عقلاء المجانين0
أصل الجنون
في اللغة: الجنون في اللغة الاستتار. تقول العرب: جن الشيء يجن جنوناً إذا استتر وأجنه غيره إجناناً إذا ستره قال لبيد:
حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
يعني الشمس ألقت يداً في ليل مظلم. وستر الظلام الفجاج والطرق.
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي:
يا غافلاً عما تجن ضلوعي ... أنسيت ويحك عبرتي ودموعي
وجن الليل بجن جنوناً وجناناً إذا دخل. ومنه قوله سبحانه: "فلما جن عليه الليل رأى كوكباً" وأجن الليل الشيء أجناناً إذا غطاه بظلامه. قال العتبي: وأجنه الليل أي جعله في ظلامه في جنة، قال الشاعر يصف مفازة:
وصرماء مذكــار كــــأن دويها ... يعيد جنان الليل مما يخيل
حديث أناسيّ فلما سمعته ... إذا ليس فيه ما أبين فأعقل
وقال الشاعر:
ولولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرض عياض بن ناشب
الصرماء المفازة التي تصرم الناس عن الماء أي تقطعهم. والمذكار التي لا يدخلها إلا ذكور الرجال لصعوبتها كالمرأة المذكار التي لا تلد إلا الذكران. والجنان القلب سمي بذلك لاستتاره.
أنشدني أبو الحسن محمد بن علي القزاز لديك الجن:
خـذ يــا غـلام عنان طــرفك فاحمه ... عني فقد ملك الشمول عناني
سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ... فمتى يفيق فتى بــه سكـــران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحـك في جنون جناني
والمجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه، قال الله جل ذكره "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعى ربه إني مغلوب فانتصر" وقال تعالى: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركته" يعني فرعون وقال ساحر أو مجنون.
سمعت علي بن عبد الله السمرقندي يقول: سمعت أبا القاسم الحكيم يقول: من عرف نفسه كان عند الناس ذليلاً ومن عرف ربه كان عند الناس مجنوناً.
ولقد قال مشركوا مكة في النبي صلى الله عليه وسلم حين تحداهم إلى الإيمان بالله: إنه مجنون وساحر وشاعر وكاهن. أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن نصر اللباد، قال: أنبأنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال حين حضر الموسم يا معشر قريش إن محمداً رجل حلو الكلام، وقد أغار أمره في البلاد وأنجد، وإني لا آمن أن يصدقه الناس، فابعثوا رهطاً من ذوي الرأي والحجى إلى أنقاب مكة على مسيرة ليلة أو ليلتين، ليلقوا الناس، فمن يسأل عن محمد فليقل بعضهم أنه ساحر، وبعضهم أنه مجنون، وبعضهم أنه كاهن، وبعضهم أنه شاعر، إن لم تروه خير من أن تروه فبعثوا ستة عشر رجلاً في أربعة من الطرق في كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة في مكة يقول لمن يسأل أنه كاهن ومجنون، ففعلوا ذلك فتصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرجو أن يلقى الناس أيام الموسم، فيعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء وفرحت قريش وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
هذا دأبنا ودأبك ما عشنا، فنزل جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر، فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله هو. فأهوى جبريل بيده إلى كعبه، فقال: كفيت أمره، فمر الوليد بحائط فيه نبل لبني المصطلق وهم حي من خزاعة وعليه بردان يتبختر فيهما، فعلق سهم بإزاره فمنعته الخيلاء أن ينزعه منه، فنفض السهم، فأصاب أكحله فقتله، ومر به العاص بن وائل السهمي، فقال جبريل: كيف تجده؟ فقال: عبد سوء، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيت أمره. فركب حماراً يريد الطائف فصرعه الحمار على شوك فدخلت شوكة باطن قدمه فتقيحت فقتلته. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال: عبد سوء. فأهوى جبريل عليه السلام بيده إلى رأسه، وقال: كفيت أمره. فتفسخ رأسه ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل عليه السلام: كيف تجده؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بئس العبد هو. فضرب جبريل عليه السلام بجندك في وجهه، وقال: كفيت أمره. فعمي ثم مات.
وأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين" يعني الذين سميناهم. فلما آذى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنهم فقال: "ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون" وقال: "ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون" وقال: "وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين" وعزاه فقال: "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" وقال: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون".
ثم ناضل ونضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب عنه جميع ما قيل فيه، ولم يكلفه الإجابة عن نفسه كما كلف غيره من الأنبياء عليهم السلام. ألا ترى أن نوحاً عليه السلام لما قيل له: "إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين" قال: "يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ" وكذلك هود عليه السلام لما قيل له: "إنا لنراك في سَفاهة" قال: "يَا قَوْم لَيْسَ بي سَفَاهَةٌ" وقال فرعون لموسى عليه السلام "إني لأظنك يا موسى مسحوراً" فكلف موسى الإجابة عن نفسه فقال: "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً" أي هالكاً.
وفي هذا مزية للرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء عليهم السلام. ألا ترى كيف أجاب جل ذكره عن جميع ما قيل فيه نحو قوله تعالى: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" "وما هو بقول شاعر"، "ولا بقول كاهن" "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" وقوله تعالى: "ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى" حين قالوا: إنه يقول ما يقول من تلقاء نفسه "وما صاحبكم بمجنون" وقوله تعالى: "أو لم تتفكروا ما بصاحبهم من جنة" وقوله: "إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة" وقوله تعالى: "فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون" وإلى الجنون أشار قوم هود في قولهم "أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء".
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمير ومحمد بن عمران بن عتبة، بدمشق، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رجل من أزد شنوءة يسمى ضماداً وكان راقياً فقدم مكة فسمع أهلها تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجنوناً، فأتاه فقال: إني رجل أرقي وأداوي فإن أحببت داويتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد عبده ورسوله. فقال ضماد: أعد علي. فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم. واستعاد ثانياً. فأعاد عليه الصلاة والسلام. فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء والبلغاء فما سمعت مثل هذا الكلام قط، هات يدك أبايعك، فبايعه على الإسلام، فقال: وعلى قومي. فقال عليه السلام: وعلى قومك. قال الراوي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سرية فمروا على تلك البلاد، فقال لأميرهم: هل أصبتم شيئاً؟ قالوا: نعم، أداوة. قال ردوها فهؤلاء قوم ضماد.
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن، قال: قرأت على أحمد بن عمر بن الصلت النسوي، قال: حدثنا علي بن حزم، قال: حدثنا أبو عبد الله الضرير، قال: حدثنا يزيد بن ذريع عن داود بن أبي هند، أخبرنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي، قدم علينا حاجاً، قال: حدثنا عبدان بن محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال عن عبد الله بن المبارك عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس، قال: قدم أبو العراف اليماني، وكان من أشراف اليمن، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء وهو يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا خلفه شيخ يقول: إياك وإياه فإنه مجنون كذاب، فسأل أبو العراف عن ذلك الشيخ فقيل عمه أبو لهب، فأتاه فقال: ما تقول في ابن أخيك؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون. فقال له: تباً لك، إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم، وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه. فقال له أبو لهب: فما هذا الذي يقول؟ قال وحي ورسالة وحق وصدق أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنه عبده ورسوله. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أظهر دعوته واستفحل أمره في ثمانين فارساً من قومه مسلمين.
والمجنون عند أهل الحقائق من ركن إلى الدنيا وعمل لها وطاب عيشاً. بذلك نطقت الأخبار. حدثني أبي رحمة الله، قال: حدثنا محمد ابن شوار حدثنا محمد بن رافع حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال: خلق ابن آدم أحمق ولولا حمقه ما هنأه العيش. وسمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يقول: سمعت محمد بن المسيب الأرغياني يقول: سمعت عبد الله بن الحسن الأنطاكي يقول: سمعت يوسف بن إسباط يقول: سأل سفيان الثوري: من المجنون؟ فقال: من لم يميز غيه من رشده. سمعت أبا علي محمد بن عمر الربودي يقول: سمعت علي بن الحسين بن أبي عيسى الهلالي يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: دعاك الله إلى دار السلام، وقد آثرت في دنياك المقام، وحذرك عدوك الشيطان، وأنت مؤالفه طول الزمان، وأمرك بخلاف هواك، وأنت معانيه صباحك ومساك، فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟.
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أحيد القطان البلخي يقول: سمعت أبا شهاب معمر بن محمد العوفي يقول: سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سمعت خلف بن أيوب، وسأل عن الأحمق، قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه.
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يبال ما نقص من دينه بعد أن سلمت له دنياه. وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعة وهو يسعى في عمارة دنياه. وسئل آخر: من الأخرق؟ فقال: من خرب آخرته بدنيا غيره.
أنشدنا أبو جعفر محمد بن علي الطيان القمي بمرو الروذ قال: أنشدنا محمد بن سعيد بن سهيل
ويتبع >>>>>:كتاب عقلاء المجانين2