حاولت في التعتعة السابقة أن أوضح كيف أنني أكره الحرب كره العمى، عادى، وفى نفس الوقت أدعو لـ: "ثقافة الحرب" التي هي ليست "فعل الحرب"، ولا هي "حب الحرب"، ولا "اختيار الحرب"، ولا "إعلان الحرب"،...إلخ ، امتد التناقض إلى تناقضات أخرى حين ميّزتُ بين السلام، الذي لم أتوانَ عن تأييد معاهدته فور توقيعها بل وقبل توقيعها، (قبول مبادرة روجرز – عبد الناصر-، وزيارة السادات للكنيست)، وبين ما أسميته "ثقافة السلام" (أهم نتائج التطيبع). رفضت أن تكون هذه الورقة (المعاهدة) مرادفة للسلام الذي يسوّقونه لنا، قبلتُها استسلاما قاسيا مرا بأثر رجعى، رافضا أنها إعلان لنهاية الحروب. لم أستطع أن أفسِّر أو أفهم هذا التناقض الذي أعيشه هكذا إلا بالرجوع إلى أصول إيجابيات "المؤامرة البيولوجية".
المؤامرة البيولوجية هي أصل الحياة، (ماتياس بروكرز في كتابه "نظريات المؤامرة: ترجمة 2005): كلمة conspire تعنى أصلا "التنفس المشترك"، اشترك كل من حامضيْ الرّنا RNA والدّنا DNA في مؤامرة فتخلقت الحياة، بفضل الله. وحين اكتسب الإنسان العاقل "الوعي" (وأحد تجلياته يسمى "العقل")، استطاع أن يفسر الأحداث من خلال القانون البقائي التآمري، وبدلا من أن نفرح بوعينا، ونحسن استعمال عقلنا، رحنا ندمغ كل من يحاول تفسير الجاري بهذا القانون البيولوجي البقائي، بأنه متواكل، ميتافيزيقي، جاهل، لأنه يفكر تآمريا بنظرية المؤامرة، مع أنه لا يفعل إلا أن يكتشف ويعرى التهديد الملاحِق للجنس البشرى كله.
الكتاب أصلا يتناول أحداث 11 سبتمبر 2001، فنّد الكاتب فيه كل الاعترافات، والتسجيلات، وعدّد كل الملابسات والشواهد التي تثبت دور المخابرات الأمريكية والرئيس بوش كاملا فيما حدث، هذا ما هدى الكاتب إلى التعميم قائلا: ص (5) " ...لن نتمكن من فهم عالمنا المعقد والمؤامراتي دون نظرية مؤامرة معقولة"، فعزى كل ما يجرى إلى: "... نشوء نخبة سلطوية فوق قومية أقل عددا،...، وأكثر سطوة مقارنة بعلاقات السلطة السابقة" ثم أردف مؤكدا: أن العالم تحكمه مؤامرة كبرى تديرها: "... ثلة من عمالقة الرأسماليين يحكمون العالم سرا، تحت لافتات "المنافسة الحرة" و"اقتصاد السوق"، ثم ينبه: ومع ذلك ما زال بيننا من السذج من ينكر ذلك!!
مرة أخرى:
ثقافة الحرب هي معايشة برنامج "البقاء التآمري" بدرجة ما من الوعي، وهو البرنامج الذي حافظ على الأحياء التي نجحت أن تبقى حتى الآن (واحد في الألف من بين كل الأحياء!! الجنس البشرى من ضمن هذا الواحد). العقل البشرى هو أحد تجليات هذا الوعي، وقد أصبح قادرا على إدراك تحركات التآمر وخططه بدرجات مختلفة، وبدلا من أن يستعمل البشر ذلك لمزيد من النجاح في البقاء بشرا متطورا، انفصم البشر إلى أكثر من نوع، يهلك بعضها بعضا بالتآمر بين أفراد نفس النوع، لصالح القلة المسيطرة، على حساب كل البشر، دون استثناء القلة الغبية المتآمرة، حيث تضعنا تصرفاتها على قمة الأحياء الجاهزة للانقراض.
ثقافة الحرب إذن هي حالة الوعي البقائي التي تلزمنا بالوقوف طول الوقت في حالة استعداد دائم، بل وإقدام جاهز للحرب المستمرة بكل أشكالها، ليس فقط في مواجهة هذه الثلة الطاغية، ولكن لنحارب "معا" كل القوى التي تهدد بقاء الجنس البشرى "معا".
ثقافة السلام (بغض النظر عن معاهدة السلام، أو وثيقة الاستسلام) هي أن ننخدع فنصدق أنه لم تعد بنا حاجة إلى شحن وعينا طول الوقت بأنه على بعد خطوات منا وحش مفترس، يملك سلاحا ذريا، ودعما دوليا متآمرا، يقتلنا ويطردنا يوميا من فوق أرضنا ثم من فوق الأرض كلها. المطلوب منا –حتى نعيش ثقافة السلام!!– هو أن نسترخي، ونأخذ بالأحضان هذا الصديق الجار المسالم الذي يحتفظ بالقنابل الذرية ليرصها ديكورا في صالات المفاوضات، ويزين بها ممرات محافل مؤتمرات القمة العربية، نعم نأخذه بالأحضان مطمئنين جدا للسلام حتى ونحن نقرأ أحدث الأخبار كالتالي (المصور : 14 أبريل 2010) ".. بدأت إسرائيل تطبيق الأمر العسكري الذي يقضى بإبعاد سبعين ألف مواطن من الضفة الغربية إلى غزة.. إلخ" علينا –حسب قواعد ثقافة السلام- أن نتيقن أن هذا ليست تطهيرا عرقيا ولا حاجة، هو مجرد تنظيم سكاني لمواطنين ضائعين "ياعيني!!"، ضلوا الطريق إلى موطنهم الأصلي.. قبل التاريخ!!
وبعد؛
.. أنا لا أقصر تفسير "الجهاد الأكبر" على مجرد جهاد النفس ضد نزعاتها الشريرة، وصلني أن الجهاد الأصغر هو أن نحارب الطغاة الظلمة الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أما الجهاد الأكبر، فهو الحرب التي نعيشها معا بشكل مستمر في حالة استنفار دائم ضد مؤامرات الانقراض الشامل غباء وجشعا واستغلالا وإذلالا، وللحديث بقية!
نشرت في الدستور بتاريخ 5-5-2010
اقرأ أيضا:
هل نحن في حاجة إلى زعيم، أم إلى رئيس، أم بطل قومي؟ / أغنية أوباما في جامعة القاهرة ترجمة وتعقيب!