منذ صغري وأنا أهتم وأقرأ في مجال تربية الأطفال والتعامل معهم، وأتفنن في التقاط أخطاء الوالدين في معاملة أطفالهم، وكنت أظن أنني لو تواجدت مع هؤلاء لا أفعل سوى الصواب وأتجنب كل الأخطاء التى يقع فيها الوالدان مع الأطفال، سأكون مرجعا علميا يمشي على الأرض.. وقد أتتني فرصة رائعة لتجربة ما تعلمته وتجربة نفسي أيضا حين عملت أثناء وبعد تخرجي لفترة في حضانة للأطفال ما دون سن المدرسة (preschool) في قسم اللغة الألمانية حيث مجال اختصاصي.
ذهبت أول يوم وأنا أشهر السيوف لكل أخطاء الوالدين والمجتمع في حق الأطفال، فكانت أول من قابلت هي Frau Daniella وهى المدرسة الأولى لقسم اللغة الألمانية، والتي من المفترض أنني سأكون مساعدة لها.. هي تشيكية الأصل تتسم بالصلابة والحزم كمعظم الألمان، وذكرتني فورا بمعلمتي الألمانية Frau Malke والتي كانت من أكبر مصادر الإرهاب في صغري! لم أستطع وقف سيل الاستدعاءات التي تدفقت في رأسي منذ رأيت دانيلا فقلت لنفسي: سأكون أنا الفارس الملثم الذي يحمي الأطفال من أمنا الغولة!!
ثم بدأت أتعرف على الأطفال وأسمائهم فوجدت دانيلا تعطي كل منهم اسما حركيا يدل على شيء مميز به أو لقبا لطيفا كوميديا فمنهم: أحمد الأحمر.. وطائر البطريق.. وطاطا.. والكنز وغيرها..... فنظرت إلى أمنا الغولة لأستشف وراء ملامحها الحازمة ملامح إنسانية لطيفة وروح دعابة فطنة وذكية.. وخالفت دانيلا بتلك البداية توقعاتي من جمودها وتوحشها فبدأ قلبي ينشرح لها قليلا...
Ahmed, Der Rote أو أحمد الأحمر.. حصل على هذا اللقب بسبب حمرة شعره الناري وبشرته البيضاء الكالحة.. فاستدعت صورته بداخلي كل مشاعر الكره والحقد بسبب تشابهه الكبير مع والدي الأحمر أيضا!!! لذلك كانت لدي كل الأسباب المسبقة لكرهه.. وبرغم عدم منطقيتها ولكنها كانت قوية بحيث لم أستطع ولم أود أن أحاربها.. استسلمت لكرهي لأحمد الأحمر امتدادا لكرهي للصورة الأصلية التي يستدعيها أحمد بداخلي.. ثم تأملت أحمد فوجدته طفلا لا أهمية له في المجموعة.. لا يسأل عنه أحد إذا اختفى ولا يزيد شيئا إذا حضر.. لا ذكاء في عينيه ولا شقاوة في نظرته ولا تعبير معين تصوغه ملامحه الباهتة.. ولكنه مع ذلك طفل غير مؤذ.. وبرغم الاختلاف الكبير بين شخصيته وشخصية والدي إلا أنني لسبب ما لم أود أن أفك هذا التشابك والارتباط الذي حدث بداخلي بسبب هذا التشابه.. والحقيقة أن أحمد الأحمر لا يستحق كل هذا الكره المخزون داخلي.. ولكني فكرت أنه أيضا لا يستحق حبي أو حتى لفت انتباهي.. فقررت تجاهله تماما والانشغال ببقية الأطفال عنه فمنهم من هو أكثر لطفا وذكاءً وثراءً إنسانيا يهمني فهمه وتحليله في الآخرين..
وأذكر ذات يوم بعد خروج الأطفال من ساحة اللعب المليئة بالمراجيح والرمل حيث يتجمع الأطفال على دكة طويلة لتنظيف ما علق بملابسهم وأحذيتهم من رمل. وحيث كنت أنا مشغولة بمساعدة بعض الأطفال الأصغر سنا، لمحت فجأة مجموعة من الأطفال مجتمعين حول أحمد الأحمر شاهرين أحذيتهم ويلوحون بها تهديدا له.. لا أعلم لماذا! ولكني وجدت نفسي أشيح بنظري بعيدا عن تلك الحادثة متجاهلة الموقف برمته ومتواطئة مع الأطفال الآخرين في اعتدائهم على أحمد الأحمر فلم يكن أحمد هو من يستحق ذلك ولكن يبدو أني اعتبرت أحمد رمزا لمن أريده أن يستحق ذلك!
يا إلهي كم أرى نفسي الآن دنيئة لأتواطأ مع الأطفال في محاولتهم إيذاء أحمد.. كنت أعلم جيدا أنه لن يتعرض لأي أذى جسدي ولكن فقط بعض الأذى المعنوي عند رؤيته تكتل كثير من الأطفال ضده.. ويبدو أن هذا ما أردته بالضبط لمن يرمز إليه أحمد بداخلي ولم أتدخل لوقف هذه المهزلة إلا عندما جاءتني مونيكا تخبرني بالواقعة ظانة أني لا أراهم.. هنا تحركت من باب الواجب المهني فقط لأبعد الأطفال عن أحمد الأحمر وأعنفهم قليلا.. أقل كثيرا مما يستحقون!!
واستمر بعد ذلك تجاهلي لأحمد الأحمر وعدم إحساسي بأهمية تصحيح موقفي تجاهه، فقد كنت منشغلة بالأطفال الآخرين كثيرا، إلى أن جاء يوم وزعنا فيه على الأطفال ورقا به رسومات بسيطة لتلوينها، ففوجئت بأحمد الأحمر يأتي إليَّ باكيا يريد التخلص من ورقته التي لونها بالكامل ويريد أن أعطيه ورقة أخرى ليلونها من جديد.. ولم أفهم هذا الموقف فسألته عن السبب، فأجاب وقد ارتسمت على وجهه كل معان الألم والضيق والفشل وقال أنه أثناء تلوينه اهتزت يده قليلا فخرج خط رفيع من اللون عن حدود الرسم.. وأنه لذلك يريد إعادته.. نظرت إلى الورقة فوجدت أنه قام بعمل جيد جدا وأن الخط الرفيع الخارج عن حدود الرسم لا يكاد يكون ملحوظا. بل إن تلوينه كان من أفضل الأعمال بالنسبة للأطفال الآخرين.. حاولت إفهامه ذلك لكنه لم يقتنع واستمر بالبكاء والحسرة وكأنه ارتكب خطأ فادحا لا يمكن التساهل فيه!
ولأول مرة أرى أحمد دون خياله الذي رسمته أنا وكنت أجره وراءه أينما ذهب. لأول مرة أجد نفسي أمام أحمد الحقيقي دون أن يكون للقبه التأثير في إسقاط أي مشاعر عدائية أو مشاعر غضب عليه لا ذنب له فيها.. وجدته متألما حزينا لا يستطيع مسامحة نفسه لهذا الخطأ البسيط.. تعاطفت مع معاناته جدا وعندما وجدته فعلا متألما أخذت ورقته التي لونها ووضعت عليها نجمة ذهبية ورفعتها أمام بقية زملائه وأشدت بتلوينه الرائع والتزامه بحدود الرسم وجعلت الأطفال يصفقون له.. ثم علقت رسمته على لوحة الفصل.. تأملت علامات الفرح على وجهه ولكن لم يفُتني تعبير بجانب عينيه ينم عن عدم الرضا عن عمله وعن نفسه، وأنه مازال يرى الخط الرفيع الخارج عن حدود الرسم ولا زال يعتقد أنه أخطأ وأن هذا الخطأ غير مغفور له، على الأقل لن يغفر هو لنفسه هذا الخطأ!
وكان هذا الموقف تحولا جذريا في علاقتي بأحمد الأحمر، فبالرغم من الحاجز النفسي الذي سببه شعره الأحمر وما يستدعيه ذلك داخلي إلا أنني أدركت أنه يمكنني تخطي هذا الحاجز ورؤية أحمد ذاته من خلال كل ما قرأت وتعلمت. وسألت نفسي فجأة من هو أحمد؟؟ ففوجئت أنه لا إجابة لدي.. أنا حقا لا أعرفه ! ولم أبذل أدنى مجهود لمحاولة سبر أغواره كما أفعل مع الأطفال الآخرين. ولا حاولت تحليل تصرفاته ودوافعها ولا التواصل مع والديه لمناقشة مشاكله كما أفعل مع بقية الأطفال.. صدمتني فكرة جَوْري على أحمد الأحمر وظلمي له، وأنا من كنت أظن نفسي فوق تلك الأخطاء وأني محمية من الانزلاق فيها بما تعلمته وعايشته وخبرت ألمه.
قررت أن أبحث حالة أحمد الأحمر وأبدأ من موقفه الأخير مع رسمته لأفهم ما يعاني.. وسأقص عليكم في المرة القادمة ما عرفته عن أحمد وما أدركته من مشكلته ومشكلة والديه والتي للأسف موجودة بصورة كبيرة وملحوظة في معظم بيوتنا!!
اقرأ أيضاً
أصل حكايتنا نحن البشر / إغواء آدم وذريته / مفهوم اللغة في حياة الطفل