الإخوة الكرام
فريق استشارات مجانين، أهديكم التحية الطيبة المباركة من عند الله سبحانه وتعالى، وأكتب لكم هذه الكلمات لا لترجمة مشكلة أعاني منها، وإنما تعليقا على مشكلة الأخت "إيمان" من مصر والتي عنونت بـ"هواجس حول الحب والنقاب"؛ إذ قام الأستاذان الفاضلان بالرد عليها، وهما د. أحمد عبد الله ود. وائل هندي، جزاهما الله خير الجزاء.
وإني وإذ قرأت الردين الفاضلين بما فيهما من ينابيع حكمة؛ لم أستطع تمالك نفسي من كتابة هذه الكلمات؛ إذ إن الردين رغم روعتهما لا يمسّان صلب المشكلة -إن سُمح لي بقول ذلك- ولا أقول هذا الكلام من باب الثرثرة، وإنما من باب العلم المؤكد بما أقوله.
لقد كنت فتاة كهذه، وأعرف فتيات كثيرات مثلي ومثلها، وبينما كنت أتابع كلماتها كنت أشعر بها تتحدث عن "أفنان" الماضي التي ذهبت مع الماضي بلا رجعة، لكنها أعادت إليَّ ذكريات تزورني بين الحين والآخر فأستغفر الله منها، وأتخذ من ألمها الكائن في صدري عزيمة لأوصل لقريناتي ما كنت أتمنى أن يصل لي وقتها، فينتشلني من هذه الحيرة، الحيرة بين الدين والحب، بين الغريزة والعقل.
كنت في ذلك الوقت أقول في سخط لنفسي: "لماذا لم يخلقني الله كهؤلاء الفتيات الضائعات فأجرب حظي من الحب، وأستقي من رحيقه ثم نكون من بعده قوما صالحين؟ لماذا خلقني الله وأنا أعرف عواقب فعلتي منذ البداية؟ لماذا لم يمنحني فرصة للضياع أولا ومن الضياع أتذوق حلاوة الهداية؟ من الشك أصل إلى اليقين، بدلا من أن أحرم حتى ميزة الشك؟" ثم أعود وأستغفر الله من هذه الوساوس الصبيانية، وأحمد الله على أن منحني من قوة الإيمان والعقل ما وقف حاجزا بيني وبين التردي في هاوية الرذيلة كما تردت الكثير من الفتيات.
استوقفني طويلا سؤال الدكتور أحمد عبد الله الذي يقول: "هل تضخم هاجس الحب والغرام والجنس ليصبح الشغل الشاغل لأغلبنا رجالا ونساء، وبخاصة في مرحلة الشباب، هل له علاقة بتضخم فكرة أو مكانة الحجاب كواجب ديني ليصبح هو الأهم وسط بقية واجبات الدين التي تبدو غائبة؟! وهل الحياة هي الحب؟! وهل الالتزام الديني هو الحجاب؟! هكذا باختصار وتلخيص يبدو المشهد الحالي كما أراه، فماذا ترون؟".
وقفتي مع شطره الأول؛ فاسمحوا لي أن أقول للدكتور الكريم من منطلق الفتاة التي جربت ثم تحدثت بعد أن انتهت تلك التجربة بكل مرارتها: نعم للأسف، هاجس الحب والغرام قد تضخما كثيرا وأصبحا شغلنا الشاغل. نحن كفتيات متدينات لا نفتح التلفاز إلا لكي نجد حديثا عن الحب والغرام ابتداء من مسلسلات الأطفال البسيطة، وانتهاء بأعقد أفلام هوليوود، ولا نفتح كتابا أدبيا إلا وتطالعنا "آلام الفؤاد وتباريح الهوى"؛ إذ إن معظم الشعراء الذين خلد شعرهم لم يكن إلا في هذا المجال، ولا نفتح قصة تاريخية إلا وبطلها يهيم حبا بفتاة محظوظة، نتأمل كل هذا الكم من الحب الذي يلامس شغاف قلوبنا، ونعاين بأنفسنا كيف تتحول الفتاة من "لا شيء" إلى "كل شيء" ما دام هناك من يهيم بحبها.
هذه هي الحقيقة يا سادة، تستطيع الفتاة أن تكون مؤثرة وفعالة وناجحة اجتماعيا، لكن هذا كله لن يملأ الفراغ الذي في قلبها، ولن يجيب على سؤالها الأبدي والذي تسأله الفتاة أكثر بكثير من أي رجل كما تعلمون "هل أنا مقبولة حقا في المجتمع الذي أمامي أم أنهم ينافقونني كلهم، أو يخافون من كسر خاطري بعدما يرون مجهودي تجاههم؟ وإذا كنت مقبولة ومحبوبة كما يدعون فلماذا أنا بلا حب أهيم به ويهيم بي من النصف الآخر من المجتمع، ذلك الحب الذي يهتم بشقيّ الإنسانيين، فيحب جسمي كما يحب روحي، ويحب وجهي كما يحب عقلي؟".
إن حب المجتمع لأية فتاة لن يتعدى الإعجاب بأخلاقها ومبادئها وتعاملها الحسن، لكن ذلك الجزء الأنثوي الموجود في عقلها لن يكف عن الصراخ: "أين من يصف جمالك؟ أين من يتوه بنظراتك ويعبرها ألف تعبير؟ أين من يراك شيئا عظيما ولو استصغرك الناس؟".
وفي نفس الوقت، لن تقتنع الفتاة بمن يحب جسدها فقط -إن كانت من ذوي الجمال- بل تبحث عمن يمزج في حبها ذلك المزيج السحري الرائع، بين العقل والجسم، والروح والجمال. عند هذه اللحظة فقط ستكف نفسها عن الصراخ والأنين، وستغمض عينيها في سعادة، وقد نالت كل روعة ممكنة في الحياة، وبعدها فليكن ما يكون.
إننا -كفتيات- نتأثر بأفكار من حولنا رغما عنا، ونتأثر بنظرتهم إلينا رغما عنا، فيسيطر علينا سؤال من عينة: "ماذا يقولون عني؛ لأنني حتى الآن لم أرتبط بأحد؟ سيقولون إني فاشلة"، مع اختلاف مقدار هذا التأثر. لكن إذا وضعنا هذا التأثر من ناحية، وما جبله الله فينا من نزعة أنثوية من ناحية أخرى، ثم وضعنا هذا كله في قالب المراهقة والشباب التي هي سن "الخيال والقلب الخفاق" بمناسبة وبدون مناسبة، يصبح هذا بالفعل همنا وشغلنا الشاغل، وبعده يمكن أن يأتي أي شيء وكل شيء.
كل مصيبة في الحياة تكون كبيرة جدا إذا لم يكن هناك قلب "خفاق" يحتملها معنا. وكل داهية تصبح صغيرة جدا إن مزجت دمعتنا بدمعة صادقة حنون. في حياة كل منا إحباطات تكفيه، قد تكون قاتلة له إن تلقاها وحده، وقد تكون داعمة ومشجعة للمضي قدما إن كان هناك من يحتملها معه.
ما أريد قوله يا سادة، إن الحب ليس أهم شيء في حياة الفتاة، ولكنه من الأهمية بمكان أن يكون كـ"الأنزيم" الذي تعتمد عليه التفاعلات الحيوية في أجسامنا اعتمادا كبيرا، بحيث لا تتم تفاعلها إلا بوجوده، ورغم أنها كلها موجودة فإن هذا هو الارتباط الذي ينقصها ليتم التفاعل، أو أن تأخذ وقتا طويلا -أطول من اللازم بكثير- حتى تكمل تفاعلها لوحدها، وتنتج ما يحتاجه المرء ليبقى على قيد الحياة.
ربما تجدون في كلامي هذا مبالغة وتبريرا لتصرفات خاطئة لا داعي لها، لكن دعوني لأقول إني لا أبرر، فقط أخبركم بالمشكلة أين هي، مشكلتنا أعقد من أن يقال لنا "اعقلوا واهدؤوا" فنعقل ونهدأ ونصرف تفكيرنا إلى أمور أخرى...
حياتنا بين مد وجزر، بين رادع الدين، ودافع الغريزة، رادع الدين لا يعززه إلا الخوف من الله، ودافع الغريزة يعززه في اليوم ألف معزز، ولذلك نحن في صراع مستمر، الكلمة السحرية الوحيدة التي تعالجه هي "الزواج" من إنسان يرتضيه القلب والعقل معا، ومع سلوك الطريق الموصلة إليه بدون أخطاء، هذه الكلمة فقط، لكنها للأسف لا تجلب بضغطة زر، ولا أحد يتدخل في الأقدار غير الله سبحانه وتعالى.
ربما أخاطب فتيات جيلي بالشطر الثاني من الحل؛ إذ إن الزواج عن طريق خاطئ لن يكون سعيدا كما يراد له أن يكون، فأنا أقول لهن: "حافظن على الشرط المتعلق بكن، والله سيمنحكن الفضل المتعلق به"؛ لأن الأمر ببساطة واضح في حديث الرسول الكريم "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"، لعل الله يجعل لكل الفتيات من أمورهن مخرجا. اصبرن على تجرع العلقم ساعة، ترزقن بعدها بسعادة الدهر.... ولكن كيف؟ كيف هذه هي دور الكتاب والأدباء والمفكرين الإسلاميين.
أجدني قد أطلت كثيرا، أرجو منكم المعذرة، كان بإمكاني أن أكتب أكثر وأكثر، فإن في فمي من تجربتي وتجربة صديقاتي الكثير من الكلمات التي أتمنى لو أزرعها في عقول الفتيات فيجدن بردي الراحة في صدورهن بعد عذاب الحيرة والحسرة، لكن المقام لا يتسع!
جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأتمه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
26/ 4/ 2006
رد المستشار
الابنة العزيزة "رغدة" -أو الأخت العزيزة في غياب معرفتنا بكم سنة تبلغين من العمر- أهلا وسهلا بك وأشكرك حقا على إفادتك الثرية هذه، وأقول لك إن معك حقا، بل معك كل الحق في أن تضخم أهمية وإلحاح الحاجة للحب ولتلبية الغريزة الجنسية قد أصبح من أهم الأمور الفاعلة في حياة شبابنا وفتياتنا، وأنه فعلا كما قلت: "حياتنا بين مد وجزر، بين رادع الدين ودافع الغريزة، رادع الدين لا يعززه إلا الخوف من الله، ودافع الغريزة يعززه في اليوم ألف معزز... ولذلك نحن في صراع مستمر".
صدقت وقد يكون الدكتور أحمد عبد الله محقا في حالة الذين لبى الزواج رغباتهم وحاجاتهم الغريزية، لكنهم بسبب فراغهم المعرفي وفقر اهتماماتهم الاجتماعية يمنحون الجنس أهمية أكثر من اللازم.
لكن قد يكون من الظلم أن نوجه ذلك الاتهام للمراهقين، أو لمن لم يدركوا سن الزواج المتعارف عليه في مجتمعاتنا، أو لا يستطيعون "الباءة"، أو من هم في انتظار الرزق بـ"العريس" المناسب من الفتيات، بقدر ما هو من الأهمية بمكان في عديد من الأزواج والزوجات الذين يتعاظم لديهم الهاجس الجنسي و"تتسرطن" الرغبة في تعظيم المتعة، خاصة في المناخ الذي نعيشه الآن الذي نزع بدوره مفهوم "الرضا الجنسي" بفعل ما تبثه السماوات المفتوحة.
ماذا يستطيع الشباب اليوم فعله؟ الحقيقة أنني أرى مطالب عدة يجب أن توجه إلى المجتمع ككل؛ حيث إنه مطالب بتلبية حاجات أفراده، من خلال مؤسساته وقوانينه الفاعلة، والواقع أن مجتمعاتنا العربية كلها بالأفكار السائدة فيها والظروف والمبادئ الحاكمة لها -كلها اليوم كلها- في موضع تساؤل حين يكون السؤال.. ماذا يستطيع الشباب اليوم فعله؟ فبينما تضع كل المعطيات شبابنا على صفيح ساخن، وفي مهب رياح ساخنة، فإن أعداد القادرين على الزواج في تناقص مستمر، والمشكلات التي تواجه الجميع لا حصر لها.
ماذا يا ترى يكون الفرق بين من يحافظ على عفته ومن يفرط فيها في هذا الزمان؟ والكلام هنا عن الذين لم يتمكنوا من الزواج رغم اكتمال بلوغهم جسديا ونفسيا، وأقصد بـ"العفة" هنا العفة السلوكية، هل يا ترى يستوي من يدخلون في تجارب "جنسية- عاطفية" قبل الزواج فيجربون ولو بحذر وتعقل مع من يصونون عفتهم؟.
كنت حتى وقت قريب أجادل الدكتور أحمد عبد الله برأي تكوّن لدي أثناء سني حياتي السابقة على ممارسة مهنتي كطبيب نفسي، وهو أن من يفرط في عفته قبل الزواج ويستمرئ ذلك إنما يفقد جزءًا أو كل المتعة الحقيقية مع شريك حياته بعد الزواج، وأن من يصون نفسه إنما ينعم الله عليه بمتعة عظيمة مع شريكه الحلال.
وكان رد الدكتور أحمد دائما متمثلا في قوله: "أحسب يا دكتور وائل أن المسألة أكثر تركيبا وتعقيدا من ذلك"، والحقيقة أنني اكتشفت بعد ذلك ما يخالف تلك الحقيقة، خاصة فيما يتعلق بجزاء من يتعفف، حيث أذهلني أن التعفف عن خوف أو عن جهل يؤدي في كثير من الأحيان إلى مشكلات بعد الزواج، وليس المقصود من كلامي هنا هو أن المفرطين أسعد حالا بالعكس -طبعا- لكن مشكلاتهم لا تفاجئ أحدا، وهم غالبا يعرفون أنهم مسئولون عن تفريطهم.
إذن ما هو التعفف المطلوب أو ما هو التعفف الصحيح؟ هذا ما أدعو أخي أحمد عبد الله إلى محاولة بيان معالمه في رده عليك الذي سيكون قريبا جدا.
وأسأل الله أن يجزيك خيرا على مشاركتك الفعالة والثرية على صفحتنا استشارات مجانين.
ويتبع >>>>: اعترافات شاب حول هواجس الحب والنقاب مشاركة1