مع مطلع عام 1965 من القرن الماضي، أعلن المناضل ياسر عرفات ورفاقه انطلاقة المقاومة الفلسطينية المُلزمة بالتحرير وحق العودة وامتلاك القرار الوطني الفلسطيني. بعد سنتين، وقع عدوان 1967 الذي أدى إلى احتلال أراضٍ في مصر والأردن وسورية. كانت صدمة قوية لدى الجماهير التي كانت في حالة تعبئة، بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والذي استولد الأمل بتحقيق الوحدة العربية. وكان من آثار ذلك أن وقعت معركـة الكرامـة التي أبدت فيها المقاومة الفلسطينية مقاومة بطولية، خفّفت من وطأة الشـعور بالهزيمـة، وأوحت باستئناف النضال المقاوم (لإسرائيل) واحتلالها وعدوانيتها.
قبل العدوان، كانت الجماهير مع عبد الناصر تلقائياً. بعد الكرامـة، بقيت الجماهير على تأييدها له، ولكنها منحت دعمها لقيادة المقاومـة الفلسـطينيـة. آنذاك، تولّت منظمة التحرير الفلسـطينية عملية التعبئة القومية بمشاركة فصائل الثورة الفلسطينية كافة، خصوصاً الجبهتين الشعبية والديموقراطية. وعلى الرغم من أن النظامين السوري والعراقي قد أسّسا فصيلي "الصاعقة" و"جبهة التحرير العربية"، إلا أن "فتح" بقيت العصب الرئيسـي للمقاومـة الفلسـطينية.
استمرت المنظمة في ذلك الحين الإطار الجامع للشعب الفلسطيني، بهدف مجابهة الغُبن التاريخي ومقاومة (إسرائيل) وعدوانيتها. كان الاعتقاد السائد أن المنظمة تُمثل الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. وعلى الرغم من خلافات كثيرة مع بعض الأنظمة، الأمر الذي كان مفهوماً، إلاّ أن الصدمـة الكبيرة التي أدخلت تغييرات أسـاسـيـة على الخارطـة العربيـة جاءت إثر زيارة الرئيـس المصري، أنور السـادات، إلى (إسـرائيل)، وبدايـة مسـلسـل التداعيات للحالـة العربيـة والتأثيرات السـلبيـة التي اسـتولدتها هذه الزيارة، وبعدها معاهدة الصلح بين مصر و(إسـرائيل).
وعندما انعقدت قمة بغداد، تم إسقاط عضوية مصر من جامعة الدول العربية، إلا أن المعادلة الجديدة دفعت إلى اتخاذ قرار القمة عام 1974 قرار اعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. بذلك، تجاوبت القمة العربية مع رغبة القيادة الفلسطينية بأن تكون المنظمة سيدة القرار الفلسطيني. بمعنى آخر، جاءت هذه التطورات لجعل القرار الفلسطيني مدعوماً عربياً، لكن ليس عربياً. وعلى الرغم من أن القرار الفلسطيني بقي قادراً على استمالة التأييد العربي، إلا أنه عزّز باللاوعي مفهوم السيادة عند الدول العربية، وأضعف العامل القومي العربي. وفي هذا السياق، جاءت معاهدة (كامب ديفيد) التي جرى توقيعها في البيت الأبيض، أيام الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر)، لتحسم ترجيح القرار الوطني على القرار القومي. وأدت هذه الخلفية إلى تمكين منظمة التحرير من أن تتخذ قرارات بنفسها، وتُطالب الدول العربية بدعمها، بدلاً من مشاركة عملية تجعل القرار قومي الطابع، وبما يُعطي مزيداً من القناعة للمطالب والقرارات الفلسطينية.
كانت الجماهير العربية، وما زالت، تحتضن الشعب الفلسطيني ونضاله بشكل تلقائي. لكن المنظمة ارتأت أن تكون "دبلوماسيتها" في التسعينات، إلى الآن، صدى، وإلى حد كبير، لمقولة الرئيس السادات الشهيرة إن 99% من الأوراق بيد الولايات المتحدة. هذا ما يُفسر تقريباً الناحية العبثية، لأنه لم تكن هناك "مفاوضات" بالمعنى الدقيق. فالتفاوض ينطلق من اتفاق مسبق على الأهداف، "أي حل الدولتين". لكن (إسرائيل)، منذ "اتفاقية أوسلو"، لم تُسلّم مطلقاً بأن نتيجة "المفاوضات" ستكون دولتين، إحداهما فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية! بل إنها كانت مباحثات عبثية، كما هو معروف الآن. وممّا زاد في التعقيد أن (إسـرائيل)، منذ عام 1967، لا تعترف بأنها سـلطـة احتلال، لأنها لو اعترفت، لكان عليها الالتزام بإدارة الأراضي المحتلـة بموجب اتفاقيـة جنيف الرابعـة التي لا تُجيز للمحتل القيام بأي تغيير جغرافي أو ديموغرافي في الأراضي المحتلـة، ما يُفسـر تنامي المسـتوطنات الإسـرائيليـة في الضفـة الغربيـة.
وفي ما يتعلق بقطاع غزة، فبعد أن نالت الأكثرية منظمة "حماس"، اعتبرت (إسرائيل) قطاع غزة belligerent sui generius، أي كياناً عدائياً، لا بلدية ولا دولة ولا مقاطعة. بل مجرد كيان. ما يُفسر شراسة الاستباحة في الحروب الثلاثة عليها، كما في اعتراض (إسرائيل) الشديد على تشكيل حكومة رامي الحمد الله التي تُمثل حكومة المصالحة الوطنية. والجدير بالذكر أن الرئيس محمود عباس لم يزر غزة، بعد العدوان الأخير على القطاع.
يتبيّن أن عدم الدقـة في تحديد الأوضاع القانونيـة في الضفـة الغربيـة واسـتمرار توصيفها بأنها "محتلـة"، تنزع عنها صفتها الحقيقيـة بأنها أرض مغتصبـة، تصرفت بها (إسـرائيل) وكأن "شـرعيـة" مسـتوطناتها عليها أمر مسـلّم به! عندما انتقد البيت الأبيض البناء في شرق القدس، وصف (نتنياهو) كلامه بأنه "غير أمريكي". كما أن وزير الدفاع الإسرائيلي عبّر عن معارضته قيام دولة فلسطينية بصورة متهكمة، قائلاً إن "في وسعهم أن يُسموها إمبراطورية إذا شاؤوا". وعندما أعلنت المحكمة الأوروبية أن "حماس" ليست إرهابية، قال (نتيناهو) إن "الأرض الأوروبية مغمّسة بدم اليهود"
في الأسابيع الماضية، تقدم الوفد الفلسطيني في هيئة الأمم المتحدة بمشروع قرار دعمته المجموعة العربية، وكان متوقعاً أنه إذا طرح، فإن واشنطن ستستخدم الـ (فيتو). حاول الجانب الفلسطيني الاتصال بالأوروبيين لتعديل المشروع، بما قد يؤمّن قبوله، على الرغم من إضعاف المطالب الفلسطينية. حتى هذا لم يرق لواشنطن التي اقترحت تأجيل طرحه للمناقشة، إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية.
في هذه الأثناء تذمر (نتنياهو) في خطابه في معهد صبان بواشنطن، من أن الفلسطينيين يرفضون أن يتحاوروا على شرعية أمن (إسرائيل)، كما رفضوا البحث بأن (إسرائيل) هي دولة قومية للشعب اليهودي، في حين يُطالبون (إسرائيل) الاعتراف بأن فلسطين دولة للشعب الفلسطيني! والجدير بالذكر هنا أن الشعب الفلسطيني يعد حوالي 6 أو 7 ملايين، بينما اليهود في العالم يتجاوزون ذلك بكثير. بالإضافة إلى أن حرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى أرضهم يُقابله "حق" اليهود في العالم العودة إلى (إسرائيل). وكانت هذه النقطة واحدة من العقبات التي أفشلت مهمة وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري).
ما نحن بصدده، الآن، في ما يتعلق بالفلسطينيين، يكمن في غموض صلاحيات منظمة التحرير، السلطة الوطنية، حكومة الوحدة الوطنية. مثلاً مَن هو "المفاوض" الرئيسي؟ هل هو صائب عريقات، كبير المفاوضين، أم وزير الخارجية؟ وما هي السلطة الوطنية ودورها إزاء حكومة الوحدة الوطنية؟ هذه المؤسسات لا يوجد وضوح كافٍ في طبيعة العلاقات في ما بينها، وليس هناك وضوح في الصلاحيات التي تُمارسها. قد يكون هناك منطق في هذا التعدد، ولكن، توجد أيضاً التباسات.
الآن، أعتقد أنه حان الوقت لخروج القضية من حالة اللاحسم، وأن تُبادر السلطة والحكومة إلى اتخاذ قرار بالذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية في روما، لمحاكمة (إسرائيل) على ما ارتكبته من خروق للقانون الدولي والشرعية الدولية، وأن تعمل على تفعيل حقها في الانضمام إلى الوكالات التابعة لهيئة الأمم المتحدة، لتأمين الحقوق الوطنية والقانونية التي حان الوقت أن تُمارسها فلسطين. ذلك أن المباحثات و"خاريطة الطريق" وما يُسمى المفاوضات أصبحت تمرينات في العبث، وأن تخرج القيادة الفلسطينية بعد خمسين عاماً من سجن اللاقرار.
الأمة العربية بحاجة ملحّة إلى أن تسترجع فلسطين وجودها السيّد، لأن هذا يُساهم عملياً بإعادة اللُحمة بين الشعوب والدول العربية؛ لأن فلسطين، في نهاية الأمر، هي البوصلة التي تخرج أمتها العربية من أزمات التفكيك المتراكمة التي بدورها فاقمت الأزمة التي تعيشها الأمة العربية اليوم.
واقرأ أيضا:
حفلة أوباما في الأمم المتحدة/ عفواً.. اعترافكم مرفوض!/ إخلاء سيناء مطلب (إسرائيلي)!/ البطولة أمريكية والكومبارس عربي/ خطيئة الاحتفال بالحرب العالمية الأولى