ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية قد تصل إلى آلاف السنين قبل أن ينتهي تأثيرها، وكل ثقافة تشكل مرجعية لنموذج نفسي خاص بها!
أعتمد في هذا المقال على علم النفس الأنثروبولوجي وعلم النفس التطوري محاولاً إثبات أن انقراض بعض النظريات يستلزم انهيار الثقافة الداعمة لها، فلا شك مثلاً في أن انهيار ثقافات مثل المصرية القديمة الخرافية الداعمة للوثنية لم يترك منها في وجداننا سوى ما نحصّله ثقافياً عنها! بينما نجد وجداننا منذ طفولتنا مازال ملتبساً متلبّساً ببعض ثقافات مثل اليهودية تصرّ على العودة بنا إلى الماضي، فبالثقافة نتقدم وبها ننتكس.
خرج البشر بالثقافة من بيئاتهم الطبيعية منافسين تغييرات القوى الجيولوجية والجغرافية ومشاركين في التغيير العشوائي لكوكب الأرض وذلك بواسطة قوة خفية مستمدة من بناء بيئة ثقافية موازية للبيئة الطبيعية، حتى ذهب بعض الأنثروبولوجيون إلى القول بأن البيئة الثقافية هي طبيعة البشر! وهو رأي أتحفظ في قبوله؛ فالثقافة اختيارية تصنع على يد البشر، بينما الطبيعة عشوائية أداتها كامنة في غريزة البشر الحيوانية.
كان البشر في الماضي يستهلكون أربعين في المئة من "صافي إنتاج الأرض الأولى"، الآن وقد تجاوزت البشرية في تعدادها السبعة مليارات نسمة فإننا نأكل من رأسمال الأرض الغذائي ونحرم بقية الكائنات! هذا يعني تأثر عمليات التطور الطبيعي سلباً ليس في البشر فقط بسبب التكدّس الكاسح، وإنما أيضاً في الكائنات الحية الأخرى بسبب انقراضها بوسائل بشرية وحرمانها من فرصة التطور التي كانت تنتظرها، تماماً كما فقدت الديناصورات فرصتها في التطور حين انقرضت قبلاً لكن بسبب كارثة كونية في هذه المرة.
يبدأ التطور الثقافي دوماً بالحفاظ على بعض القديم النافع، وحين كان لا يوجد قديم بشري نافع أبقينا على قديم حيواني نافع كنا نقلّده، ثم توجهنا إلى المستقبل بإنكار قديمنا لاكتشافنا ما هو أكثر نفعاً، وهذه هي آلية التقدم البشري. منذ عشرة آلاف عام خلال زمن الهولوسين وبداية الحضارة الزراعية بالثورة الزراعية -وافق ذلك آخر عصر جليدي- كان يعيش نحو مليون إنسان على الصيد وجمع الطعام والنهب كرّاً وفرّاً.
هذا الأسلوب أدى إلى ظهور العيش البدوي بعد النجاح في تدجين الماشية كآلية طبيعية لتوفير الطعام باستغلالها لجمع الكلأ وتحويله إلى بروتين ولبن، محتفظين من الأسلوب البدائي بآلية "النهب كرّاً وفرّاً" والتي أكدّها ابن خلدون في مقدمته، حين قرر اعتماد البدو في عيشهم على نهب الطعام والنساء بأسلوب الكرّ والفرّ والذي استعاره البدائي من تقليد الحيوان في الصراع على الطعام والإناث.
ثم ظهرت آلية الزراعة، واليوم نحن نعيش آلية الصناعة، وهكذا تبدو مراحل التطور متسلسلة على النحو التالي: الآلية البدائية > آلية البداوة > آلية الزراعة > آلية الصناعة. الآلية البدائية وآلية البداوة لم تتمكنا من إعاشة أكثر من مليون إنسان في كل كوكب الأرض، بينما مع الثورة الزراعية وظهور الحضارة بالمراكز الزراعية الكبرى القديمة: مصر والصين والهند وما بين النهرين، تمكن نحو خمسة ملايين إنسان من العيش. ثم استقرت آلية الصناعة ليحدث الانفجار السكاني ولنصل اليوم لتعداد السبعة مليارات نسمة أو يزيد.
كتب ابن خلدون في مقدمته أن بدو العرب يضربون خيامهم بحيث تتباعد المضارب على مدى النظر، وتعمل المسافات عمل الجدران في كتم الأصوات المعيبة وحجب المناظر المسيئة، وبذلك تتمتع كل عشيرة بأسرارها محفوظة في داخلها.
خطوة تالية للأمام وظهرت مصر القديمة مع اكتشاف الزراعة لتكرس المجتمع النهري الذي تطلّب التصاق السكان لخدمة الغيطان، الأمر الذي أدى إلى قبول وديع للآخر ربما بدأ غير وديع لكن مع التكيف صارت ألفة، وتلا ذلك شيوع أسرار الجميع! كان ذلك في زمن مجتمعات من آلاف ثم ملايين السكان، فما بالك اليوم بمليارات يحتك البدن فيها بالبدن دون عناء وبأريحية تامة ليتغير مفهوم "الاجتماعية" المفتوحة الوعي مقابل سرّية وتكتم وجهامة البداوة. مع الصناعة والحداثة، يرى "آلان واتس" أن لا مندوحة من الرقص كوسيلة ليس لتكيف جديد وإنما لمسح حداثي لمسرح حياة البشر أملاً في العودة بالبشر إلى مرحلة العريّ النفسيّ تمهيداً لبناء وتشييد حداثي لا ندري غايته في ظل تطلع للفضاء يجافي تعلّقاً هستيرياً من الأسلاف بسطح كوكب الأرض السرمدي.
التقاط الطعام بالصيد والجمع هو مجرد آلية طبيعية قلّد بها البشر سائر الحيوانات من أجل حفظ الحياة، مع استبدال كلمة "صيد" بكلمة "افتراس" كتبرير ساذج للسلوك. ثم بدأ العقل البشري في ممارسة البداوة وتدجين الماشية مع حلول الجفاف على سطح الأرض، وهنا يتحتم علينا فهماً حقيقياً لماهية توجيه البشر لسلوكهم للإبقاء على حياتهم من خلال صفات هي في صميمها حيوانية استغلالية أنانية، وليست فقط مجرد تقليد لأسلوب الحيوانات وإنما أيضًا تقليد سلوك بشري من حيث هو سلوك حيواني مضافاً إليه ما تراكم من ثقافة، إلا أننا ندأب دوماً لإخفاء النوايا الحيوانية الطبيعية بعد استبشاعها بنظريات مثلما حاول فرويد وفشل!.
استخدمت البداوة آلية الاستغلال الأناني ذات الأصل الحيواني الكامن في العقل البشري كحيوان والتي أنتجت الاستعمار لاحقاً، حين دجنت الماشية لتتولى التقاط الكلأ لتحوله إلى بروتين ولبن بينما الراعي قاعد براحة يلوك قشة بين أسنانه. وقد شاهدت أثناء عملي في ليبيا كطبيب في ثمانيات القرن العشرين قبيلة "المشاشية"، التي سميت كذلك بسبب مشيها خلف ماشيتها إلتماساً للكلأ من بنغازي على البحر الأبيض شرقاً وشمالاً حتى سبها فى قلب الصحراء الكبرى لأفريقا جنوباً وغرباً.
هذه الآلية البدوية حين نقارنها بالزراعة، نجد أن الفلاح يعاني طوال حياته في تذليل الأرض ويكدّ ويشقى طوال يومه في الزراعة دون أن يجد فرصة ليتمتع بلوك قشة بين أسنانه إلا حين الارتماء مجهداً بمجرد مغيب الشمس. مما نفهم معه ماهية العقلية البدوية التي ما زالت حاضرة حتى اليوم؛ يبذل البدوي المال للأجنبي كي يعمل له، فيتمكن هو من الاسترخاء الدائم بجوار حريمه وما يظنه لذات العيش من طعام وشراب! وتذكر لنا أدبيات التاريخ كيف خاطب البدوي ماشيته العزيزة على قلبه حين هاجر بها إلى مصر: "الآن تمشين فوق الخضرة بعد أن كنت تمشين فوق الرمال"، فكان البدوي يرى زراعات مصر مجرد خضرة وكلأ! لذا قدّروا البرسيم وكانوا يطلقون فيه ماشيتهم للرعي، حيث كان طعامهم اللحم واللبن قبل أن يعتادوا أكل الخضروات وحشائش الزراعة المصرية.
نشهد حاضراً التحول عن مجرد الزراعة إلى تصنيعها والتي أدخلتنا إلى الحداثة بتسببها في الانفجار السكاني وما ترتب على ذلك من تكدّس وازدحام البشرية لتتغير معه كل النماذج النفسية والاجتماعية ويظهر العقل الحداثي بنماذجه الخاصة. النمط البدائي والنمط البدوي فشلا ليس فقط فى إكثار البشر بل أيضاً في حفظ حياة من عاش وإن أورثانا نماذج نفسية واجتماعية بدوية عبرية اشتغل عليها فرويد.
اليوم نقف عاجزين عن الحد من الإنفجار السكاني، بل ونخطط لتقبّل كارثة كونية توشك أن تحيط بكوكب الأرض بسبب تحكم البشر في تطورهم بل وتطور سائر الكائنات الحية- حيواناً كانت أم ونبات- مما يعني ظهور نماذج نفسية واجتماعية حداثية.
أخرج من هذه البانوراما لأقرر أن هدفي ليس فرويد (1856– 1939) بشخصه وإنما فهم نشاط الفكر الحداثي الذي أخرج عقل العالم القديم من الفعالية، فكون أغلبية المعارضين لفرويد ليسوا من علماء النفس يعني أنهم إنما يعارضون ثقافة مرجعية فرويد، مع ملاحظة أن فرويد نفسه قصد بمنظومته النفسية إعادة تفسير تراثه الثقافي والذي يشمل العالم القديم والعصر الوسيط حين دمج في تفسيره الثقافة اليهودية بالثقافة الإغريقية. هذا التوجه من فرويد جعله محل اتهام بالإلحاد من قبل حراس الدين اليهودي من جهة ورائداً من رواد الحداثة المبكرين من جهة أخرى. ورغم ذلك لحقه هو نفسه تطور الحداثة بحدة تجاه مستقبل حر ليتجاوزه ويزيحه فيصبح جزءاً من التاريخ، حيث جاء سترواس (1908 – 2009) ليبين لنا أنثروبولوجياً أن ما في ثقافات البشر من قيمة نافعة تظل سارية فعّالة، كطقس دفن الموتى المفيد لتنظيف البيئة أو تطهيرها حفاظاً على صحة الأحياء.
علينا فهم كيف تحول الدفن من طقس صحي إلى طقس ديني فقط؛ فالمنظومة المعرفية بدأت في صورة دينية كما يظهر لنا فيلم تسجيلي عما يفعله كهنة شعب يسكنون أعالي الجبال حيث الثلوج تتراكم على مدار السنة فتخلو البيئة من حولهم من الطين والتراب. حين يموت أحدهم يخرج به الكهنة إلى قمة الجبل حيث يفكون كفنه ويعرضونه للطيور الجارحة، وبينما تقترب الجوارح لتناول وليمتها يبتعد الكهنة قليلاً لدقّ الطبول وممارسة طقوس دينية حتى تأتي الطيور على الجثة كاملة فينهون طقسهم الديني وقد ضمنوا صحة بيئة عيشهم. هذا الدفن بإتاحة الجثة للجوارح وحرق الهنود لجثث موتاهم يظل مفيداً ومن ثم سارياً وإن بدأ منذ أزمان سحيقة مما يعطينا مثلاً كيف ننتقي من التراكم الثقافي ما يحفظ حياتنا وليس ما يكرس خرافتنا.
سقوط فرويد يفيد سقوط مرجعيته الثقافية لأنها ملفقة؛ لفقت شذرات من حكي ثقافة اليهود وثقافة الإغريق، وبدلاً من الاكتفاء بحفظ البيئة بإجراء بسيط على الطبيعة غامر فرويد بجعل الثقافة طبيعة ثانية للبشر. وهدفي من كتابتي هذه الكلمات ليس هدم فرويد فهو في ذمة التاريخ، لكني أرتجي إيضاح أن أزمة فرويد تظهر ارتباطه بثقافة العالم القديم والعصر الوسيط، وأن المشهد اليوم يشير إلى صراع بقاء أخير لتلك الثقافة بسبب ارتباك أنصارها إزاء سطوع العلم الحداثي. والحقيقة أن إقرار سترواس بقيم ذاتية للثقافات الأنثروبولوجية أطلقت عنان الوعي لدي بنسبية هذه القيم، وأن مرجعية فرويد ليست مطلقة وإنما هي أيضاً نسبية، وإذا جاز في العلم الطبيعي الاعتراف بخطأ نظرية "الأثير" فمن باب أولى جواز الاعتراف بخطأ نظرية فن علاجيّ مثل نظرية فرويد.
لاكان (1901 – 1981) عالم النفس الذي رفض أن يستقي الواقع من اللغة ورأى أن فرويد بنى نظريته قبل عام 1905، معتمداً لدراسته الناتج اللغوي للبشر كالأحلام وأعراض العصاب والزلات اللغوية. والحقيقة أن هذه المرجعية اللغوية تعد امتداداً للحكي اللغوي الذي يمثل جوهر الثقافة البدوية اليهودية التي ينتمي إليها فرويد والتي قصدها بالهجوم بنيّة القضاء عليها، ورغم ذلك بنى نظريته بلبنات منها ودعمها بلبنات إغريقية مما حتّم سقوط ما شاده بسقوط مرجعيته الثقافية التي تنتمي إلى العالم القديم والعصر الوسيط.
كارل بوبر (1902-1994) فيلسوف وأستاذ اقتصاد وليس عالم نفس، قدّم مساهمته في هدم علم النفس التقليدي الذي أراد فرويد تخليده، حيث نادى بخضوع كل ناتج عقلي للنقد والتقييم فيما يسمى بالمذهب العقلي النقدي خلال مجتمع مفتوح على كل الثقافات. قاد بوبر حركة ضد الطب النفسي والعقل anti- psychiatry كبداية لإعادة فهم الوعي الإنساني، حيث قال بكذب التحليل النفسي كعلم لا يمكن إثباته أو تفنيده، وهنا نجد معارضة فرويد تظهر ليس من قبل علماء نفس فقط وإنما أيضاً من علماء آخرين أمثال فوكو وآلان واتس الذي طالب بضم ثقافة الشرق الأقصى إلى مرجعية فهم الوعي الإنساني. بالمثل أزاس Szasz الذي كتب ضد الطب النفسي قاصداً هدم نظريات فرويد وتحليله النفسي.
ساهم كثرٌ في هدم فرويد إلا أن معول الهدم الرئيسي كان قبول ستراوس كل ثقافات البشر كقيمة ثابتة ومرجعية مشاركة في فهم الوعي البشري، ومن ثم صارت مرجعية فرويد قاصرة على ثقافة المرحلة التاريخية المتضمنة حكي دينه اليهودي ودعمه بإضافة حكي الثقافة الإغريقية، حيث استوحى منها أجواءً كحكاية لوط وابنتيه ودعمها بحكايات أوديب وإلكترا من أساطير ثقافة الإغريق! وكلام سترواس يعني أن المستقبل يعد بالمزيد من الثقافات طالما استمر بقاء البشر سارياً، مما نفهم منه أن مرجعية فرويد الثقافية هي مجرد مرحلة في الظاهرة البشرية وليست بمثابة السرة من الصورة، وأنها قد تغدو مع الزمن باهتة جداً بتجاوز البشر إياها.
جيل ديليس (1925 – 1995) Gilles Deleuze فيلسوف وليس عالم نفس كتب ضد عقدة أوديب؛ فهذه المشاركة المتحمسة من غير علماء النفس لهدم فرويد إضافة الى مشاركة علماء الأعصاب إنما تشير إلى ظهور قوى لثقافة الحداثة وإلى انهيار أكيد لثقافة العالم القديم والعصر الوسيط. بيير فليكس (Pierre Felix 1930-1992) عالم نفس شارك جيل ديليس اهتمامه، ولوسي إريجارى (Loce Irigara (- 1930 ناشطة نسائية وفيلسوفة ومحللة نفسية شاركت نفس الهم.
نهاية عالم النفس فرويد حسمها ستراوس عالم الإنثروبولوجيا حين أعطى لكل ثقافة بشرية قيمة، وإذ حاصر المرجعية الثقافية التي اعتمدها فرويد كثقافة إنسانية متماهية كونية الشمول لعموم البشر ذهب للقول بوجود ثقافة ما قبل التاريخ متفردة بقيمتها. أضف إلى ذلك اهتزاز مصطلح "التاريخ البشري" بمقولات هيجل وفوكوياما بعد أن كان يعني شموله الوجود البشري كاملاً، وأن مرحلة العالم القديم والعصر الوسيط إنما صارت مرحلة نزاع ثقافي بسبب غزارة بنياتها الثقافية، وجاء تشييد أبنية العلم الحداثي ليربك أبنية العالم القديم والعصر الوسيط ومعجزاتهما بما فيه معجزة فرويد.
الثقافة المتداولة حالياً في أنحاء العالم تعاني تداخلاً وتكاد تخلو من النقاء والوضوح؛ فنتيجة لزيادة الوعي مع انفجار سكاني ومعرفي ظهرت تعقيدات بالغة على اتجاهات الثقافة. ثم جاء ستراوس ليعطي قيمة لكل ثقافات البشر قديماً وحديثاً، متخلفة ومتقدمة، مما يعني أن أية نظرية ثقافية إنما تؤسس على مرجعية ثقافية نسبية محددة وليس كل الثقافة البشرية مثل ظهور وسقوط نظرية "الأثير".
وفي عصر فرويد انصب الاهتمام على العصاب وخاصة الهيستريا ثم خبل الطفولة، ليأتي بعدها الفصام والاكتئاب الهوسي أو ثنائي القطبية، ولاحقاً بعد معاناة البشر لكوارث حرب فيتنام ظهر ما سميّ متلازمة مابعد الصدمة post-traumatic stress syndrome، لتفسرّ الكثير من الحالات التي كانت تدرج سابقاً كأعراض ذهانية، الأمر الذي أفسره بأن الوجود البشري يمر بأزمان تظهر الجديد دائماً وتفرضه واقعاً بارزاً يلزم الوعي باحترامه كسبب.
والحقيقة أنه في مرحلة سابقة من الوعي البشري والتي تميزت بتفجير ثقافي أعجب البشر كان كافياً لظهور فرضية أو نظرية بمرجعية محدودة نسبياً، حتى النظرية العلمية ونحن نرى أن نظرية الجاذبية لنيوتن ظهر محدودية تطبيقها على كل الكون بظهور النظرية النسبية لأينشتاين! مما يشكك في الاقتناع بفكرة أن الوجود البشري خلال مرحلة تأريخية معينة يمثل "كل التاريخ" بحيث صرنا نفرّق بين مصطلح "التأريخ" ومصطلح "التاريخ"؛ فلم يعد كافياً فرض مرحلة تأريخية نسبية على كل التاريخ البشري بدعوى فرض رؤية مرحلة على كل مسار الوجود البشري سابقاً ولاحقاً، ومن ثم جاز للبعض وصم ما قبل التاريخ بالهمجية والجاهلية.
وإزاء محدودية هذا الوعي السابق، نجدنا اليوم نحتذي بالمنطق العلمي لنغير وعينا بقناعة، كما ظهر مثلاً في هجرنا نظرية "الأثير" كوسط لانتشار الضوء. لكن المشكلة تظهر حين نعالج قضايا لصيقة بالمجتمع البشري، بدءاً من النفس الفردي الى النفس الجمعي، لنجد تحدياً قاسياً قد يشعل حروباً بين المجتمعات سببه في ظني أن الصراع هنا يدخل فيه الجهلاء بينما في الصراع العلمي لا يسمح لغير العلماء بالمشاركة.
علم النفس والعلاج النفسي تماماً كعموم فروع الطب، هو فن يعتمد على العلوم والبصيرة. ومع تقدم العلم تراجعت الاستعانة بالبصيرة والتي أكثر فرويد من استخدامها فارضاً رؤيته كونه يهودي ثقافته إغريقية وفي نفس الوقت مؤمن بداروين! وصرنا اليوم أكثر اعتماداً على العلم منه على البصيرة (biopsychology and biopsychiatry)، مما جعلنا أكثر قبولاً لتدخل غير العلماء المتخصصين مثل آلان واتس الذي أطلعنا في كتابه القيّم "العلاج النفسي شرقاً وغرباً" (psychotherapy east & west) على أن التحليل النفسي برمته يستغنى عنه في الشرق الأقصى فلا يعتمد على معاناة إيجاد علل -قد لا يكون لها وجود أصلاً- لصالح بديل يحث المريض على الانشغال بأمور أخرى لنسيان الأمر برمته متمتعاً بحياته حتى يحين أجله ويموت.
علماً بأن التحليل النفسي قد يستمر لسنوات قابضاً على عنق المريض حريصاً أن يظل مركزاً في بؤرة أوهامه المرضية، وفي النهاية قد يشفى المريض عشوائياً أو يموت كمداً دون نتيجة ملموسة من التحليل مغْفِلين أن المريض يريد مجرد العيش وليس تحوله إلى مادة علمية لفرويد وأنصاره.
قدّم آلان واتس نموذج "الرابطة المزدوجة" (double bind) معبراً عن بساطة مشكلة العيش، بينما تقبّلنا معضلة فرويد المعقدة ربما لجدته وجسارته بشكل هستيري، حتى نما العلم لدينا بما فيه الكفاية لنتجرأ عام 1953 ونحيل العلاج النفسي إلى المنطق العلمي للبت فيه دون الرضوخ فقط للبصيرة. ثم ظهرت حركة مضادة للصيغ التقليدية للعلاج النفسي (anti-psychiatry)، بدأت في ستينيات القرن العشرين على يد فوكو ولانج واساز وفرانكو باساجليا؛ وكان أول من استعمل هذا المصطلح هو دافيد كوبر عام 1967، حيث رفضت الحركة غموض وعشوائية التشخيص وما قد يتسبب فيه العلاج من خطر على المريض يفوق فائدته.
مع ملاحظة أننا بمثل هذه الحركة إنما نتجه نحو إعلان تقدم البشر تجاه الحرية في العلم وإطلاق التفكير، الأمر الذي جعل فرويد نفسه ناقداً لعقل عصره الميثولوجي بجسارته في نزع القدسية عن أفكار عصره المعتمدة على أساطير كلٍّ من ديانته اليهودية والثقافة الإغريقية، ومحاولة البحث عن مسار مغاير للعقل القديم ليفسر ظواهر الوجود البشري.
لم يكن فرويد البادىء بوضع علم النفس على مسار المنطق العلمي، والذي انتقل من كونه مجرد فلسفة مع ديكارت (1596 –1650) إلى كونه علماً ومستحقاً لدخول معامل التجارب باسم علم النفس الحيوي ( biopsychology = behavioral neuroscience). علامات هامة على طريق تأصيل المنطق العلمي ووشوك انقراض حقبة عقلية شملت كل العالم القديم والعصر الوسيط، مؤذناً بانبثاق العقل العلمي الحداثي. فمع استنارة العقل البشري في آواخر القرن الثامن عشر بدأ الناس يستبدلون العلاج الأخلاقي والديني باعتبار مرض البدن هو السبب في تغير السلوك، وكما يقول فوكو "لم نعد ننظر إلى المرض كسُبّة ووصمة وإنما كإعاقة مرضية مثل الصرع والجذام"، ثم أقبل الأطباء على علاج المرضى وليس عقابهم. وفوكو ليس عالم نفس وإنما ناقد أدبيّ وفيلسوف؛ فمع تقدم العلم وإتاحته للجميع وبداية ظهور عقل الحداثة تمكن عديدون من مراجعة علم النفس والطب النفسي.
ويتبع >>>>>: ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية2
واقرأ أيضاً:
ثقافات الشعوب لها أعمار أنثروبولوجية1 / ثلاثة ساهموا في الحداثة! زولا، أورويل، فوكو2 / مصر تهمس لي تخشى انهيارها!