أجد سعادة غامرة في نفسي لما حدث من سجال مثله فريقان من الأمة؛ شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي ومن حذا حذوه من علمائنا ومن دعاة الأمة، والأخ الفاضل الداعية عمرو خالد ومن وافقه على منهجه من الفقهاء والدعاة ، وذلك من موقف الأزمة الدانماركية وكيف نتعاطى معها ، غير أنه يجب علينا أن ندرك بعض الأبعاد التحليلية لنفهم القضية من منظور صاحبها، ومن منظور المردود منها.
وحدة الهدف
فالهدف العام من كلا الموقفين المتباينين واحد، وهو نصرة الأمة في أحد أشكال تلك النصرة، وقد رأى الشيخ العلامة القرضاوي استنهاض الأمة من خلال هذا الموقف، وإحياء ما في نفوس الأمة المهزومة من تحقيق نوع من الجهاد الصدامي وإن كان فكريا، ليقول للغرب: إن المسلمين لم يموتوا، وأنهم سيدافعون عن قضاياهم مهما كلفهم هذا، وأن الغرب بما يملك من أسلحة السيادة والإعلام والاقتصاد وغيرها لن يثني الشعوب المسلمة عن أن تدافع عن دينها.
بينما رأى الأخ الفاضل الداعية عمرو خالد أنه من الأولى اقتناص الفرصة، ومد اليد للغرب حتى يفهموا القضية، إذ الصورة الإسلامية مازالت مشوهة عند كثير منهم، حتى لو كان هناك اتهام لمن قام بهذا العمل اللا أخلاقي، فإن الفرصة سانحة أن يستمع الغرب لنا، ومن البلد الذي أعلن حملة الإساءة، وهو اعتذار ضمني منهم، وكأنهم يقولون للعالم – حسب فهم فريق الأستاذ عمرو خالد: نحن لم نفهم أبعاد الموضوع، وها نحن نستمع من الدعاة المسلمين لنراجع موقعنا، وليكون فهمنها أكثر، وتلك نتيجة يفهمها فريق دعاة الشباب على أنها مرضية، بعيدا عن نوايا الدانماركيين، هل هو بالفعل استماع لأبعاد القضية الغائبة عن أذهانهم، أم أنها استجابة للضغوط الاقتصادية والثقافية التي تعرضت لها البلاد، وما قد ينجم عن هذا أيضا من تخوفات في ظل انتشار الفكر العنفي من الإسلاميين، غير أن الرابط الذي يجب ألا يتيه في قراءة القضية، وهو حسن القصد، والسعي للكسب الذي يحقق للأمة مصالح ترفع من شأنها.
النتاج الفكري للتربية
وهذا الفهم المتابين من كلا الفريقين هو في الحقيقة يمثل نتاج فكر لجيلين مختلفين، في مكوناته الثقافية والتربوية، وطبيعة الدعوة وشكلها الذي تربى عليها، وإن كانت هناك أصول واحدة، بل يكاد زعيما الفريقين ينبثقان من رؤية دعوية أصلها واحد، غير أن كلا منهما يمثل تيارا له ارتباطه وتأثيره بالزمان والثقافة السائدة والأحوال التي عاشتها الدعوة في خلال فترة تكوين كل منهما، فالشيخ من رعيل الدعوة الأول الذي عاشر أحداثا جساما من الاحتلال الغربي للدول الإسلامية، وهو قارئ جيد للتاريخ يدرك أبعاد الأطماع الغربية وموقفها من الدين المخالف- حسب تلك الرؤية، كما أنه فقيه وأصولي، ينظر للأمور بناء على النظرة الأصولية، وهو صاحب راية فقه الأولويات، واعتبار المآلات والمقاصد، وعدم الانشغال بالجزئيات والصور، وهو وإن كان رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ؛
ولكنه يتعامل مع الغرب بوصفه الشيخ الموجه لعموم المسلمين، ولا ينسى في هذا المقام أنه طور الفكر الفقهي فيما يخص الأقليات المسلمة مع جهود بعض الفقهاء بناء على مدرسة الوسطية التي يتزعمها، والذي يعد هو شيخها في عصرنا، كما كان لاحتكاك الشيخ القرضاوي – مع علو شأنه في العلم- بغالب علماء الأمة من المتخصصين في الشريعة والدعوة، أو من غيرهم من علماء السياسة والاقتصاد، والمشاركات العلمية الرصينة ما أنتج هذا التوجه المقاصدي، ولا يفهم أبدا من موقف شيخنا القرضاوي أنه يمنع التحاور مع الغرب، لأنه قائدها في العصر الحديث، غير أنه يرى أن الوقت الآن غير مناسب، وأن جولة المكاسب لم تنته بعد، فلو تمهل فريق الدعاة الشباب لكان أولى، يضاف إلى هذا طبيعة الإلقاء والوعظ والخطاب مع المكانة العلمية في الأمة ما أضفت على رؤية القرضاوي من الحماس، كما كان أيضا لحالة العداء الذي يكمن في نفوس المسلمين للغرب أثر بالغ في إضفاء الحماس على الرؤية القرضاوية من الأزمة الدانماركية.
أما الأستاذ عمرو خالد فهو الداعية الذي تربى على قليل من علم الشيخ والمدرسة التي ينتمي لها، ولكنه الشاب المحب لدينه، الذي استطاع أن يتجاوز الحواجز المغلقة لينال فتحا من عقول وقلوب الناس، فأضحى من أنسب الدعاة خطابا وقبولا لدى الأوساط المتعددة، وكم أثنى الشيخ العلامة القرضاوي عليه وعلى أسلوبه، ولكن الرؤية التي خرجت من الشاب الداعية هي تتناغم مع التربية الدعوية التي نشأ عليها عمرو خالد، فقد تربى على الثقافة الإسلامية بعيدا عن التأصيل الشرعي، وأخذ من الثقافة ما يمكن أن يتحرك به مع الناس، في أوساط أقرب للمسالمة، وهو ابن الطبقة الراقية، وتمتاز دعوته لهذه الطبقة بما هو غني عن الكلام، فهو من أبناء الجيل الأكثر انفتاحا مع الغير، ومن سماته أنه ينتهز الفرصة في وقتها، ولا يرى وقتا لضياعها، فهو يتعامل مع الأحداث بمنظور تفصيلي واقعي، وقد نال قسطا أكبر من التقارب مع الغرب، سواء من خلال الطبقات التي نشأ فيها وما فيها من سمات تأثرت بالحضارة الغربية، أو التعامل المباشر، وليس هذا مقام ذم، بل هو مجرد وصف، فطبيعة الطبقة الثرية في المجتمعات العربية هو القرب بشكل أو آخر من الحياة الغربية، وهذا يجعل عمرو خالد أكثر انفتاحا في هذا الموقف من شيخنا العلامة القرضاوي.
وهنا يبرز الفارق بين من يضع الموقف في سياقه العام والسعي لفهمه على منهج مقاصدي، وبين من يشغل نفسه بكسب موقف آني، ربما يستفاد منه للمسلمين، ثم يمكن النظر بعد ذلك لما يترتب على هذا الكسب، وأحسب أنه لا يمكن الحكم بالخطأ على أحد الموقفين.
القضية نسبية
ولكن تكمن المشكلة في أن يكون ما حدث سببا في زعزة الصف المسلم، وأن ينقلب تيار الوسطية لفريقين، فريق الشيخ القرضاوي وفريق الأستاذ عمرو خالد، متناسين أننا نتحدث في قضية نسبية لا تتعلق بثوابت العمل الإسلامي، ولا تتعلق بالحلال والحرام، بل أرى أن من قدر الله تعالى أن يحدث هذا، إذ تعدد وجهات النظر فيها من المحاسن والمحامد ما قد ينتج من المكاسب، وأن على كلا الفريقين أن يتمسك كل منهما بموقفه، فالتعددية الفكرية شيء فطري في حياة الناس، وهو أيضا يجب أن يكون في كل مجال حتى المجال الديني، مادام بعيدا عن الثوابت المتفق عليها، بل قد يكون من المفيد للأمة أن يحمل هذا الفريق همه وفكره، فيؤتي ثماره، وأن يتوجه الفريق الآخر بفكره ليؤتي ثماره في اتجاه آخر، وخاصة أننا نتحدث عن قضية معقدة، فالموقف من الغرب ليس شيئا واحدا، وقد رحم الله الإمام ابن القيم حين جعل الجهاد في سبيل الله بضعة عشر نوعا، وليس نوعا واحدا، بل في أشد حالات الأمة حين تحتل أرضها يكون هناك الجهاد القتالي لطرد العدو، والجهاد السياسي والدبلوماسي، والجهاد الاقتصادي والجهاد الثقافي والفكري، والجهاد الفني والإعلامي، والجهاد التربوي والاجتماعي، فهذه مجالات الحياة، ويكون ألا ينحصر مفهوم الجهاد فيها على نوع واحد، بل يتخير الأنسب والأفضل لوقته، وربما كان في الجمع كثير من الفوائد.
إحسان الظن مطلوب
ما أطلبه الآن هو الرجوع إلى أصول الإسلام من إحسان الظن بالآخر، والنصح بحب لكل الفريقين، وأن نتعلم كيف نقبل الاختلاف فيما بيننا، أو على الأقل إن لم نتفق فلنتفاهم، فيدرك كل واحد لماذا يفعل الآخر هذا، وإن لم يوافقه عليه، فالحق لا يتعدد عند الله، فهو عنده سبحانه واحد ، لكنه عند الناس قد يتعدد، وهو أمر يقبله الله تعالى، والله سبحانه لا يحاسب الناس إلا على ما أداه إليه اجتهادهم، بل قد يكون فرصة للأمة أن تتعلم كيف تدير الخلاف بينها في كثير من قضاياها، وحين تتوجه لقضية خارجية فمن المستحسن ألا نلتفت للخلاف الداخلي، لكن ربما نعود له بعد ذلك تقويما وتقييما حتى ندرك إلى أين نحن ذاهبون؟ فنحن في سفينة واحدة، وقصدنا واحد، وإن كان الطريق للمقصد مختلف.
اقرأ أيضا:
التلفزيون التفاعلي في الحج.. رؤية نقدية / النكاح في الدبر .. الشجرة المحرمة / صلاة مشتركة في الكنيسة