ثلاثة ساهموا في الحداثة! زولا، أورويل، فوكو1
العصر الوسيط نهاية للعالم القديم؛ وقد استغرق العالم القديم زمن ألف سنة لينتهي من العقل البشري، هي زمن العصر الوسيط من القرن الخامس (سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476) حتى القرن الخامس عشر، بالتحديد حول عام 1942، عام إضافة كولومبس دنيا جديدة وعام انتهاء ظاهرة الأندلس. تميز العصر الوسيط بالتعليم الديني وهو مجرد حفظ الكتاب المقدس ووصايا أتقياء الدين؛ تم الخروج منه بانتشار التعليم المدني في شكل المدارس المدنية والجامعات التي تدرس وفق العقل والمنطق بعيدا عن الحفظ والتلقين أي التعليم وفق الفهم وليس مجرد الحكي لتراث القدماء. وقد واكب ذلك وساعد عليه سقوط الإمبراطورية البيزنطية عام 1453، وعودة إسبانيا إلى أوربا في نفس عام وصول كولومبس إلى الدنيا الجديدة عام 1492، وحركة مارتن لوثر البروتستانتية لإصلاح دراسة الدين وتمكين الناس من قراءة كتابهم المقدس بأنفسهم دون حجر من رجال الدين المحترفين المحتكرين حق التفسير والفتوى.
ما سبق أدى إلى نشاط ذهني لدى ناس أوربا وولد حركة ثقافية استمرت من القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر فيما سمي بعصر النهضة، مع ظهور حركة العقل الفلسفي المبني على أسس التراث الفلسفي اليوناني والروماني فيما سمي بعصر العقل، والذي أدى إلى استنارة العقل الأوربي واتساع المرجعية الثقافية لتشمل أجواء ذهنية وعلمية مدنية، والذي من أجله سمي عصر الاستنارة خلال القرن الثامن عشر. استنارة العقل الأوربي أدت إلى ظهور الثورة الصناعية، والتي تعادل الثورة الزراعية في أثرها لتغيير مسار الحضارة، بل حلت محلها لتنهي الزراعة كعامل حضاري كاف، من خلال التصنيع والتنقيب عن المعادن والمواد الخام والنقل السريع. ظهر هذا في أواخر القرن الثامن عشر وشمل القرن التاسع عشر، خاصة في بريطانيا.
الثورة الصناعية غيرت الحياة اليومية للناس، وأظهرت نخب اضطرت للعيش خارج القصور والإقطاعيات شأن الماضي حتى تتمكن من مباشرة أعمالها الاقتصادية ومصانعها، مما ترتب عليه الاحتكاك بناس الشوارع والعمال والمتسولين والمتخلفين عقليا والمرضى والمجرمين وسائر فئات المجتمع. ويمكننا اعتبار الزمن الذي شغل عهود النهضة والاستنارة وإصلاح التعليم وإصلاح التوجه الديني البروتستانتي، أي من القرن الخامس عشر وحتى الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، هو عصر حداثة أوربية مبكر؛ حيث بدءا من القرن العشرين ستظهر الحداثة الناضجة وتوابعها من ما بعد الحداثة وغيرها.
حين أنشئ خط للسكة الحديد بمصر كان لخدمة الاستعمار الإنجليزي في غياب الوعي الوطني، والتنمية التي نتغنى بها كانت تتم أيضا في غياب الوعي الوطني فحين تنشأ ترعة ينشأ بجانبها جسر لخدمتها وحماية جوانبها من الانهيار، بينما الفلاحون يظنون أن الجسر إنما ابتدعوه هم لحمايتهم من الفيضان. بسبب عدم الوحدة في الوعي صارت ازدواجية في التفكير. البنية الحضارية المعاصرة تعتمد مرجعية خلاف مرجعية الناس. نحن الفلاحين نعيش بمرجعية الحضارة الزراعية التي تلصق وعينا ببيئتنا بينما الحضارة الصناعية لا تضع حسابا لهذا الالتصاق وإنما مرجعيتها اقتصادية بحتة وكم من طرق أنشأت لا يمسها قدم بشر. فرغم الحميمية الوجدانية التي تربطنا بالريف والفلاحة علينا الوعي بأسس حضارة جديدة تكتسح كل البشر عنوانها "الصناعة".
وأخيرا جاء ميشيل فوكو (1926 - 1984) مشككا في جنون المهمشين الذين حاول جبروت الصناعة التخلص منهم لصالح النخبة المستغلة المسيطرة.
فوكو قسم ما بعد العصر الوسيط، ووعى فيه مسرحا تلعب فوقه التغيرات الحضارية أدوارا هامة لابداع مستقبل البشر. اعتبر الفترة الكلاسيكية (من 1660 حتى نهاية القرن 19) الرحم الذي تجذرت فيه بنيات العصر الحديث، والذي تخلى فيه الناس عن شذاذ المجتمع من مجانين وغيرهم من المهمشين حيث حجزوا وأخرسوا. وقد بدا هذا الإجراء واضحا خلال القرن 18 حين أنشأ مكانا، حجز فيه المجرمين والفقراء المتعطلين والمجانين وأغلق عليهم فيما يشبه النفي الداخلي عن المجتمع. بالتحديد يضع فوكو تاريخا لذلك ببناء المستشفى العام سنة 1656 والتي ظلت مجرد "مكان حجز"، حتى جاءت الثورة الفرنسية (1789 – 1799) ليبدأ تغير التوجهات تجاه الجنون.
العصر الوسيط كان ما زال ملوثا بالعقل القديم المفعم بالخرافات والرؤى المفزعة عن الموت ونهايات مفجعة للعالم وربط الجنون بكل هذا باعتباره سترا للعقل، يصور خروجا مروعا من دنيا العقلاء. وتم ذلك باعتماد منظري ذلك الزمن (العصر الوسيط) سياق خطاب تم به منطقة وعيهم وإعطائه الشرعية الاجتماعية والقانونية. "سياق الخطاب السائد" (discourse) لدى فوكو هو نظام معرفي شامل يبرر للبشر أفعالهم أيا كانت حقيقية أو مزيفة. حتى الجنون يختص بسياق خطابه الهذائي (delirium) والذي يبرر للمجنون أفعاله مصورا له أمورا غير واقعية (delusions and hallucinations) على أنها حقيقية.
العالم القديم ونهايته العصر الوسيط اعتبر الجنون "سترا للعقل" (جن = ستر في العربية)، ومن ثم فلا حل له سوى تجنبه بالنفي الداخلي والحجز وإجباره على الصمت والخرس. ولقرب عهد الفترة الكلاسيكية لدى فوكو بالعصر الوسيط وعي البشر فقد العقل بمثابة زغللة وعمى للعقل بسبب شدة سطوع خبرة انفعالية (فوكو)؛ وأسميه أنا "إعصار انفعالي" فيما يشبه التشخيص الحديث "متلازمة ما بعد الصدمة" (post- traumatic syndrome) يلغي كل نشاط إيجابي. ومن ثم جاز حصاره مثلما حوصرت صور اجتماعية منحرفة وسلبية كالسييء العواطلي والكسول والمتخلف ذهنيا. ثم جاء القرن 19 ليرى البشر أن الجنون مجرد شر أخلاقي، والمجنون مجرد مريض قابل للعلاج؛ وهي بداية للتفكير الحديث في الجنون.
إذا نحينا جانبا حالات الصرع والتخلف الذهني والإعاقات الجينية والهرمونية مثل الطفل المغولي والقماءة الدرقية، والخلل العضوي والهرموني؛ سيتبقى لنا جنون ناتج عن اضطراب ثقافي في المجتمع. في الماضي أدرجت حالات الجذام مع الجنون في خانة واحدة؛ لكن علينا اليوم تحديد جازم للجنون الثقافي أو الراجع لاضطرابات في التواصل اللغوي والثقافي (civilized madness due to failure of language or culture communication). هذا النوع من الجنون رآه فوكو غير عضوي ويتوقف على نوع المجتمع الذي ظهر فيه، حيث يعتمد على عوامل ذهنية وثقافية وبنيات اقتصادية خاصة بهذا المجتمع تؤدي إلى ظهور الجنون الثقافي. كل مجتمع يبني ودون وعي منه خبرته عن الجنون ومن يعتبره مجنونا ومن يعتبره عاقلا.
بدءا من عصر النهضة وخاصة القرن19، صار ينظر إلى الجنون كمرض عقلي وأخلاقي، حيث اختصت كل مرحلة تاريخية بمرجعيتها الثقافية لتعريف الجنون وكيفية التعامل معه. عن فوكو؛ اذا أردنا فهم بنية الجنون يلزمنا فهم البنيات الاجتماعية التحتية الثقافية والذهنية والاقتصادية.
قبلا نفرت النخب البشرية من كل نمط بشري خلاف نمط البنية الرياضية والذي اعتبرته الثقافة الرومانية بدنا سليما يتضمن عقلا سليما بالبديهة، ومن ثم عزلت مرضى الجذام وداء الفيل وتشوهات السمنة وغيرهم مع المجانين حتى تهنأ النخب بعيشهم ولا ترى عيونهم غير نمط الجمال الذي يريدون.
"العقل السليم في الجسم السليم" مقولة رومانية قديمة تأثرت في صدورها بأجواء الرياضة التي سادت الإمبراطورية الرومانية، وتأثرت أيضا بحضارة أسواق العبيد والجواري حيث كانت تقام لهم أسواق تتداول فيها الأبدان عارية كما تتداول أية سلعة. فلفظ "سليم" قصد به سلامة البدن الرياضي وحتى اليوم تتداول العبارة في مناسبات الرياضة أكثر.
لكن العلم اليوم يتناول الموضوع من زاوية علمية مختلفة محتويا عبقريات ذات إعاقات بدنية أو نفسية أو حتى عقلية، الأمر الذي سنجد له أصداءا عالية لدى أمثال فوكو. تأمل المعجزة في علم الرياضيات المعاق (ستيفن هاوكينج).
العالم القديم وحتى نهايته بالعصر الوسيط أعطى للموت أهمية قصوى، نبعت بداية من العقل البدائي ثم تبنتها بعد ذلك الأديان. ونجد شواهد لا حصر لها في الحضارة الفرعونية، وفي الرموز الدينية تجاه الموت. الإنسان يخشى الألم وليس الموت، وحين بغت البشر في بومبي ببركان الموت حيث جمدوا على هيئات بشعة، إنما كان بسبب ألم الاحتراق برماد البركاني الساخن الذي دفنهم أحياء محنطا ملامح الألم وإلا فإن الموت الهادئ يسبب ارتخاء مريحا للعضلات ويفك تقلصات لطالما عانينا منها في عيشنا، ولعل البعض يدعو إلى التمثل بمظاهر الموت طلبا للراحة النفسية والاسترخاء الذهني في مثل اليوجا.
لكن يظل الموت مقابلا للحياة ومن ثم يخشاه الإنسان ويخشى معه الجنون الذي يسلب العقل؛ اذ أن العقل أداة الحياة والعيش ومن هنا بدا كل من الموت والجنون مرعبا للتداخل بينهما، لكن توجد صورة أخرى إيجابية للموت في وعي الإنسان أوجدتها تأملات الكهنة وقبلهم تأملات من طعنوا في العمر واقتربوا من موت الشيخوخة، إذ وعوا أن ولع الشباب بالحياة إنما هو مجرد أداة في يد الطبيعة أو في يد الإله لتحقيق إرادتها أو إرادته في ديمومة الكون الحي، فإذا تحقق النسل وحلت الكهولة طالب حكماء الشيوخ بالتماس الهدوء ثم بعد حين، طالبوا بطرح شهوة البدن، ويحكي غاندي أنه في كهولته اتفق مع زوجته على الحد من النشاط الجنسي.
فزع الاقتراب من الموت، تمكن الإنسان من اسنبداله بتعبير التوجه إلى الموت والترحيب به؛ حيث اعتبر الموت بوابة شاقة بعبورها ينال الإنسان الراحة الأبدية. ومن هنا جاء ربط ديني بين الموت والراحة الأبدية الحكيمة، بل قد تنشأ في أواخر العمر أو حتى لدى الشباب في شكل التصوف واليوجا ورياضات النفس للاسترخاء وطرح هموم العيش، وأتذكر كيف يوما حين فكرت في بناء مدفن لي وشكل هذا هاجسا جعلني أناقشه مع الكثير ممن أعرف واذا بأحدهم (ملتح) يفرح بي ويهرع لمساعدتي ويذهب معي والمهندس لقياس الأرض وتحديد الموقع، وقد فهمت سر اهتمامه حين عرض علي بعد ذلك إطلاق لحيتي إذ هذا ما يليق بي بعد أن عرفت ما فيها (أي الحقيقة) بنشاطي لبناء المدفن استعدادا للموت وما بعده؛ فالموت لديه ليس مخيفا وإنما هو إجراء طقسي، مرارته آتية من ذكريات هشة منبعها الرغبة في استمرار التمرغ في رغبات الطبيعة الشبقة الشقية، لذا كان موت الشباب كارثيا ونعبر عنه بموت العرسان وكان استشهاد الشباب أجدر لنوال نصيب أوفر وأوثق في الآخرة لحرمانهم مبكرا من إشباع شبق الطبيعة.
إذا ربطنا الموت بالدين تغيرت الصورة، ولم يعد الموت بداية العدم وإنما وظف لخدمة الوعي الديني وصار بوابة خير إذا أحسنا أداء طقوسها الدنيوية، ولجناها ونلنا الراحة الأبدية. قوبل الجنون بالموت من حيث مرادفة العقل للدنيا، فإذا فشل الإنسان في ترويض عقله، اعتبر دليلا على اقترابه من بوابة العبور لمرحلة تالية، والكهنة ينظرون إلى المجنون خلاف نظرة الأطباء، وأتذكر أيضا كيف حين علم زميل طبيب ملتح بتشنيع أمن الدولة أنني مجنون أن نظر إلي بعطف وصار يهمس لي أن الأمور ستتحسن قريبا وسنبدل اسم ميدان رمسيس باسم أبو بكر وميدان العتبة باسم عمر بن الخطاب، ولم يشك مطلقا أنني تقي بل حدث مرة أن جذبني ليطلعني، ببراءة السذاجة، على أمر جلل قائلا: "عمرك شفت واحد ملحد تعالى شوف"، وطاف بي ممسكا بيدي حول زميل كان يجلس بشرفة المستشفى.
حيادية المجنون تجاه الطبيعة لمسته حين جمعتني الظروف بامرأة حسناء كانت تعلم بوصمتي من قبل أمن الدولة (كوني مجنونا) ورغم أنني وقتها كنت ما زلت كهلا إلا أنها أقبلت تحادثني بحياد جنسي كامل وكانت فائقة الجمال فصرت محتارا بين التمتع الذكوري بتلون ملامح أنثى تتحدث أم أقنعها بحياديتي المفترضة من قبلها. النظرة القديمة والمنتمية لعقل العالم القديم والعصر الوسيط تصورها ثلاثة مواقف سابقة شرحتها، تتمثل في رؤية مغايرة للمعتاد تجاه الموت وتجاه الجنون وتجاه الطبيعة. حيث الطبيعة مقابل الثقافة. الجنون مرادف الموت حيا. ولذا رأى فوكو أن الجنون قد أخذ دور الموت في العقل القديم وحتى عصر النهضة، نافيا المجنون من زمرة المجتمع حيث صار مكانه الحجز كما أن مكان الميت القبر.
عصر فوكو الكلاسيكي تميز بكون الجنون أخرسا في حين حرره عصر النهضة. لكن لتبدأ ظاهرة الحجز؛ حيث شهد القرن17 تشييد العديد من مباني حجز المجانين، وأصبح واحدا بالمائة من أهل باريس محجوزا بها. لقد تأكدت آلية الحجز لتشمل ليس فقط المجانين وإنما أيضا المتعطلين والسجناء والفقراء لتمنع انزعاج نخب باريس وتتيح لهم عيشا هنيئا بعيدا عن منغصات المهمشين. ولم تكن هذه الأبنية مجرد مكان طبي وإنما كانت بنية قضائية إدارية، وصار لها سلطة قضائية على السكان غير قابلة للاستئناف لانتمائها إلى السلطة الحاكمة.
هذا النوع من السلطة الاستبدادية شملت كل فرنسا وامتدت لتشمل كل أوربا حيث اعتمدت كلا من الحكومة والكنيسة هذا الحجز. فكرة الحجز بدأت بظهور الحاجة لعزل المجذومين، وسرعان ما توسعت الفكرة لتشمل كل الفئات المزعجة للنخب. ومع تطور الصناعة والتجارة ظهرت رؤية جديدة للفقراء والمتعطلين والمتسكعين ليس كمدعاة للشفقة وإنما كمعوق اقتصادي، وبدأت تتبلور رؤية جديدة لأخلاقيات العمل ونظرة جديدة للمدينة حيث تم ربط الالتزام الأخلاقي والقانون المدني بالإجبار السلطوي. مع ظهور نظام البوليس التقليدي في القرن 18 ، انتمى إليه الحجز لتتأكد مقولة ضرورة العمل إذ صار من مهام البوليس ليس فقط حجز المرضى وإنما المتسكعين والمتعطلين (رفض ظاهرة العواطلية). بهذا تغير مفهوم الحرية الشخصية وارتبط بنظام نابع من الثورة الصناعية ومتطلبات جديدة للعمل حيث الصناعة صارت تتطلب مزيدا من العمال.
في عصر الإقطاع كان الإقطاعيون يتولون تنظيم البشر كأقنان كي يعيشوا هم في هدوء بقصورهم أما في عصر النهضة فقد حاز نعيم العيش كثرة من أصحاب التجارة والصناعة الذين اقتضت مصالحهم التواجد في شوارع المدن مما استوجب توليهم تنظيم البشر بطريقة مغايرة للإقطاعيين، والعصر الوسيط مجرد امتداد وخاتمة للعالم القديم حيث عاشت النخب في إطار خاص ومحمي وشبه مسور في قصور ونحوه تاركين الشوارع والطرقات للعامة والمهمشين، كل هذا تغير مع عصر النهضة. رأى فوكو أن مدن عصر النهضة اعتنت بالتخلص من المتسولين ومشاكل العمل، ومن ثم فإن مراسيم الحجز استهدفت كتلة المتعطلين الذين رفضت حشودهم بسبب التطورات الاقتصادية.
ومثل الحجز أحد حلول القرن 17 لمشاكل الأزمة الاقتصادية. وصارت مباني الإصلاح (تهذيب وإصلاح) تأوي المتشردين والكسالى والمتعطلين. بهذا قام الحجز بتخفيض إعانة البطالة ومن ثم خفض تكاليف العمالة. هذا الإجراء في مكافحة البطالة والتشرد عبر عن تقدير أخلاقي عال لقيمة العمل كحل للفقر. لقد انتهى الزمن القديم حيث كان يمكن لفرد ما ادعاء أنه حر غير مضطر للعمل، واعتبر التشرد والتسكع بلا عمل خطيئة. وهكذا ظهر الجنون في سياق جديد يعطي العمل قيمة عقلية وأخلاقية عالية لدرجة التقديس، بعكس صورة تستدعي إلى ذاكرتي الآن، حيث مئات الرهبان في التبت ما زالوا يسيرون في الشوارع كل يوم يتسولون مرضاة للرب.
صار للمدينة قيما أخلاقية غريبة وأديرت الأخلاق كما تدار التجارة والاقتصاد، وحرصوا على تحقيق مظاهر الخلق الجيد على من يريدون التخلص منهم. وانعكس هذا في الحجز حيث استهدفوا غرس النظام الديني والأخلاقي في المحجوزين (تهذيب وإصلاح). وأصبح مبنى الحجز رمزا للبوليس الذي رأى نفسه كبديل ومعادل مدني للدين لبناء مدينة مكتملة الأخلاق. ومما أتذكر كيف وفي خضم بلهنية يعيشها الأغنياء كان من أحتك به من أبنائهم يخفي عوراته عني ويحثني على الأخلاق الحميدة!. حيث أن الأخلاق الحميدة تحمي الأغنياء من تطاول الفقراء.
مفهوم الجنون يتغير مع تغيرات المجتمع، وبظهور نظام الحجز حدد بمقتضاه معنى للجنون من حيث أن المستحق للحجز هو مجنون بالقوة إن لم يكن بالفعل، فمبدأ نظام الحجز هو إنشاء مؤسسي لأبنية صالحة لعزل من ترفضه النخب المسيطرة ومثلت هذه الأبنية مساحة اجتماعية معتمدة شملت ضمن من شملت المجانين، وقد أوحى بضرورة إيجاد نظام للحجز، الفائدة التي عادت على المجتمع حين حجز المجذومون بعيدا عن الناس (توجد مستعمرة للجذام في أبو زعبل). ولهذا رأى فوكو أن الحجز هو إجراء اقتصادي يطبق على ناس معينين وميول معينة بإنشاء أماكن آمنة لعزل من يراهم المجتمع غير آمنين مثل المجرمين والمتعطلين والمجانين بجامع أن كل هؤلاء فاقدي العقل أو الأهلية المدنية أو الحيثية الثقافية، وحجزهم لهذا السبب لا يعني حاجتهم للعلاج أو أنهم فقدوا عناية ورعاية المصلحين الاجتماعيين ومحبي الخير وإنما فقط لأن سلطة الدولة تحتاج التحكم فيهم وعزلهم عن الناس الأسوياء بالمجتمع لتعطي الفرصة للنخب لتحيا الحياة التي تريدها وتعرف نفسها وفقا للمتغيرات الثقافية، فإذا تحكمنا في غير السوي مكنا السوي أن يوجد لينعم بالعيش الذي يريد. وألاحظ أنه حتى اليوم تسمى إقامة المريض بالمستشفى حجزا ويسمى خروج المريض دون استكمال العلاج هروبا. مع الحجر الصحي ظهر الحجر العقلي والحجر الاجتماعي. والكل يعرف كيف تخشى بعض الأسر الفضيحة فيخفون من يشكون في اختلال عقله داخل البيوت.
هنا قد يلزم إيراد فكرة لي عن المكان. مصطلحات عدة مثل بانوراما ولاندسكيب وخلفية، كلها تعبر عن براح المكان الذي يتمركز فيه جوهر حضارة ما وتشيد فيه هياكله وشواهده؛ وأفضل استعمال لفظ "مكان"، وإذا قلنا بوجود أربعة أشكال حضارية مرت بالبشر حتى اليوم، صار لدينا أربعة أماكن وأربعة مراكز حضارية:
1- البداوة مكانها الصحراء ومركزها الخيمة ونشاط ناسها الرعي.
2- الزراعة مكانها الغيطان ومركزها بيت الحاكم الذي يدير الأرض ويرويها كي يعيش الناس فوقها.
3- الصناعة مكانها المدن ومركزها المكاتب الإدارية الملحقة بالمصانع وخطوط الإنتاج ولا نجد صحراء ولا نجد مزارع وإنما طرق لإدخال المواد الخام إلى المصانع وتوزيع السلع والبضائع على التجار والمستهلكين.
وهنا تصبح المزارع مجرد مكان توريد مواد خام مثل المناجم وتفقد دورها الحضاري الحميم الذي كان في حضارات العالم القديم الزراعية؛ ففي الغرب وأمريكا توجد مزارع صناعية تنتمي إلى خطوط التجميع الصناعي بحيث صارت المزارع مهمشة تماما ولا تعطي المعنى الاجتماعي الحميم القديم كما اعتاد الفلاحون في مصر التمرغ فوقها واعتادت الحبالى التوحم وأكل طينها. الأمر الذي يلزم بهجر المعنى القديم التقليدي للريف والتطلع إلى تصنيع زراعي - حضاري، فحضارة الغرب وأمريكا صناعية بالكامل، رغم أنها مفعمة بالمزارع والمراعي.
4- حضارة الديجيتال مكانها الواقع الافتراضي ومركزها عقل الإنسان ذاته.
حضارة الزراعة انهارت حينما اغتصب الإقطاعيون القصر وأحاطوه بمزرعة صغيرة واستعبدوا من بداخلها من فلاحين. ومع انهيار حضارة الزراعة انهار نظام استيعاب المهمشين ومعهم المجانين. نظاما، كان ينتمي إلى حضارة الزراعة حيث طردوا بعيدا عن قصر الإقطاعي ثم بعيدا عن حقول زراعاته منعا لتعطل فلاحيه؛ ثم جاءت الحضارة الصناعية لتمر بأزمة إعادة بناء المجتمع من جديد وفقا لمتطلبات المصانع وخطوط الإنتاج مما استلزم نظرة جديدة للمهمشين والمجانين وإيجاد صيغة جديدة لإعادة استيعابهم على أسس مغايرة لتلك التي سادت الحضارة الزراعية. آن للثورة الزراعية التي انفجرت منذ عشرة آلاف عام وأثمرت حضارات مصر والصين والهند وما بين النهرين أن تترك مكانها لغيرها من ثورات.
الجنون صار مجرد سبب للحجز ضمن قطاع أوسع من المهمشين والمنحرفين اجتماعيا مثل المجرمين والمتعطلين والعجزة، هذا القطاع حددته وعرفته علاقات العمل الصناعي الجديدة، الأمر الذي تغير معه مفهوم التواجد في الشوارع والطرقات بحيث لم تعد مكانا لعيش عشوائي أو تسكع البشر أو اضجاع حر لصق الجدران.
ألاحظ كيف يتساءل المؤرخون والأثاريون في استغراب: "أين المدن القديمة؟!" ثم يفاجئوننا هم أنفسهم بعدم وجود مدن قديمة كما نريد أن نتصور. وجد بمصر مدينة عمال بجوار الأهرام، لكن لم توجد مدينة لبلهنية عيش مجموعة من المصريين كما مثلا يتلهى الفرعون في قصره، البشر شيد هياكله ومعابده وقصور حكامه ونصب عبادته لأغراض تيسر له التغلب على مصاعب العيش والعمل وليس مجرد مكان لراحة البدن فالبدن راحته بالموت، وقد احترم الفراعنة ذلك جيدا. الحي هو كائن طبيعي مثل أحبائه الحيوانات التي ما أن تغفوا حتى تهب ناشطة تأكل وتجتر وتنزوا، فالإنسان مثلها قد يغفو في أي مكان لكن سرعان ما يهب يزرع ويقلع ويأكل ويسافد في أي مكان. وحتى المدن الحديثة ظهرت بقرب المصانع وخطوط الإنتاج بغرض تنظيم وضمان وصول العمال إلى أعمالهم في الوقت المحدد وبكمية كافية لإدارة وتسيير العمل والصناعة. ومن ثم رفض اتخاذ الطرقات مجرد مكان للاضجاع أو الثرثرة وإنما مجرد مكان للانتقال سواء المواد الخام أو السلع أو العمال.
وفوكو رأى أن الحجز هو إجراء سياسي ظهر مع توسع وممارسة الدولة التسلط والتحكم في مواطنيها. كما ارتبط مفهوم الحجز بظهور الجيوش الكبيرة وظهور أساليب دقيقة لجبي الأموال. مما أوجد حاجة ماسة للتحكم بل ولتعريف من هم الناس ومن هو الإنسان، مما ربط الاقتصاد بالأخلاق، ولم تعد الأخلاق مجرد وصايا عشر وإنما صارت لوائح تخضع للوائح اقتصادية. فقد تقرر حجز كل من كانت له علاقة سلبية مع العمل والاقتصاد. وظهرت المدن لتحل مشاكل العمل وليس لتسعد الناس لأن التكاسل ورفض العمل كان يشكل مشكلة أساسية. ومن هذا التوجه حدث اللبس بين غاية الدين وبين غاية الاقتصاد مما يسر زواجا سريا بينهما، أتاح للدين تمرير خطابه الديني وبرر للاقتصاد تمرير خططه الخبيثة.
وألاحظ ظاهرة المساكن الإدارية بجوار المصانع كيف لم يفهم العمال طبيعتها فورثوها لأبنائهم الذين فوجئوا بالإدارة تطردهم بعد إحالة آبائهم إلى التقاعد بشكل بات قاسيا، هم وعوه غير إنساني. لكن مفهوم "إنساني" تغير وصار مرتبطا تماما باقتصاديات العمل وليس بوصايا عشر العالم القديم، وحتى لو استخدم الدين لحث بعض من ارتبط وجدانه به فلكونه مجرد مؤثر قد يجرب، ولكنه يظل مؤثرا إضافيا غير فعال.
خلال الفترة الحرجة بمصر بين هزيمة 67 ونصر 73 قال لواء بالجيش عن مجند مخبول: "خلوه ممكن يصد دانة"، حيث كان المفروض إخراجه من الجيش وحجزه بالمجتمع بعيدا عن ميدان الحرب، وفي مصر يعد الريف أماكن حجز مفتوحة ويرحل إليه من يعوق حركة المجتمع في العاصمة من شواذ ومتسولين ومتعطلين ومتسكعين يكتفون بنوال بعض مباهج طرق القاهرة، وغيرهم ممن ليست لهم إقامة. على سبيل المثال، نحن المصريين حين تضيق خلقنا وأرزاقنا، تجدنا نهرع لحكي إجراءات سيدنا يوسف عندما مرت مصر بسنوات عجاف، هذا الأسلوب من التكافل والتضامن والحل الأخلاقي تراجع اليوم ليحتل موقعا إضافيا مؤازرا بينما الحل في عصر فوكو الكلاسيكي كان مجرد الحجز للمتشردين؛
وألاحظ أنه مع تصاعد الدعوة للمجتمع المفتوح وإطلاق الحريات لبعض أنواع المرضى العقليين والتعامل بشكل مختلف لذوي الاحتياجات الخاصة وأمثالهم، أن ظهر توجه جديد يتمثل في إبعاد وإقصاء هؤلاء المعوقين لمسيرة التنمية والتقدم، قبلا كان إلى الريف؛ لكن مع ضغط زيادة الكثافة السكانية والبطالة زحفوا إلى هوامش العاصمة والمدن الكبرى لتظهر العشوائيات في جميع دول العالم.
وتغاضت الدول عن العشوائيات، بل استخدمتها لمصالحها وحجزت داخلها كل من لم ترغب فيه أو من لم تسعفه إمكانياته الصحية والعقلية وأضيف إليها لاحقا الاجتماعية، المشاركة في المسيرة التنموية، وأقرب مثل الشاب الذي انتحر بسبب إعاقته الاجتماعية التي حرمته من الالتحاق بالعمل في هيئة عليا في الدولة، رافضا القبوع رهين حبس وحجز العشوائيات.
لقد صارت العشوائيات بديلا للحجز، وصارت كل دعاوى إصلاحها مثل دعاوى تشيع فينا وما زالت يتسلى بها محبو الخير، تتبنى إصلاح السجون والملاجىء والمستشفيات ودور الأيتام وأطفال الشوارع وإزالة المتسولين من الشوارع والطرقات وحجزهم في أماكن لإعادة إصلاحهم وتربيتهم وتأهيلهم للعمل ضمن إطار خرافة مكافحة مثلث الفقر والجهل والمرض.
صار الحديث عن العمل هو الفهم الواعي أو كما يقال في علم النفس هو الخضوع الصحي السليم للواقع واختباره، وصار الحديث عن الرضا والقناعة والسعادة والرومانسية هو مجرد توهان قد يصل لحد الغيبوبة والهذيان والبعد عن الواقع؛ مما تغيرت معه نماذج السوي وغير السوي ومعايير الصحة النفسية، وحدث تغير في مقاييس الفتوى للإجابة عن سؤال يختص بتوفير العيش الآمن السلس المترف للنخبة بتحديد من هو المنحرف ومن هو الإرهابي ومن هو الحالم.
وكما رأى فوكو، فقد ارتبط مفهوم "السواء" (normality) بالقدرة الإنتاجية الاقتصادية بهدف عزل وإقصاء من لا يقدر أو من لا يريد المشاركة في العمل والإنتاج. وألاحظ كيف كان شعار الثورة الفرنسية: حرية – إخاء – مساواة؛ ثم كيف تغير إلى: العمل شرف – العمل واجب – العمل أمانة، وهذا يعد استعانة بالدين حيث ربطت الأخلاق بالعمل ليصبح المحجوزون هم الناس الأشرار . لتتضح العلاقة الغامضة المغرضة بين الدين والاقتصاد.
البوليس المتمثل في سلسلة إجراءات تسمح بحسن سير العمل صار له بعد أخلاقي حيث أن القانون والعرف رفضا كلا من التسكع والجنون. وأتذكر صيغة كانت تختتم بها مذكرات العمل في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين تقول "... وذلك حتى يتم العمل على الوجه الأكمل.." مع ترك السلطة تتولى تفسير ما هو الوجه الأكمل للعمل.
مع نهاية القرن 17 تم عزل المجانين وأجبروا على الخرس. ولاحقا صار الخرس أداة أمنية يلزم بها البوليس من يرفضه من الناس، بل أضيف إلى الخرس العمى والطرش، أو "لا أسمع لا أرى لا أتكلم". فلم يعد مسموحا لهؤلاء الناس الخطيرين بشيء من ذلك؛ وفشت هذه الظاهرة في مصر حتى تندر بها الأطباء وسموها شللا سياسيا بأعصاب البصر والسمع والكلام (الأعصاب المخية الثاني والثامن والثاني عشر). وصار الحجز أداة عشوائية لدى البوليس، وسمي أهم مكان لدى البوليس يسمى "الحجز". وظهر مصطلح "خطر سياسي"، ثم "خطر على أمن الدولة"، ليحل في الخطورة محل تهمة شنيعة راجت عقب الحرب العالمية الثانية اسمها "خيانة عظمى".
مع مجيىء عصر العقل حجز كل الناس المضطربين وغير الأسوياء، وهذا بالتالي حدد ملامح عصر العقل وفقا لخبرته ليحدد ما هو غير التعقل. وصار الحجز مرتبطا بالفضيحة. قبلا في المجنمع الزراعي المكدس حيث تتلاصق الناس كان أمن الناس متوقفا على معرفة الكل أسرار الكل، لكن هذا صار ضد الصناعة التي ظهرت واعتمدت على الأسرار والكتمان جلبا للكسب. وبدلا من تسلي الناس في الطرقات بالأهبل وسماع كلام المخبول والتمتع بالاضجاع في الطرقات، تم رفض كل هذا وظهر الملل ثم الضجر ثم البغض ثم نزع الهوية الإنسانية منهم (Depersonalization). وفي ضوء هذا التغير روعي الكتمان لتجنب الفضيحة . وتغير الوعي بالشر حيث اقتنع الناس بوجوب حجز الشرير الجالب للفضيحة، وسلم الناس أن كل صور غير التعقل والقريبة من الشر يلزم إخفائها بعيدا، وإن ظل الناس يقبلون الفرجة واستعراض المجانين في أماكن حجزهم، ويتمتعون بالنميمة والثرثرة خلف الجدران ويسخرون كاتمين ضحكاتهم في أكمامهم من عناصر السلطة القامعة.
فترة عصر النهضة كانت قريبة من العصر الوسيط حيث اعتبر الناس طرقاتهم وشوارعهم أماكن اجتماعية لهم عقلاء ومجانين وكان من حق الجميع استعراض معيشتهم علنا ثم جاء القرن الثامن عشر ليعتبر الطرقات والشوارع مجرد ممرات لأماكن الناس الاجتماعية بيوتا و"كمبونداتا" (compounds) ومصانعا ومعسكرات جيوش وصارت كل فئة عليها احتواء فضائحها داخلها ومن لا يسمح نظامه بذلك مثل المصانع والجيش تولت السلطة ذلك بإنشاء مآوي ومعسكرات حجز تضم المعاقين والمجانين والمجرمين والعاطلين حيث أمكن مشاهدة المجانين فقط من وراء قضبان الحجز. واعتبر المجانين مجرد حيوانات ووحوش، وقد نزعت هذه النظرة الحيوانية، الإنسانية منهم.
لم ينظر إلى المجنون على أنه مريض، بل أحالت النظرة الحيوانية إلى المجنون كل ما هو هش إنسانيا مثل عدم قدرته على تحمل البرد والجوع والألم؛ هو مجرد حيوان لا يحتاج علاجا ولا إصلاحا وإنما فقط كي تتحكم فيه روضه وأخضعه للنظام والانضباط لكونه مجرد حيوان متوحش. وباعتبار المجنون مجرد وحش يكون قد شفي بتجريده من إنسانيته. اعتقاد أن المجنون حيوانا صار حوازا لدى السلطة برر مسئولية حجزه. ثمة خطاب ثقافي اعتبر أن الحيوان ضد نظام الطبيعة، متناسيا أن الإنسان مجرد حيوان. وهنا ألاحظ أنه خلال فترة فوكو الكلاسيكية، أخطأت الفلسفة إذ اعتبرت أن العقل نظام الطبيعة وليس ناتج ثقافة الإنسان. بينما لمست الكنيسة في الجنون شعورا ساذجا نابعا من الجاتب الحيواني الضعيف في الإنسان. أما اللغة العربية فقد عنت بالعقل الربط والقيد بالواقع والتحكم مقابل انعدام العقل (Unreason) أو الحرية المطلقة. فما هي علاقة الجنون بفقد العقل؟.
في بداية القرن 19 أدين الحجز من قبل أطباء المرض النفسي – العقلي والمؤرخين. وسعى الفلاسفة الوضعيون لتحرير المجانين من جمعهم مع المجرمين. وزاد طلب معالجة المرضى بدلا من سجنهم. ولم يعد الفقر يمثل سببا للحجز وإنما نظر إليه كظاهرة اقتصادية؛ بل نظر إلى بعض أنواع الفقر كسمة ثابتة في حياة البشر، حيث يخدم دورا ضروريا في المجتمع، مما يلزمنا باعادة تأهيل الفقراء وإعادتهم إلى الدولة للمساعدة في تنمية الصناعة التي تحتاج إلى الأيدي العاملة لهؤلاء الفقراء الرخيصة الأجر. وهكذا فإن الفكر الاقتصادي خلق دورا جديدا للفقراء لكن مع شرط ضمان استمرار فقرهم وعدم السماح برفع سقف عيشهم إلى مستوى يشبعون فيه ومن ثم يصعب الضغط عليهم ليرضوا بأقل أجر صامتين.
وفي نفس الوقت نظر إلى الحجز على أنه خطأ اقتصادي بسبب إقصائه الفقراء عن سوق العمل الذي اتضح حاجته الماسة للأيدي العاملة الفقيرة الرخيصة. انتقد الحجز في ضوء تأثيره السلبي على سوق العمل وأيضا بسبب تمويل أماكن الحجز العالي التكلفة. لكل هذه الأسباب فقد جاءت الثورة الفرنسية ليجد الناس المجانين والمهمشين أحرارا في الشوارع والطرقات مرة أخرى.
فوكو رفض إرجاع الإصلاح لدوافع حب الخير والدواع الإنسانية وأرجعه إلى تغيرات بنيوية أصابت طبيعة الحجز بحيث تحول المجانين من مجرد كائنات خرساء إلى امتلاك أصوات ارتفعت لتغير طبيعة الجنون بالاضافة إلى التغير الاقتصادي. لذا وجب عزل المجانين عن سائر المرضى الاجتماعيين. واقتنع الناس أن الفقر والجنون لا يمثلان افتقارا إلى العقل.
المصحة هدفت لتنظيم ضمير المجنون وشعوره بالذنب كمحاولة لتحريره. وأدخلت العمل كقيد يحميه من الحرية الخطرة، وإن كان العمل في المصحة غير منتج إذ فرض كمجرد إجبار وقاعدة أخلاقية، كما ظهر مبدأ احترام الذات حيث الكبت الذاتي حل محل الإكراه الخارجي. وصار الجنون بدلا من ذمه وتوبيخه يحتاج الآن إلى استصدار حكم عليه مستقى من واقع أفعال المجنون ومن ثم فقد بدأ يظهر علم نفس الجنون وإن اقتصر على الملاحظة داخل المصحة دون حوار الذي لن يظهر إلا مع ظهور التحليل النفسي مع فرويد.
فوكو لاحظ ظهور نظام ملاحظة مؤسسات السلطة للناس للحكم عليهم وفرزهم إلى عقلاء ومجانين، وكيف امتد هذا النظام ليشمل بنى اجتماعية أخرى مثل المستشفيات والمدارس والمعسكرات. واكب ذلك وعضده ظهور الطبيب كرجل حكيم لتسلحه بسلطة العلم مما يضمن له قيمة وسلامة قراراته في المصحة. أصبح للطبيب صلاحية شرعية وسلطة قوية على المرضى استمدت أساسا من طبيعة بنية المصحات ومن المرجعية العلمية مما أظهره في صورة "والد" للمريض. الأطباء تمتعوا بهذه المزايا بدون التساؤل عن أصل القوة المعطاة لهم ولا مردودها الأخلاقي. مما أدى في النهاية إلى النظر إلى سلطة الطبيب كقوة سحرية بسبب إيمان المريض به بدون فهم.
واقرأ أيضاً:
الثقافة المصرية أحد روافد الحداثة ! / آليات الإجهاد الثقافي الجمعي المصري! / ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية1