الكرسي يأكل الثورات والأحزاب والأفراد والعقائد والشعارات، وفي مجتمعاتنا هيمن الكرسي وساد وقهر وظلم وقتل الحلم والأمل.
وما يجري لثورة مصر هو التعبير المتوقع عن داء الكرسي الذي تصابُ به القوى التي تتسلم السلطة في البلدان التي ما عرفت الحياة الدستورية وإحترام القانون. وقد إنتصر الكرسي على الحركات السياسية في البلدان العربية، وأجهض الثورات بأسرها، وها هو يتأسد في مصر لينسف أركان ثورتها، ويزعزع يقظتها ويخنق نهضتها، ويهدم معالم وعيها وتطلعها الإنساني الحضاري المعاصر.
وهذا يعني أن النفس السياسية العربية لا تزال نزيلة الكرسي ومستعبدة بأصفاده الثقيلة، وتتحكم بها إرادته التي تصادر بصيرتها، وتسحق آدميتها ووجودها الوطني. وبسبب هذا الأسر والأمية الحضارية التي يرعاها الكرسي، تنحدر الثورات إلى منزلقات الإنحراف والتداعي في أحضان الفردية والحزب الواحد، والتفاعلات السلبية الدامية المريرة.
إن تحويل الدستور إلى إعلان ونصوص يخص بها الفرد نفسه، إنما تصريح بلسان الكرسي وتأكيد لسلوكيته المتصفة بالتجبر والتكبر والخروج من طور البشرية، والولوج في أوهام التأله والفوقية والمعرفة المطلقة، وغيرها من إنحرافات التفكير والتصور التي يمليها الكرسي على البشر.
ولا يُرجى من حركة سياسية لها تجربة ثمانية عقود من التنظيم والثقافة والتواصل الفكري، أن تخطو وفقا لمنطلقات الكرسي، وكأنها تناست رسالتها، ودورها التأريخي والإنساني الذي يملي عليها تقديم المَثل والقدوة الحسنة، كسُنة حضارية تمضي على هديها الأجيال.
إن هذا الخطأ الذي تحقق في بداية الصيرورة الثورية المصرية، ربما سيؤدي إلى تداعيات لا تخطر على بال، ستبدد الطاقات وتحرفها بإتجاهات مضادة للثورة وأهداف الإنسان الثائر على الظلم والطغيان والفساد والحرمان.
ولا يمكن فهمها على أنها مراهقة سياسية أو قلة خبرة، بقدر ما قد تكون وسيلة لإشغال الناس وإبعادهم عن التحدي الحقيقي، والأهداف التي يجب أن تحققها السلطة السياسية وتسعى إليها مع الشعب، وهذا الأسلوب إنتهجته الثورات في القرن العشرين بسبب عجزها عن الإيفاء بوعودها، حيث يتم إختلاق الأزمات والمواقف والحروب والصراعات من أجل عيون الكرسي، وإطالة عمر البقاء في أحضانه، من غير إعتبار لحاجات الإنسان ومصالحه الوطنية.
فهل سيكون مرسي فوق الكرسي، أم سيغيب هو وحزبه في الكرسي؟
إن الأيام القادمة ستجيب، لكن المخرج الوطني الإنساني الألمعي، هو التراجع والإعتراف بالخطأ، وفي ذلك فضيلة ذات شجاعة ووعي وطني وأخلاقي وإنساني!
وأملنا أن يتدارك الساسة هذه السقطة، ويتعلموا منها درسا ثوريا إنسانيا رشيدا، ينبر دروب الحرية والديمقراطية الصالحة لحياة الأجيال المتعاقبة.
واقرأ أيضا: