لقد واجهت أغلب الجماهير العربية خبر إعدام صدام حسين بوابل من الغضب، أفضى لمقالات غاضبة وشعر بليغ وتصريحات سياسية وثقافية منددة، بل وصل الأمر للمشاجرات الكلاميّة مع العراقيين الذين يتواجدون قربهم. باختصار، لقد كان الغضب عارما.
غالبا، مواقف كهذه تؤسس نوعا من العداوة بين أغلب العراقيين و بين أولئك المتبنين لمواقف الغضب تلك، إذ أن العراقي يعتبر صدام حسين سببا مباشرا بالكثير من معاناته وبالتالي يتحول التعاطف معه نوعا من الاستهزاء أو التقليل بحجم معاناته شخصيا.
وانطلاقا من حُسن الظن بالأشقاء العرب، فحريٌّ بالعراقيين تدارس الأسباب الدافعة للموقف الشعبيّ ذاك، ومحاولة فهم العناصر التي أدّت إلى التعاطف، وبالتالي الرد عليها وفق التجربة المباشرة للشعب العراقي مع فترة صدام حسين في الحكم.
تعتبر أولى العناصر هذه هو التعتيم الإعلامي على حقائق ممارسات النظام السابق في العراق، وذلك لانتفاء وسيلة الفضائيات في الوطن العربي، أو الصحافة الحرّة في العراق. ولما شيّدت الفضائيات، أبدت صورة وهمية لصدام بمخائل العروبة والوطنية والقوة، بينما (الحقيقة) أن ممارسات صدام حسين الداخلية قد حولت حزب البعث العربي الاشتراكي لجهاز استخباراتي كبير يعمل أفراده على التجسس على المواطنين وعلى إجبارهم بالانضمام إليه أو تصفيتهم بحال الرفض، وكما تحوّل الفكر القومي بكثير من الأحيان لممارسة استعراضية على حساب المواطن العراقي الذي كان يخسر امتيازاته بالمطلق لأشقائه العرب الوافدين؛
دون أن يتجشم نظام صدام حسين بإيجاد أي توازن أو تطوير الشعب اقتصاديا ومؤسساتيا. فمن الناحية الاقتصادية، كان العراق حتى عام 2003 يعتمد اعتمادا كليا على تجارة النفط في إنماء مشارعيه، وإن كانت أغلب المشاريع الكبرى قد انتهت في بداية الثمانينات عقب نشوب الحرب العراقيّة~الإيرانية. ويذكر أيضا، بأن التنقيب عن النفط في العراق قد أوقف بأمر من صدام حسين بعام 1972، ولم يستأنف حتى عام 2004.
كل هذا أنتج حالة من التوتر الاقتصادي في العراق، لاسيما بعد اجتياح الكويت وما ترتب عليه من عقوبات دولية لم يبدو نظام صدام حسين مكترثا لها، لأنه كان يعمل بفلسفة التضحية التامة، وتشهد أفلام قصيرة لصدام ومعاونيه كعلي حسن المجيد ذكرهم بأن خسران الشعب العراقي لحياته لهو أمر متوقع ومقبول، وفق أفكارهم، في إدارة الدولة بشقيها الداخلي والخارجي.
وبغض النظر عن النظرة المسترخصة للحياة العراقيّة -التي أعطى نظام صدام حسين الكثير من الشواهد العملية على تبنيها من قبله- فإن الشعب العراقي عاش فترة مريرة من التعتيم الإعلامي والخنق الاقتصادي واللاعدالة الاجتماعية التي كانت تعامله وفق طائفته ومنطقته، وهي تقاليد أتت مع مبادئ النظام الصداميّ الذي لم يكن سوى مسرح لتمرير وتطبيق آراء صدام حسين بالحياة والشرائح الاجتماعية في العراق. أما من ناحية التسلح، فقد نقلت فضائية العراق، مع باقي الفضائيات العربية، عزم صدام حسين على إنشاء ما أسماه "بجيش القدس"، الذي سيزمع بتحرير فلسطين من أيدي اليهود، وكانت لذلك ضجّة عربيّة وتعاطف كبيرين.
إلا أن الحقيقة التي لم تنقلها الفضائيات العربية، أن صدام حسين لا يمتلك الأسلحة الكافية والتدريب العصري لربح أي معركة، لأن خزينة الجيش العراقي كانت مفلسة بعد حرب تحرير الكويت، والتي أسفرت عن الكثير من تدمير آليات ومدرعات الجيش العراقي، وقد تم ضرب سمعة الجيش بشكل موجع عندما نشرت الصحف العالمية صورا للجنود العراقيين وهم يستسلمون إثر الجوع والضعف الذي اعتراهم لسوء إدارة نظام صدام حسين للحرب.
وكانت فترة ما بعد حرب الخليج الثانية فترة ركود وخمود للجيش العراقي، واقتصرت على ابتزاز دولي لتفكيك آخر الصواريخ والآليات العراقية الهجومية، ومع هذا كانت الفضائيات تنقل خبر تجنيد صدام حسين لمليون رجل وامرأة بغية دخول القدس، رغم أن تقنيات الحرب الحديثة ما عادت تولي عظيم اهتمام للتفوق العددي أمام قوة الطيران الحربي والأسلحة شديدة الفتك.
كذلك صورت الفضائيات العربية أن صدام حسين هو الوحيد الذي تجرأ على ضرب إسرائيل، بينما لم يكن هو الوحيد (سبقه الأسد، السادات، عبد الناصر والممالك العربية سابقا) الذي فعل هذا، ولم تكن تلك الضربات مؤثرة أو منهجية وإنما كانت لاستجلاب ردّ إسرائيلي بغية كسر التحالف العربي ضد العراق بعد غزوه للكويت. ما حصل أن الكيان الصهيوني لم يرد، واكتفى بأخذ مليارات الدولارات كمساعدات عسكرية وإنسانية، وأفشل محاولة صدام حسين لكسر الطوق حوله.
أما ثاني عناصر هذا التعاطف، فهو العداء والتخوف من إيران، التي تعتبر دولة ذات تأريخ مشترك مع الدول العربية والإسلامية شرقا على حدودها. لقد تخوفت الأنظمة العربية الخليجية من إيران إثر انتصار الثورة الإسلامية بعام 1979 وما تلاه من سياسة "تصدير الثورة" التي أقلقت الأنظمة الملكية واليسارية بالمنطقة، وكذلك أقلقت الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن (ومازالت) تنظر بعين الارتياح لأي نظام ما لم يكن ليبراليا ومتطرفا بعلمانيته، بغض النظر عن مدى ديمقراطيته.
إثر هذا، تم تجنيد نظام صدام حسين بالمال والسلاح (خليجيا وعالميا) لتولي شؤون تدمير النظام الإيراني، وقد تم مناصرة هذه الخطوة من قبل التيار اليساري العربي بغية استرداد "الأحواز" إلا أن الواقع الميداني أثبت أن الأحواز لم تكن على لائحة الأهداف وإنما تدمير النظام الإيراني الجديد، وهكذا تحول صدام حسين لرجل ريغان في الشرق الأوسط، وصار مبعوثه دونالد رامسفيلد يزوره في بغداد مزودا إياه بالأسلحة المحظورة والتوجيهات الضرورية، ولا يخفى أن الولايات المتحدة كانت تدعم إيران من جهة ثانية وقد تم اكتشاف هذا في فضيحة "إيران~كونترا" الشهيرة.
عندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية، كان العراق قد خسر 1.19 تريليون دولار أمريكي وقرابة المليون إصابة بين قتيل و جريح، كما لم يكن الحال الإيراني أفضل إن لم يكن أسوأ بكثير. كانت الحرب النظامية الأطول بالقرن العشرين، وكانت قد حققت أهدافها المتوخاة أمريكيا بتدمير البلدين المسلمين وإغراقهما بالديون وكذلك ضرب العلاقات الإيرانية العربية بعد عمليات تشويه إعلامي كبيرة وضخمة مستمرة حتى يومنا هذا، ولا يخفى أن للنظام الإيراني توجهاته الخاصة فعلا، إلا أن استفادة صدام من العداء العربي الشعبي لإيران أعطى فائدة كبرى بتبرير الكثير من الممارسات ضد الشعب العراقي ذو الأغلبية الشيعية، رغم أن العرب الشيعة العراقيون لم يكونوا على تقارب أو توافق مع نظام إيران الجديد إلا بعض أحزاب ذات توجهات دينية بحتة شبيهة بأفكارها بالإخوان المسلمين وغيرهم ممن لا يولون الانتماء القومي أو الوطني السياسي أي أهمية.
لذا، كون صدام يعادي إيران، وكون إيران مكروهة عربيا سواء لطائفتها أو لما تحتازه من أراضي أو لدعمها لمنظمات فلسطينية وعربية (كحزب الله) معينة لا ترضي أو تقنع كل التوجهات العربية، فإن الوقوف لجانب صدام حسين بمحنته بدا واجبا "عروبيا" عند البعض، مستشهدين بتأريخ حربه الطويلة مع إيران.
العنصر الرابع، هو جدلية أن صدام حسين رئيس شرعي للبلاد، وأن انتزاعه عن سلطته ومحاكمته وإعدامه لم يكن ذا شرعية وبالتالي فإن هذا كافي للتعاطف معه. وحقيقة، إن مصطلح "شرعية" لا يمكن التعامل به في حقبة الجمهورية العراقية الأولى، لأن مصدر الشرعية الوحيد هي الانتخابات المباشرة، بينما كان وصول حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة وفق انقلاب عسكري أدى لتعاقب أسماء جلّها وصلت للرئاسة لما لها من سيطرة على الأنظمة الأمنية لا أكثر.
لذا، كان وصول صدام حسين مقرونا بكثير من التصفيات لخصومه في داخل وخارج حزب البعث، وبقائه في السلطة لمدة عقدين ونصف بلا أي انتخابات حقيقية وبمعاونة أقربائه الذين تولوا سلطات متفرقة ومهمة في العراق. لذا، فإن القول بشرعية صدام حسين للسلطة على العراق لهو أمر يفتقد للصحة لأن النظام العراقي السابق لم يكن يعترف بالنموذج الديمقراطي للحكم، وإنما بالنموذج السوفيتي الاشتراكي له، وكان صدام حسين معجبا جدا بشخصية ستالين وله عنه كتب عدّة في مكتبته.
خامسا، كانت الفضائيات قد صورت بأن صدام حسين مثال القائد الإسلامي العربي المؤمن، وقد أرسى هو هذا المفهوم بدخوله لصالة المحاكمة ملتحيا ومتأبطا نسخة من المصحف الكريم. إلا أن الحقيقة تشهد بأن صدام كان اشتراكيا يساريا طيلة حياته، ولم يعطي للتدين أو الشعور الديني جلّ أهمية، لا بل إنه أصدر أوامره سابقا لإضعاف المظاهر الدينية في العراق وتنشيط تجارة الخمور في عدة محافظات كانت تعتبر شديدة التمسك دينيا كالنجف والأنبار وكربلاء. أيضا، كان لصدام حسين معارضة ورفض شديدين لكل التيارات الإسلامية سواء أكانت سنيّة أو شيعية، وعمل على تصفية مرشديها جسديا، وكذلك أتباعها.
لكن، بعد ثورة عام 1991 الشعبانية في العراق، تحول صدام (مجبرا) لتبني الخطاب الديني السلفي المتشدد، وتحويل السنّة العراقيين لمنتمين للفكر الأصولي المتشدد بغية استخدامهم مستقبلا لمنع أي ثورة كرديّة شمالا أو شيعية جنوبا أو وسطا. أما صدام حسين ذاته، فقد كانت السبائك الذهبية في قاع قصره والحمامات المطعمة بالذهب، وسيارات أبنائه الفاخرة دليلا على عدم تقشفه أو تدينه.
خاتما، إن الموقف العربي من صدام حسين هو موقف جزئي يكون مبنيا على أفكار مسبقة أو أولويات مغايرة، وليس ساهيا (المواطن العربي) بأن صدام حسين كان ديكتاتورا أضر بشعبه، وأنه ما فعل أي شيء لصالح العرب إلا لتجميل صورته على حساب راحة العراقي، وكان حريا بالعربي أن لا يشكر صدام على نعمه وهو يرى شقيقه العراقي يسقط جوعا، ألما، سجنا، قهرا، ترويعا وقتلا.
يجب النظر لصورة صدام ككل لأنها وحدها من تعطي الرأي الحقيقي والحيادي بحقه. يجب أيضا أن نقدس دمائنا العربية فوق كل إنجاز مهما اعتبرناه كبيرا، وأن دمائنا ودماء أشقائنا لأعزّ من صواريخ تطلق على أعدائنا أو على فرص عمل نجنيها.
آن الأوان لتكون معاييرنا قائمة على كرامة الإنسان فينا وشرفه وعزته وكيفية صون حكوماتنا لهذا، لا على مواقف سياسية أو أي مواقف ثانوية، لأن هذا يدل أننا مازلنا لا نولي هذه العناصر الأهمية التي تستحق. وبالنهاية، الأفراد يفنون ويضعهم التأريخ بالمكان الذي يستحقونه سواء أكان حسنا أو سيئا، ونبقى نحن الشعب العربي الواحد المطالب بلملمة جراح بعضه وتقدير آلام شرائحه وعدم التفريط بهم لأي موقف ثانوي، فما نحن فاعلون؟ وقد يناقش البعض بأن الأمور أسوء حاليا وأن مساوئ صدام حسين مبررة فيما لو تذكرنا حفظه للأمن والناس سابقا.
حقيقة، أن الوضع العراقي معتم عليه كما أسلفنا، وأن ضحايا العنف الأمني سابقا لا تقل نوعا وكمّا عن ما يجري حاليا، إلا أن تلك السنون قد طويت تحت النسيان، وأنها لم تكن بأفضل أو أسوأ مما يجري الآن، ولذا لا يمكن نسب مقارنة كهذه إلا لمن شهد الوضعين بداخل العراق.
* ويضيف الدكتور وائل أبو هندي الابن العزيز أحمد أهلا بك وبكتاباتك على مجانين والتي أظهرت غضبا شديدا إثر اغتيال صدام حسين.... نشرنا ما كتبته يا أحمد وإن كنا نعرف أن لعراقيين آخرين آراء أخرى ولكننا هنا على مجانين ننشر آراء الجميع أهلا بك وكل عام وأنت بخير.
واقرأ أيضًا:
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين/ لماذا تنعي مجانين صدام حسين؟/ الشبه بين قتل صدام والمستعصم مشاركة/ مجانين تنعي صدام حسين مشاركات2