بدأ الناس بعد مرور فترة على مذبحة غزة يتساءلون أنشاهد ما يدور من قتل وذبح لأبرياء غزة وتدافعهم في محاولات ضعيفة للنجاة من الموت دون نجاح يذكر أم لا؟؟، أنظل على مرأى من صور القهر والعجز والمذلة التي تزداد كل يوم من دولنا الضعيفة المتهرئة مع زيادة عدد صامدي غزة وشهدائها رغم الجوع والظلام والتشويه والصراخ من تحت الأنقاض أم يكفينا هذا فلم نعد نحتمل؟
سؤال صار يطرح نفسه على نفوس كل من يجلس أمام قناة الجزيرة أو المنار أو الأقصى وغيرهم، لأنهم باتوا يشعرون مشاعر غريبة ويتساءلون عن أطفالنا الذين يرثون منا ميراثا ثقيلا من العجز والبكاء والشعور بالنقص وعدم القدرة حتى على الاستنكار الذي أدمنته الشعوب العربية، وللحق رأيت السؤال رغم أنه أهون سؤال يمكن أن يطرح في ظل ما يحدث وسيحدث في غزة إلا أنه يحتاج لتفكير من البعد النفسي والاجتماعي اللذين يتواريان خلف بؤرة الاهتمام أمام مشاهد القصف والقتل والبحث عن مخرج دون منقذ؛ ولكن على أية حال لا أملك إلا أن أفكر فيه الآن لعلي أشعر أني أفعل شيئا في ظل الركام الجاثم على صدورنا من مهام علينا أن نقوم بها ولا نفعل شيئا؛ فالآباء والأمهات يريدون متابعة الأحداث أولا بأول لعلهم يجدون ما يثلج صدورهم ولو بشيء يسير ويتحملون -أو حتى لا يتحملون - مشاهد الدم والقهر ليكونوا على معرفة بما يجري هناك على ولو على مستوى المشاعر ويدخل الأطفال بين الحين والحين على شهقة من أم أو بكاء من أب تماسك كثيرا حتى لا يبكي ليسأل ببساطة شديدة لماذا يحدث هذا يا أبي؟ لماذا يقتلون الأطفال؟ لماذا لا نساعدهم لماذا لا نضرب هؤلاء الأشرار؟ وسلسلة لماذا التي لا تنتهي، ولا إجابة واضحة شافية مفهومة؛
وللحق قبل أن نجيب هل نشاهد أو لا نشاهد وما أثر تلك المشاهدة المستمرة على سلامتنا النفسية، علينا أن نتفق أولا أننا يجب أن نتعلم كيف نشاهد وكيف نفهم الأحداث حتى تتم تلك التهيئة المتوازنة لمن يشاهد، فرؤية تلك المشاهد دون وجود هذا البعد سيؤثر تأثيرا سلبيا على المشاهد بأشهر نموذجين متناقضين! الأول هو "تقبل" النفس لما يحدث من كثرة تكراره فنرى بعد فترة يتم مشاهدة تلك الصور وتلك الأنباء الرهيبة ونحن نأكل طعامنا أو نجهز العشاء أو نضحك مع أحد عبر الهاتف فتدخل تلك المشاهد في منظومتنا النفسية كجزء منها لا يستلزم منا الانتباه ولا وضعها في بؤرة التركيز والانفعال فيخرج لنا نموذج الشخص "المتبلد" وهو ليس متبلدا بالمعنى الدارج المتعارف عليه وإنما هو قام بعمل آلية دفاعية نفسية لأنه يثقل جهازه العصبي بتلك الصور بجعلها جزء من منظومته النفسية والعصبية حتى لا يتفتت نفسيا أو يفقد توازنه الخارجي،
أما النموذج الثاني فهو النموذج "المضغوط" وهو النموذج الذي يظل يتلقى تلك المشاهد ويحفظها في ذاكرته ووجدانه حتى تغلق عليه دائرة الضغط النفسي، والضغط النفسي هو استمرار التعرض للمواقف النفسية السلبية والتي لا يتم تصريفها في صورة ردود "أفعال" فتشكل ضغطا نفسيا يأخذ أشكال عديدة مزعجة منها التوتر الشديد والقلق المتعمم واضطراب النوم والتفكك النفسي، وقد يصل لدرجة من درجات الذهان في بعض الحالات –ذلك لأنه لم يتم تصريف تلك المواقف النفسية في أفعال– وكذلك الأطفال رؤيتهم لتلك المشاهد دون توازن ودون مراعاة للفروق الفردية بين كل طفل وآخر وقوته النفسية سيؤدي حتما لمشكلات نفسية تحتاج لطريق طويل من العلاج، ورغم اختلافي مع العالم العظيم بياجيه الذي قسم المراحل العمرية للإنسان حين اعتبر مرحلة الرضاعة للأطفال من شهرين حتى عامين ومرحلة الطفولة المبكرة تمتد حتى سن السادسة واعتبر أن من السادسة وحتى العاشرة هي الطفولة المتأخرة، إلا أن الواقع صار له قوته التي يجب الاعتماد عليها في بناء شخصية الإنسان فلم يعد من المقبول الآن أن أقول أن الطفل في العاشرة لا يجب أن يرى تلك المشاهد فسيكون ذلك تغييبا له بعمد وترصد مخزي له عن أبجديات العالم الذي يعيش فيه يؤثر ويتأثر به فلا يعي ولا يفهم ولا يعرف فنضطر للتعامل مع مساحة أصعب في التناول وأطول في الوقت للقيام بما نسميه "استعادة الوعي"؛
إذن الموضوع يحتاج لتوازن في الحديث مع الطفل منذ العام السادس ويحتاج لتقنين واختيار لمشاهد تزيد من العزة وروح الايجابية كالمشهد المذهل يتكرر على شاشة الجزيرة لجندي إسرائيلي مدجج بالسلاح يصوّب بندقيته لطفل صغير فيقف الطفل أمامه منزوعا من كل مقومات الحياة ليرفع له قميصه قائلا له في لغة جسدية رائعة بأنه لا يخاف من رصاصاته وليتفضل بقتله دون أرضه ومقدساته! وكذلك التدرج في الشرح ورؤية المشاهد وربطها بالمقدسات والحق والدفاع عن الحق حين يريد لصٌ أن يأخذه مني وقد نستعين ببعض الدراما البسيطة في فهم ذلك كأن الطفل في منزله وفجأة يظهر لصٌ يهدده بالقتل إن لم يترك له أرضه ومنزله فماذا عليه أن يفعل؟ وماذا يمكن لباقي من في المنزل أن يفعل فهو يرفض وأخوه ينير كشافا للنور حتى يرى تحركات اللص وآخر يحاول الاتصال بمن في الخارج فليس المهم هل هي فتح أم حماس، ولكن المهم أننا كلنا صاحب هذا المنزل ولا يجوز الاستسلام أو التعارك مع أفراد العائلة الآن؛ فكذلك نحافظ على سلامتنا وسلامة أبنائنا نفسيا، وأعود لنقطة كيف نشاهد مرة أخرى فأقول أن "كيف نشاهد" تحتاج منا أن نفهم ونذكّر أنفسنا بعدة نقاط مهمة بفهمها سنتمكن من تعلم "كيف نشاهد" منها:
* أن أي حرب تحتاج لقيمتين غاية في الأهمية القيمة الإدراكية والقيمة الفعلية وكلما زادت الأطراف المعنية بالحرب كلما تطلبت القيمة الإدراكية لحدث عظيم يجعل القيمة الإدراكية للحرب وإدراك تبعاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أكبر، حتى يتم استيعابها وبالتالي تهيئتها –الأطراف- للفعل في ساحة المعركة وكأن المجازر التي تحدث كل ثانية بتلك الوحشية وبتلك العمليات الإجرامية هي نفسها السبب في تعميق الإدراك وفهمه لأنه سيستتبعه محاولات فهم ومعرفة لجذور القضية ومعرفة قصة تلك الأطراف الداخلة في الحرب بوعي أكبر.
* معرفة الحجم الحقيقي للشخص وكذلك الدولة، فالمشاعر التي تملأنا بالغضب والحنق والغيظ الشديد يصاحبها أحلام يقظة أكبر من حجمنا وقدرتنا الفعلية كأن يتصور الشخص أنه يريد أن يخترق هذا المعبر اللعين ويحطمه ويدخل ليواجه هؤلاء الأوغاد حتى لو قُتل في سبيل حماية الهوية الدينية والهوية العربية لنا ولهم، ولكن الحقيقة هو أنك شخص تقف في آخر "الطابور" الذي يسبقه تروس ويسبقه بالطبع آلة الفعل الذي يسبقه آلة القرار والحواجز التي تمنعك عن تحقيق أحلام يقظتك هي ليست عسكرية فقط أو رغبة في التحطيم بل هي قوة نفسية وقدرة عقلية وحسن تصرف وتقدير متوازن وتجهيز بدني والكثير مما لا يتحمل المقام هنا سرده، فالعودة للحجم الحقيقي ليس إحباطا إذن ولكنه درجة من درجات الوعي بالذات وبالمحيط من حولنا ليكون هذا الوعي هو الدَرج الأول في سلم تحقيق حلمك وبهذا ستتأكد أنك محتاج أن تقوم بدورك الحالي على أفضل وجه والذي يتطلب منك الجدية في التعلم والعمل والتطوير وتهذيب الأخلاق وترسيخ مبادئك وبناء قوتك النفسية والوجدانية الحقيقية لتكون قوة مضافة للطابور فتكبر لتكون قوة دافعة فتكبر لتكون قوة مؤثرة فتكبر لتكون قوة دافعة فتكبر لتكون قوة قادرة على اتخاذ وتنفيذ القرار.
* علينا أن نتخلى عن موروثنا الاجتماعي العظيم الذي علّمنا عبر سنوات وسنوات ألا نرى إلا البقعة السوداء ولا نهتم لأي نور مهما كان لأن الظلام هو المسيطر على المكان، وهذا بالضبط ما نفعله حين لا نرى أن صمود الآلاف من أهل غزة أكبر انتصار وأن قتل عشرة من جنود إسرائيل هو محل كل فخر واعتزاز لفئة قليلة معزولة لا تستطيع الحصول على الطعام ولا الكهرباء ولا الإغاثة وموضوعة في قفص محكم الإغلاق جوا وبرا وبحرا ومحظور بكروت التهديد والعين الحمراء لكل من تسوّل له نفسه أن يمد لها يد المساعدة أو أن يساعدها ولو بتضميد الجراح، ومع كل تلك العقبات الكئود يستطيعون أن ينصبوا صواريخ في الخفاء ويطلقونها ويأسرون جنوداَ آخرين.
* علينا أن نجنب أنفسنا قليلا مشاعر الأسى العميق والانفعال ولنرى الحقائق مجردة حتى ننظم تفكيرنا في كل من يدلو بدلوه في تلك الحرب بدءا من حماس ومرورا بأمريكا وتركيا وفرنسا وانتهاء بالموقف المخزي لمصر المحروسة، فلغة المصالح هي اللغة الرسمية للحوار فلا مجال للمشاعر الإنسانية كثيرا هنا، فإثبات الوجود والقوة العسكرية والحفاظ على القوة التأثيرية والتي أسماها هيكل بالقوة الناعمة والنفوذ التكنولوجي وكسب أرض يقف عليها قوات من بلادنا لتكون قوة دولية محترمة لها التقدير والحق في وضع كل شخص في مكان أرضاه له هي مفردات تلك اللغة وتبقى المشاعر والإنسانية هي نصيب أفراد الشعوب التي تقف للتظاهر فيكون الشاغل الحقيقي هو الرد على سؤال مهم ألا وهو "كيف إذن السبيل لاكتساب تلك المفردات؟" لأنه هو الأجدى والأنفع.
إذن فلنشاهد ونرى لنرتقي في وعينا ونفهم المطلوب منا اليوم لنحقق ما نرجوه في الغد ولكن بالقدر الذي لا يجعلنا نُدخِل تلك المشاهد في منظومتنا النفسية كجزء لا يكون في بؤرة الاهتمام أو لنقوم ببعض الأفعال لتصريف تلك الشحنة السلبية التي تهدد سلامتنا النفسية والفعل الممكن كثير والإبداع فيه مساحة تحدي لي ولك وكل في مجاله، وأطفالنا هم مواطنو وقادة الغد، الذين سيطلب منهم الزمن الدور الأكبر والإثبات الأعظم لوجود حقيقي واكتساب أدوات القوة والتي سيبدأ العمل عليه من الآن وقبل اللحظة القادمة حين نربي أبناءنا على روح الإيجابية والجدية والعلم والتعلم والتطور والعزة والكرامة ليحققوا ما لم نستطع القيام به، فعلى الأقل لا يفوتنا أن نكون مساهمين في تحقيق أحلامنا بتأهيل أولادنا.
اقرأ أيضاً:
العلاقة بإسرائيل تحتاج اغتسالا/ الأهداف الإسرائيلية من العدوان/ الصواريخ الفلسطينية... قوة الضعف وضعف القوة/ الدعم النفسي الهاتفي (تلي دعم)/ الحرب النفسية وغسيل الدماغ