حوار أجريته مع د.منيرة حلمي قبل وفاتها بسنوات ومن الأعمال التي أعتز بها جدا.
حوار مع زوجة فيلسوف، ورحلة نصف قرن بين الحقيقة والحب.
_تنازلت عن بعثتي لأمريكا لأتزوج من زكي نجيب محمود.
_علاقتي به تحولت من قارئة إلى طالبة ثم زوجة.
_لم أكن الجندي المجهول في حياة زكي نجيب محمود.
التأزم الفكري .. حالة كثيرا ما تصادف المفكر قبل ميلاد فكرته التي قد يضحي في سبيلها بكل شيء وأي شيء، ولعلنا نذكر قصة ميلاد قانون النسبية الذي بمجرد أن شعر ألبرت أينشتين بتهيئة ذهنه لصياغة النظرية طالب زوجته ألا تزعجه وتفسد عليه خلوته قبل ثلاثة أيام، إلا أنها سألته وبإلحاح كيف تأكل؟ فرد مستهينا ضعي الأكل عند الباب!!
وفي لحظة إبداع عقلي غير مسبوقة في حياة الألماني يوهان جونتبيرج ذهب ليبشر زوجته بأنه بصدد اختراع آلة ستغير مستقبل البشرية فإذا بها لا تعبأ غير بشيء واحد فقط ألا وهو كيف تتمكن من شراء الطعام لها ولأولادها أثناء انشغاله بالاختراع!!
هكذا تكون مواقف الزوجة هي رد الفعل الأول والمباشر تجاه أفكار الزوج وإبداعاته فإما أن ترتقي معها إلى حيث يسمو زوجها عن عالم الأشياء وإما أن تهبط بزوجها إلى حيث تسمرت قدماها، وفي الأغلب الأعم يذهب الزوج بعيدا بأفكاره في حالة من الانفصال الذهني والوجداني.
والدكتورة منيرة حلمي أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس كانت رفيقة المسيرة الفكرية للفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود لحظة ميلادها، فمن موقفه من الميتافيزيقا إلى محاولة إيجاد صياغة جديدة لنظرية الوضعية المنطقية تناسب الفكر العربي مرورا بسعيه نحو تحديث الثقافة العربية في محاولاته المتعددة للتوفيق بين التراث والعصر كانت نبراس عقله وإشعاع وجدانه ومعنى حياته.
وحول دورها في حياة الدكتور زكي نجيب محمود:
*تنازلت عن منحة دراسية من إحدى جامعات أمريكا وأخرى من جامعة عين شمس لإتمام رسالة الدكتوراه في أمريكا .. معنى ذلك أن الزواج يظل عائقا أمام المرأة حتى ولو كان من مفكر وفيلسوف؟
** أرسلت لي الجامعة التي كنت أدرس بها الماجستير في أمريكا لإتمام رسالتي للدكتوراه هناك ولكن ارتباطي بالزواج من الدكتور زكي نجيب محمود حال بيني وبين ذلك حيث لم يكن زوجي في سن صغيرة تسمح لي بأن أطالبه بأن ينتظرني حتى عودتي لإتمام الزواج، فقد تنازلت بمنتهى الاختيار ومنتهى الاقتناع بإمكانية الدراسة في مصر، فلماذا أسيء للشخص الذي ارتبطت به ما دمت أستطيع حل مشكلتي بإتمام دراستي في مصر.
*ولو كان الاختيار بين الزواج والطموح هل ستتنازلين عن الطموح كعادة المرأة العربية؟
**أنا لا أحكم على المرأة عموما، فقط أستطيع أن أحكم على ظروفي الخاصة فليس أي زوج يستحق أن تقف معه المرأة هذا الموقف، إنما زوجي كان مثاليا جدا في رأيي ولم يكن من الممكن أن أجعل أي شيء يعوق بيني وبين الارتباط به.
*تشتاق المرأة دائما إلى ذكريات اللقاء الأول مع شريك العمر وكثيرا ما تكتشف في مفردات هذا اللقاء تفاصيل جديدة في كل مرة .. فكيف تصفين هذا اللقاء الآن؟
**كان لقائي بالدكتور زكي نجيب محمود لقاء قارئة في بادئ الأمر أحرص على اقتناء وقراءة مجلة الثقافة، ثم لقاء طالبة في الدراسات العليا بأستاذها ولقد تكشف لي من خلال كل لقاء منهما بعضا من جوانب شخصيته كمفكر وكأستاذ مختلف عن الأساتذة الذين صادفتهم قبل ذلك، كذلك كان لي علاقة بزوجة أخيه التي عرفت من خلالها أشياء كثيرة عن طبيعته الشخصية، وكل هذه الأمور تجمعت عندي وأعطتني فكرة عنه في كل نواحي الحياة ككاتب وأديب وكأستاذ وكانسان.
ولأني أعشق الأدب منذ أن كنت طالبة في المدرسة الثانوية جاء تقديري لكل شخص يمسك القلم ويكتب خصوصا الكتابات التي تصل إلى أعماق النفوس مثل كتابات الدكتور زكي.
*هذا اللقاء الإنساني هل تدخل العقل في تفنيد وتحليل وحساب نسب نجاحه ونسب فشله؟
**بالطبع أية امرأة متوازنة على قدر من الوعي والثقافة تخرجت في الجامعة، اختلطت وتفاعلت مع الناس وتفهمت لاتجاهاتهم لابد أن تعتمد في اختيارها على الناحيتين العقلية والقلبية معا، وأنا فهمت نفسي عن طريق عقلي وفهمته عن طريق نفس العقل وأدركت أنه وبكل تأكيد يناسب أفكاري ويناسب عقلي بل ووجداني أيضا.
*تعرفتما كأستاذ وتلميذة في كتابة المقال بمجلة الثقافة وسافرت لاتمام رسالة الماجستير دون أدنى اتفاق على الارتباط … هل منعك حياء الأنثى أن تبددي عنه تردده في ذلك وتركتيه حتى طلب ذلك من أختك بنفسه؟
**لقد كشفت بعض كتاباته في ذلك الوقت عن رغبته في الارتباط بي ورغم ترحيبي بهذا إلا أن ما لمحته من تردده في فكرة الارتباط عموما وعن طريق كتاباته أيضا هو الذي منعني من تبديد خجله قبل سفري إلى البعثة الدراسية التي لم يكن من الممكن التخلي عنها دون سبب واضح، وبعد ما سافرت بفترة فاتح أختي في موضوع ارتباطنا وراسلني مؤكدا على طلبه لأعود إلى القاهرة وأجده ينتظرني في المطار ومعه خاتم الخطوبة.
*وما هي الكتابات التي لمحت من خلالها رغبته في الارتباط بك ؟
**أترك ذلك للقراء ليفطنوا إليه.
*نستطيع أن نقسم حياة د. زكي إلى فترتين الاستماع بإنصات ثم تبني فكرة التقدم .. كيف انعكست أفكاره في كل فترة على حياته الخاصة؟
**فترة الاستماع والإنصات كانت قبل أن أتزوجه لأنه تزوج في سن متأخرة فحينما تزوجته كان قد أخرج العديد من كتبه في الفلسفة وفي المقالات الأدبية مثل كتاب جنة العبيط أو أدب المقال، شروق من الغرب، وغيرهما وكان قد أثبت وجوده سواء في الناحية الأدبية أو في الناحية الفلسفية.
*تنوعت كتابات د. زكي بين منهجية العلم الأكاديمي الخالص وفنية الإبداع الأدبي التي كانت طبيعته تميل إليه بين آن وآخر -هكذا وصف نفسه- فأي الاتجاهين كانت له الغلبة في حياته الخاصة؟
**الإنسان عموما مزيج من الناحيتين والدكتور زكي كان يتميز بقدرته علي إدراك دوافع الناس وميولهم وتحليل تعبيراتهم ولذلك كان الكثير من شباب الأسرة يلجئون إليه ليأخذوا مشورته في أمورهم وليقرب وجهات نظرهم بوجهات نظر ذويهم الذين هم في نفس عمر الدكتور زكي تقريبا فكان لديه إحساس أقوى بشعور الآخرين وحقوقهم.
أما بالنسبة للكتابات فكان يغلب عليها الاتجاه الأدبي الفني وأنا كنت من أشد المعجبين بمقالاته الأدبية وبقلمه المبدع في كل ناحية لذلك لا زلت أعتز بهذه المقالات وأرى أنها لم تأخذ حقها تماما في ما يختص بالرعاية والعرض والتحليل الأدبي ولذلك حينما يطلب مني أن أكتب عنه أحرص أن تكون كتاباتي في تفنيد تحليل هذا الجانب الأدبي لديه.
*صاحب الدعوة إلى التقدم إذ لم يخضع حياته الشخصية لما يدعو إليه جاءت دعوته ضعيفة الأثر في حياة الآخرين .. هذه السلبية كما اتخذها أستاذنا الدكتور زكي على أعلام العشرينات والثلاثينات .. هل وقع هو نفسه في تلك النقيصة خاصة وأن المرأة أحد المحكات الهامة لتقدم الرجل وذلك من خلال نظرته إليها وتعامله معها؟
**في الحقيقة لقد اختلف كثيرا عن غيره في هذا الشأن حيث كان يقدر حقوق المرأة جدا ولم يمنعني في أي وقت أو أي فترة أن أختار ما أريد دون أي تدخل منه ولم يكن يضيق أبدا بوجودي خارج المنزل على العكس كان يشجعني على إنجاز عملي على أكمل وجه بل وكان يمهد لي الطريق لأنجز كل ما أريد دون أي تدخل منه ويكفي أن أقول لك أنه في اليوم الذي بدأ يفقد فيه الوعي قلت له أنني سأذهب إلى الكلية لأطلب أجازة رعاية زوج فرد علي بانفعال قائلا: أرجوكي لا تفعلي ذلك، لا تدخلي شئون حياتك الخاصة في عملك بهذه الطريقة، وفي نفس اليوم نقل إلى المستشفي ليتوفى بعد أسبوع وتكون هذه آخر نصائحه إلي.
*لا تخلو حياة أي زوجين من مواقف يضطر فيها أحد الطرفين من إظهار قوته على حساب ضعف الآخر وأن يفرض سيطرته على حساب خضوع الآخر .. متى كنت الطرف الأضعف الخاضع مع الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود؟
**إطلاقا .. ما شعرت عمري أنني أعيش مع سلطة تملي علي أي شيء فالحقيقة أنني لم أكن أتصور أنه يوجد رجل يحمل مثل هذه الأخلاق في تعامله مع المرأة.
*ما هي أكثر الأشياء التي كان يتمنى أن تتحقق للمرأة المصرية؟
**الحرية والمساواة وإثبات الذات وعدم التدخل في شئونها من الآخرين .. كل هذا كان يسعى إلى تحقيقه للمرأة وللإنسان عموما من خلال دعواته التحررية.
*الزوجة العربية تحمل في أعماقها قدرة على استيعاب الرجل والوقوف على أسباب تأزمه النفسي في أي من مراحل حياته .. فكيف تابعت الدكتورة منيرة أستاذ علم النفس مسار تلك الأزمات الفكرية والحياتية مع الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود؟
**كأي زوجة أخرى في الغالب مع شيء من الفهم الناتج عن تخصصي في مجال علم النفس، الفهم لحالاته ودوافعه ومحاولاتي الدائمة لتهيئة الجو الهادئ الذي يمكنه من التخلص من كل هذه الأزمات وعدم إشغاله بما يدور عندي من بعض المشكلات في عملي كنت أذكرها كشيء عابر لأعبر بها عن نفسي دون أن أرهقه.
وأذكر العديد من المواقف الذي حدث له فيها نوعا من التأزم النفسي والفكري خاصة عند خروج كتاب أو خروج فكرة وعندما أقيمت عليه حملة هجوم من الناحية الدينية مبنية على سوء فهم من القارئين وعند صدور كتاب خرافة الميتافيزيقا بما يحمله من رفض لفكرة الميتافيزيقا (ما وراء الأفكار) والذي اضطر لتغيير عنوانه فيما بعد إلى موقف من الميتافيزيقا.
وكثيرا ما كان يضيق بالهجوم لا لمعارضة رأيه وإنما لأن الذي يعارضه يهاجمه عن سوء فهم إلى أن أدرك أنه لا يستطيع أن يصلح فهم البشر جميعا. وكان دوري بالطبع ألا أزيد العبء عليه بمشاكلي أو شيء من هذا القبيل وأن أهدأ من روعه مع محاولة إقناعه بأن ما يحدث ليس إلا ظاهرة انفعالية من بعض الناس في المجتمع والمفروض ألا يعطيها كل هذا الاهتمام.
*كلمات الثناء والتطييب من قبلك إليه كانت تجد عنده موقعا خاصا؟
**بالطبع وأعتقد أنه ركز على هذه الحقيقة في كتابه قصة نفس حينما تكلم عن الزوجة ودورها معه حتى أنني أدركت بالفعل أن كلماتي تجد طريقها إلى وجدانه وقلبه.
*إهداءات كتبه .. هل كانت تخضع للعقل أو العاطفة وما نصيبك من تلك الإهداءات؟
**لم يكن يهدي كتبه بصفة عامة باستثناء كتاب (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري) الذي أهداه لي وذلك لأنه كان قد كتبه أثناء عملي بجامعة الكويت وحيث كان يضطر لانتظاري في مكتبة الكلية حتي أنهي محاضراتي لنعود سويا إلى البيت مما أتاح له فرصة القراءة في موضوعات كثيرة جدا منها كتب التراث العربي التي كانت تزخر بها مكتبة جامعة الكويت مما حفزه لإخراج كتابه المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري حيث كان يريد أن يشعرني أنه لم يكن يضيق بانتظاري وأنه لم يضع وقته في ذلك أو كأنه يقول أنا ممنون لانتظاري لك الذي أخرج هذا الكتاب.
*وما أهم تلك الكتب لديك وأقربها الي قلبك؟
**الكتب الذي تحتوي علي تعبيره الذاتي عن نفسه مثل شروق من الغرب، الكوميديا الأرضية جنة العبيط، وكذلك الكتب التي تؤرخ لحياته مثل كتاب قصة نفس، قصة عقل، وحصاد السنين.
*رفض الدكتور زكي نجيب محمود مبدأ الإنجاب. هل جاء هذا الرفض انطلاقا من منهجية المفكر أو شاعرية الأديب الذي يربأ بمن يحب أن يعارك في هذه الحياة؟
**لا .. لم يكن رفض بالمعنى الدقيق للكلمة ولكنه لم يهتم بهذا الموضوع وكان دائما يؤكد على أنه غير قلق بسبب هذا وأستطيع القول أن كل شيء من حوله جعله يأخذ هذا المأخذ فهذه لم تكن مشكلة في حياتنا على الإطلاق طالما أن الأمر ليس بيدينا.
*عندما يكون الزوج عظيما تنسب إليه الزوجة دائما وبالتدريج ينسى البعض مكانتها مهما بلغت فهل تعرضت الدكتورة منيرة لهذا؟
** لم أشعر هذا الشعور على الإطلاق بالعكس هذه المكانة التي أضيفت إلى مكانتي كأستاذ جامعي وباحث بزواجي من الدكتور زكي كانت موضع فخر لي ولم تكن تضايقني على الإطلاق فأنا معروفة على مستوى المتخصصين والزملاء بصفتي وبين العامة على أنني زوجة زكي نجيب محمود.
*متى شعرت أنك الجندي المجهول في حياة الدكتور زكي؟
**لم أشعر بهذا إطلاقا، ويا ليتني كنت أستطيع أن أكون بالفعل جنديا مجهولا في حياته فهو يستحق آلافا من الجنود لخدمته والحقيقة أنني لم أستطع أن أعطيه بقدر ما أعطاني.
*وقبل أن أنهي حديثي طالبت الدكتورة منيرة أن تتوجه بدعوة أخيرة إلى القراء .. وبعد صمت دام لحظات قالت: القراءة .. القراءة .. القراءة هكذا كان يردد الدكتور/ زكي دائما أهم شيء يجب أن نحرص عليه هو القراءة وأنا أدعو الناس إلى قراءته من جديد قراءة فاهمة واعية دون إعطائها أي لون من ألوان مشاعرهم.
فالملاحظ في هذه الأيام أن الكثيرين الذين يكتبون عنه يكتبوا من خلال فكرتهم عنه وليس من خلال ما كتبه هو في الواقع، ولذلك أنا أدعو إلى القراءة والفهم الموضوعي لكل ما كتب.
واقرأ أيضا:
السعادة ممكنة..رحابة النص/ السعادة ممكنة - متى يصبح المفعول به فاعلا؟!/ الكسندر فليمينغ: سيرة ذاتية في خدمة الإنسانية