أحياناً في لحظات تأملاتي أشرد بفكري وأصل بخيالي لتصور حالة غير موجودة، وأفترض بعض الافتراضات غير الواقعية، وأصنع عالماً كاملاً يتعلق بها، وشخوصاً وعلاقات مرتبطة بها. ومن هذه التخيلات أنني أتصور حالتي وحياتي لو كنت كفيفة، أو غير مبصرة! كيف تكون حياتي لو كنت كفيفة؟
فالمجتمع يطلق على هذه الفئة ذوي الاحتياجات الخاصة بعد أن ظل سنوات طويلة يطلق عليهم المعاقين، وأحياناً متحدي الإعاقة، وما يشبهها من تعبيرات لا يدرك المبصرون الذين أطلقوها كم تؤذى الكفيف، ولكنه أصبح يتفاعل معها ويتقبلها ببساطة تثير الدهشة والإعجاب معاً.
والمجتمع في نظرته للكفيف تحديداً لا يخرج عن حالين إما الشفقة الشديدة والتعاطف المبالغ فيه الذي ينتج في المجمل العام علاقة مبتورة مع الشخص الكفيف أو يؤدى لعدم التعامل أصلا بسبب عدم قدرة المبصر على تخيل كيف يتعامل مع الكفيف، والحالة الثانية هي الرهبة والوجل، لأنه يتصور أن هذا الشخص الكفيف ليس إنساناً مثلاُ بشكل طبيعي، وأن لديه نقصاً كبيراً يجعله أقل منه في (التصنيف البشرى) فيتوه المبصر ولا يمتلك مفاتيح التعامل بدوره!
والحقيقة أن الكفيف مظلوم في مجتمعنا بهاتين النظرتين، فقد شاء لي القدر أن تربطني علاقة صداقة متينة وجميلة بإحدى الشخصيات النادرة التي فتحت لي نافذة واسعة على هذا العالم الذي كان غامضاً على قبل معرفتها، عالم المكفوفين.
كان هذا منذ ثماني سنوات كاملة، هي عمر صداقتنا . لقد اكتشفت أن الكفيف شخص عادى تماماً مثلنا، يستطيع أن يتعامل ويدرس ويتعلم، بل ويحصل على الدكتوراه ويتفوق ويفوق أقرانه، ولديه طموحات وأحلام واتجاهات في شتى مناحي الحياة، بل ولديه قدرات إبداعية كأي شخص آخر، ولديه موقف مثل أي شخص له مبدأ، ويمكنه أن يعيش في المجتمع بشكل طبيعي لو سمح له وأعطاه الفرصة أن يتعامل معه بشكل سوى يحترمه ويقدره إنسانياً!
وصديقتي هذه الآن وبعد تخرجنا في كلية الإعلام، وحصولها على تقدير عام جيد، التحقت بالعمل بقطاع الأخبار بإتحاد الإذاعة والتليفزيون، ويشهد رؤساؤها لها بالكفاءة الكبيرة في العمل، سواء على جهاز الكمبيوتر الذي تجيد التعامل معه من خلال برامج خاصة بالمكفوفين، أو من خلال القيام بالأعمال الأخرى التي تتطلبها طبيعة عملها.
وماذا أيضاً؟! تعرفت أيضاً مؤخراً على نموذج آخر رائع من خلال عملي، شاب في الثلاثين من عمره، يظل يثابر حتى حصل على الدكتوراه على الرغم من أنه ولد كفيفاً.
لو عدَّدت النماذج فلن أنتهي، ولكن من يبصر؟
إن فقدان البصر لا يعنى فقدان أي شيء آخر كإنسان له مشاعر وقلب وأفكار ومنظومة إنسانية متكاملة، وذات إنسانية متفردة، ولا تعنى فقدان البصيرة، ولا تعنى أن نعزل الكفيف عن حياته الطبيعية، والممارسات المعتادة للبشر العاديين. من الظلم أن نفعل.
فإذا كنت أشعر بالظلم والقهر من بعض ظروف المجتمع لأسباب كثيرة- لم يحن وقت البوح بها الآن- فإنني حتماً كنت سأشعر بأضعاف مضاعفة من الظلم لو كنت كفيفة.
واقرأ أيضًا:
ليسوا وحدهم أصحاب الديك البلاستيك !