ثم هولند، حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم وتحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة، ومن المثير للانتباه أن الدول الأربعة التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمين في مجلس الأمن المسؤول عن "السلام العالمي".
نستطيع في ضوء ما تقدم أن نفهم مصدر تلك المقاومة الشرسة التي تثيرها الدعوة لثقافة السلام، فهي في النهاية مجرد ثقافة لا تستند إلى صناعة تدعمها وترعاه، شأنها في ذلك شأن ثقافة الطب الوقائي في مقابل صناعة الأدوية، وثقافة حماية البيئة في مقابل الصناعات الملوثة للبيئة.
لقد استخدم جدوين باروز في كتابه تعبير "المجموعة القذرة"، وغني عن البيان أنه لا يقصد بطبيعة الحال شعوب هذه الدول، فهو شخصيا ناشط بريطاني في حقل المنظمات غير الحكومية المعارضة لهذا النوع من التجارة، وغيره العديد في كافة أنحاء العالم يدعمون ويمولون بل ويقدمون أرواحهم أحيانا دفاعا عن تلك الثقافة، ولعل بعضنا ما زال يذكر المناضلة الأمريكية اليهودية داعية السلام راشيل كوري، البالغة من العمر 23 عاما التي سحقتها جرافة إسرائيلية خلال احتجاجها على الممارسات الإسرائيلية في رفح مارس 2003.
صحيح أن مجموع أعداد الناشطين في مجال ثقافة السلام في العالم لا يمكن أن يقارن بأعداد العاملين في أجهزة القتال والأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مثلا، وصحيح كذلك أن تمويل أنشطة السلام بل وحتى أنشطة التعليم والرعاية الصحية لا يمكن أن يقارن بتلك المليارات التي تنفق على صناعة وتجارة السلاح، وصحيح كذلك أن الدعوة لثقافة السلام تتعرض دوما لمحاولات التزييف والتهجم ووصمها بأنها ليست سوى دعوة لاستسلام المظلوم للظالم، وأنها نقيض لثقافة المقاومة؛ ورغم كل ذلك فإن ثقافة السلام ما زالت رغم كل شيء تحاول الاستمرار في الحياة مستندة إلى تزايد الدمار الذي تحدثه تكنولوجيا الأسلحة المتطورة، وما تنذر به أسلحة الدمار الشامل الأكثر تطور، وما يؤدي إليه ذلك من تزايد وعي من يدفعون بالفعل ثمن الحرب ويتحملون خسائرها ودمارها.
ترى هل يمكن أن ترى الأجيال القادمة تصاعد وعي المقهورين والمظلومين وضحايا الحروب بإمكانيات وجدوى النضال السلمي والكفاح المدني، في مقابل ذلك الثمن الباهظ والنتائج غير الحاسمة للاعتماد على السلاح.
نقلاً عن جريدة الأهرام، 7 سبتمبر 2006
واقرأ أيضاً:
أصداء الانتفاضة التونسية[1]