منذ غزو العراق لإيران قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان وهو يمر من أزمة إلى أخرى. كان أيامها حبيب الأمة العربية والعالم الغربي بأجمعه ودخل حرباً راح ضحيتها مئات الآلاف من الطرفين وانتهت الحرب والعراق لا يقوى الوقوف على قدميه .
بعدها ارتكب صدام حسين حماقة أخرى ودخل الكويت وتحول العراق بين ليلة وضحاها ركن من أركان الشر العالمي. نشبت أيامها حرب أهلية لم يطول أمدها وارتكب النظام العراقي مجازر ضد الإنسانية يصعب تعدادها وكانت بمثابة تكملة لمجزرة إبادة قرية حلبجة الكردية بالسلاح الكيمائي في نهاية الثمانينيات.
وبعد كل ذلك دخلت القوات الأمريكية وتم تدمير البنية التحتية للعراق وتحول محور الشر العربي والعالمي ضحية الأمة العربية والإسلامية وكبش فداء حرب الناتو ضد الإرهاب. ولكن هل بدأت من هنا مأساة العراق وتاريخه الدموي؟
تاريخ العراق الدموي
يكثر الحديث منذ أعوام بأن العراق الحديث ما هو إلا مجرد خطة تقسيم مخلفات الدولة العثمانية منذ سقوطها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لا تقرأ مقالاً عن العراق إلا بدون ذكر اتفاقية سايكس بيكو، وبأن السيد سايكس البريطاني هو الذي قرر إطلاق مصطلح العراق على ضم ولايات البصرة وبغداد والموصل تحت راية الانتداب البريطاني.
هذه المقولة التي تدرس في جميع المراحل التعليمية في العراق وغيره غير صحيحة1 لأن اتفاقية سايكس بيكو تم رفضها من الحلفاء وإنما عمل الملك فيصل الأول والحاكم البريطاني أيامها على قيام العراق الذي نعرفه الآن.
لم يرحب كافة الشعب العراقي بتنصيب فيصل الأول ملكاً عليهم وتم تهميش شيعة العراق من العملية السياسية بسبب ذلك ولسبب آخر يتعلق بهيمنة ضباط الجيش العراقي الذين خدموا في الجيش العثماني وبعدها ساندوا ما يسمى بالثورة العربية الكبرى للشريف حسين.
لم تكن لشيعة العراق طموحات سياسية كبيرة ولم يتولى رئاسة مجلس الوزراء منهم في العهد الملكي سوى شخصيتين. رغم ذلك كان لهم موقعهم التجاري في بغداد ولا يتعرض أحد لهم خلال ممارسة طقوسهم الدينية وولائهم الديني للمرجعية في النجف الاشرف لم يكن يثير الشكوك حول إخلاصهم لوطنهم العراق.
لا يحتوي العراق فقط على شيعة وسنة وإنما كان هناك العديد من الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية فيه من صابئة ويزيدين واشوريين وكلدان وبهائيين وغيرهم. الأشوريون هم أول ما نادى بحكم ذاتي وتمت تصفيتهم بأول مجزرة للجيش العراقي عام 1933 وتجت قيادة بكر صدقي الذي ينحدر من عائلة كردية تسكن مدينة كركوك، وتحول بكر صدقي بين ليلة و ضحاها إلى بطل قومي بفضل هذه الجريمة. تم اغتياله في مدينة الموصل بعد أربعة أعوام.
قامت فيه كذلك حركات سياسية متعددة وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي وكلاهما شديد العداء للفكر الديني.
في ظل كل هذه الحركات السياسية والتقسيم الاجتماعي استمر الجيش العراقي يلعب دوره المهيمن على السلطة وانتهى الأمر به بالقضاء على الملكية الدستورية وقيام الجمهورية العراقية في عام 1958.
كان العراق بعيداً عن العالم العربي قبل قيام الجمهورية العراقية وازدادت مسافة البعد بعد وصول الرئيس الراحل عبد الناصر إلى الحكم. توجه السيد نوري السعيد أقوى رجال السياسة في العراق نحو الانضمام إلى حلف بغداد وتقوية علاقة العرش بقريبه في المملكة الأردنية الهاشمية.
انتبه أول رئيس جمهورية عراقي الزعيم عبد الكريم قاسم2 إلى خصوصيات القطر العراقي. كان من أب سني وأم شيعية كردية وكان يلقب بالزعيم الأوحد وأصبح حبيب الطبقات الفقيرة في العراق وكان أول من نادى بضم قضاء الكويت إلى العراق. لم يساعده تقربه من الحزب الشيوعي العراقي وقيام مجازر الموصل وكركوك في عام 1959، وقضى عليه زميله الناصري عبد السلام عارف الذي تحالف مع حزب البعث أيامها. لم يطول هذا التحالف أكثر من بضعة أشهر وارتكب حزب البعث مجازر بحق المعارضين لأفكاره وأطاح عبد السلام عارف بهم بعد 10 أشهر من قضائه على عبد الكريم قاسم وإعدامه بصورة وحشية في مركز الإذاعة العراقية في شباط 1963. كان الرئيس العراقي الثاني عبد السلام عارف نفسه من أمر بإعدام العائلة الملكية العراقية بصورة وحشية في 1958 وأصبحت هذه السيرة وصمة عار بتاريخ العراق.
بعد قيام ثورة 14 تموز في عام 1958 استفحل أمر الأزمة الكردية في شمال العراق. قامت حرب أهلية بين العرب والأكراد راح ضحيتها مئات الآلاف من الطرفين لم تنتهي إلا بعد دخول القوات الأمريكية العراق عام 2003. هذه الحرب لم تهدأ بعد نهاية حرب الخليج الثانية واستمرت القوات العراقية تتوغل في كردستان بين الحين والآخر.
العراق تحت صدام حسين
رغم أن صدام حسين شغل منصب النائب للرئيس بعد ثورة 17 تموز 1968 ولكنه كان الرجل القوي في العراق ويعرف بالسيد النائب وعمل تدريجياً على بناء مؤسسات أمنية جبارة مارست أبشع جرائم ضد الإنسانية وزرع الخوف في قلوب الناس وفي مقدمتها تسميم عشوائي عن طريق استعمال الثاليوم في عام 1979 -1980. استمرت الحرب الأهلية في شمال العراق أيام حكم صدام حسين وأبرم اتفاقه المعروف مع شاه إيران والقبول بتقسيم شط العرب لصالح إيران من أجل سحق الأكراد.
ساعد ارتفاع أسعار النفط وزيادة موارد العراق المالية على ارتفاع شعبية صدام وتغذية شخصية نرجسية مريضة عملت على تصفية خصومها داخل وخارج حزب البعث وتحول نظام الحكم من نظام الحزب الواحد إلى نظام الدكتاتور الواحد. لم يسلم منه السنة والشيعة على حد سواء بل وحتى أقربائه من أهل تكريت أحياناً.
مع بقاء نظام الحكم الديني في إيران بدأت تظهر حركات سياسية شيعية مناهضة لصدام حسين. هذه الحركات لم تكن قوية وفشلت في إثبات موقعها على الساحة السياسية ولكن رد فعل الطاغية ضد الشيعة وتعميم العقاب ضد الأغلبية الشيعية ساعد في زرع التفرقة الطائفية بين الشيعة والسنة وتوج جرائمه باستباحة حرم مرقد الأمام الحسين (ع) في كربلاء بعد سماح القوات الأمريكية له بتصفية الثورة العراقية في الجنوب والشمال التي قامت كرد فعل لسحق الجيش العراقي في الكويت على أيدي القوات العربية والأجنبية الحليفة.
العراق بعد الغزو الأمريكي 2003
تم تفكيك البنية التحتية للعراق وتم تدمير مصادر الماء والوقود وغيرها. حدث فراغ هائل في العراق لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً وأصبح الإرهاب وقتل الأبرياء حقيقة يومية يعيشها أهل بغداد أكثر من غيرهم. تم قيام نظام ديمقراطي وقامت انتخابات نزيهة لا يختلف عليها أحد دفعت بحركات سياسية شيعية لتسلم السلطة.
لكن الأحزاب الشيعية على الساحة العراقية لا خبرة لها في السياسة وإدارة دولة وتم استحداث برلمان ضرب رقماً قياسياً في عدم قدرته على تشكيل حكومة لعدة أشهر بعد نهاية الانتخابات. انتشر الفساد المالي في كل مكان ليس بين أهل الشيعة وحسب وإنما الأكراد والسنة كذلك حتى أصبح رجال السياسة هدفاً لسخرية المواطن العراقي في ظل حرية الكلام وإبداء الرأي3.
هذه الحرية لوحدها لم تكن كافية لوقف دخول العراق في صراع القوى الإقليمية الحديثة وعلى رأسها إيران والسعودية وتركيا. استمرت جرائم الإرهاب ضد الشيعة وكذلك ضد السنة وازدادت الفجوة الطائفية بين أهل العراق مع قيام الحرب الأهلية السورية وصعود نجم الحرب الطائفية الإسلامية التي يروج البعض لها من داعش وغيرهم.
سألت يوماً رجلاً عاش طوال عمره في الغرب ولم يزور أرضاً عربية مرة واحدة عن سبب تأييده لداعش وغيرها من الحركات الإسلامية الإرهابية. كان جوابه في غاية السذاجة وقال: لا بد من الجهاد هذه الأيام لوقف زحف الروافض واحتلالهم الحرمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة. هذه مقولة مسلم يعمل استشارياً في بريطانيا لا ينطق لسانه بالعربية ولم يزور يوماً الحرم المكي فلماذا العجب عندما تسمع عن تدفق المراهقين للعمل في حمامات الدم الفعالة في العراق!!!
المصادر:
1- التايمس اللندنية. 23 يونيو 2014.
2- سداد جواد التميمي (2011) قاسم على الاريكة. الاخبار.
3- سداد جواد التميمي (2012) العائلة السياسية العراقية. الاخبار
واقرأ أيضاً:
مأساة العراق/ ثورة الغضب العراقي من الشمال إلى الجنوب/ اليقظة العراقية... هل اكتملت شروطُها؟!/ نظرة سريعة حول أصل اللغة الكردية/ كوردستان العراق/ مأساة العراق (من الداخل)