الأبعاد النفسية لحرب الشرق الأوسط السادسة
وردت صفة (النفسية) أكثر ما وردت في الحرب الأخيرة بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية، نظراً لأنها المرة الأولى التي تتصدى فيها مقاومة عربية لمحور إسرائيل ـ أمريكا بهذا الوضوح والشفافية، وأيضاً بكل تلك البسالة. وهى حرب الشعوب التي انطلقت على أرض لبنان لتثأر (نفسياً) لعقود من المرارة وتجرع الذل؛ (فالموت أهون على الحر من حياة تجرعها غصص ذل وهوان).
والأمر بين الكيان الصهيوني وحزب الله تحديداً أشبه بجلسة نفسية يستخدم فيها كل طرف كل الحيل النفسية كلها لكسب المعركة (إعلامياً ـ شعبياً وسياسياً)، هنا جاء الخطاب المقاوم هادئاً مبتسماً متواضعاً واثقاً ثابتاً وصادقاً، في حين بدا الخطاب المهاجم ملتبساً، معتمداً على أمريكا، مخفياً خسائر، محاولاً قدر الإمكان التشويش على أي انتصارات بإنزال خسائر أو بكسب معركة الأسرى والمعتقلين.
هنا تقف إسرائيل بكل جبروتها وعنفوانها، عربدتها وتفوقها العسكري، عاجزة عن التحايل، فالمكتوم أصبح يذاع من خلال كل أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، وكذلك عبر الإنترنت والرسائل الخلوية (الموبايل).
لجأت إسرائيل إلى كل شيئ (الترهيب، التخويف، التهجير، التدمير، الهزء) من الآخر، التقليل من شأنه ومن حجمه، ومحاولة إحداث بلبلة أو شق للصفوف للحط من القدرة على الصمود وعلى المواجهة، لكن ما يحدث لم تتوقعه إطلاقاً، فبعد انسحاب إسرائيل الكامل من جنوب لبنان في مايو 2000 قسراً، ودون أية شروط إطلاقاً بدأت في العالم كله مجموعة من الأحداث وكأنها سيناريوهات دقيقة، ربما لم يكن بعضها مقصوداً فالحدث الأكبر كان في 11/9/2001 عندما هاجم تنظيم القاعدة (أمريكا)، وأياً كانت التأويلات والتفسيرات في هذا المجال، إلاّ أن ثمة نقطة تحول نفسية نالت من الهيبة الأمريكية الفظيعة.
ويمكن اختصار القول في تلك المسألة بذلك الولد مدمن الهيروين الذي جاء إلى طبيب نفسي بعد 11سبتمبر، رقص وصاح، غنى وقفز، لمست يديه سقف الغرفة وقال (أمريكا بحالها اتضربت يا رجالة، هادوّر على طريقة أنخرط فيها في المقاومة في أي مكان على وجه الأرض ضد أمريكا وإسرائيل)، إذن فالحدث الجلل كان عامل شفاء لا يسجل في أكبر معاهد وأماكن علاج الإدمان في العالم، إنه التحول النفسي الأشدّ الذي يفجر في النفس طاقاتها ويطلق إبداعاتها. عودة إلى شكل الأحداث فمن حديث خجول عن (الشرق الأوسط الجديد)، مروراً بنكبة العراق منذ احتلاله، وفشل الإدارة الأمريكية علناً، كما فشلت وجرت أذيال الذل والعار في فيتنام والصومال.
ثم بدأت (الفرَشة) باللعب على الأسلوب العتيق (فرق تسد)، إلى محاولة تخفيف ينابيع العنف السياسي وحسب قولهم (الإرهاب) بتغيير المناهج، بتشجيع كل أمور الإلهاء بل والتدمير الجسدي والمعنوي للأمة العربية من خلال شبابها (بالمخدرات)، إلى (حصان طراوادة) في مصر ثقافياً وشعبياً، (بحيث يتم إلغاء الناس بأكل العيش، وهو حل ويأكل كل الوقت ـ إلى الفن الرخيص واستشراء الفساد وانتشار كل المعوقات الاجتماعية، التي لا تسمح إلاّ بالسكون والسكوت، إذا خرج شيء فهو صيحة وصرخة وألم دون أي تفعيل يمكن أن يضرّ بمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل، انتقالاً إلى سوريا وتخويفها بقضية اغتيال (الحريري)، إلى اللعب على أوتار (عَدْوَنة) الآخر؛
فبعد (الاتحاد السوفيتي)، صار (صدام)، ثم الآن (إيران) والمدّ الشيعي؟؟؟، إلى فلسطين والتنكر لديمقراطية انتخبت (حماس)، ثم تحييد بلدان مثل (اليمن، ليبيا والسودان بشكل مضحك تماماً)؛ إلى الامتداد بعد الفشل الواضح في العراق إلى أرض الشام، وسط كل هذا كانت المقاومة اللبنانية تحفظ الدرس وتتعلمه ولا تنتظر، لكن تكون على أهبة الاستعداد لمنازلة الخصم، ولا نزال كل الحق له بقتله وأسره و الصمود في وجهه.
عودة إلى السلام النفسي؛ فإسرائيل لا تعامل حسن نصر الله كما عاملت صدام أو بن لادن، أو حتى الظواهري (تصريحات بوش الأخيرة تعقيباً على كلام الظواهري المتلفز كان فيه استخفاف بذلك الكلام المكرر)، فحسن نصر الله كشخص وكزعيم، كقائد ومفاوض يمتلك كل الإمكانيات النفسية والشخصية التي تؤهله لأن يكون نداً لإسرائيل، بكل ترسانتها العفية ولأمريكا بكل غطرستها الرهيبة؛ فهو يعرف أصول اللعبة، ولا يبدأ بالحد الأدنى لكن يرتفع بهامته بسقف الشروط إلى حدّها الأقصى (إطلاق سراح جميع الأسري العرب، كشف مصير كل المفقودين العرب أو إعطاء معلومات عنهم وكذلك إعطاء معلومات عنهم وكذلك إعطاء خرائط عن مواقع الألغام التي زرعها الإسرائيليون وميلشيا لحد).
وعندما وجه نصر الله رسالته الأخيرة المنمقة ذات المنهج المرتب المتسلسل لم يقل كما قال غيره (سنضرب تل أبيب)، لكنه قال (مرحلة ما بعد حيفا، وبعدئذ أردف (وفي الزمان المناسب)، (مرحلة ما بعد، بعد حيفا)؛ إذن فهو لم يهلل ولم يحدد وترك عدوه في حيرة شديدة وارتباك وخوف حقيقي (لأنه وعد وصدق في كل ما سبق ووعد به)، وهو رغم خطاباته السابقة لم يلجأ إلى (الكلمات الحماسية)، أو (علوّ الصوت)، احتراماً للشهداء، وما لحق ببلده وأهله من ناحية ومن ناحية أخرى ليطيح بكل تصورات الغرب عن أنه (إرهابي فظيع متعطش للدماء).
إذن فهو قد بدا متحضراً (جداً)، ذكياً (للغاية)، وقادراً على الوصول إلى القلوب ربما لبعض أعدائه قبل مناصريه في كل العالم. في الإطار العام لكل ذلك، دائماً ما يحتفظ هو بورقة (فذلك أيضاً أسلوب إسرائيل): (ورقة الطيار الإسرائيلي المفقود في لبنان 1986 رون أراد والتي ربطتها إسرائيل لأسباب داخلية بورقة الإخراج عن سمير القنطار عميد الأسري في سجون العدو).
هذا من ناحية، من ناحية أخرى تسبب نصر الله في هزّ، بل وتشويه صورة إسرائيل أمام نفسها وتهشمها أمام شعبها. إن قوة سماحة السيد حسن نصر الله تكمن في حنكته وخبرته ودرايته الشديدة بالإسرائيليين؛ فهو (الشاطر حسن) الذي يبهر حبيبته (الأمة العربية) ويأتى بالمهر اللازم لفك أسري الأسرى، وهو ـ بالقطع ـ يفاجئنا ويفاجئ العدو باستراتيجية لي الذراع، عض الأصابع، من يصرخ أولاً، من يصرخ أكثر... أو من لا يصرخ إطلاقاً... على الرغم من القسوة الشديدة والإيلام العنيف الذي يقع عليه بسبب تفوق عدوه عليه عسكرياً، إلا أنه قادر على أن يوجعه بضرب (البارجة) و(بالصمود)، وأيضاً بضرب هذا العدو في عقر داره.
إن المسألة برمّتها مركبة (نفسية ـ سياسية ـ اجتماعية بالأساس وهنا فإن مفهوم الفضاء النفسي Psychological Space) للمقاومة اللبنانية، للعدو الإسرائيلي، لأمريكا، لكونداليزارايس، للسيد حسن نصر الله، لأولمريت، يعنى تلك البيئة المحيطة التي تتغذى من كل ما حولها ومن معطياتها الأمنية والسياسية وأيضاً الشخصية، وهنا فإن لكل من هؤلاء تفرده، فـ (جورج بوش) حتماً غير أي رئيس أمريكي آخر (على الرغم من الإدارة الأمريكية واحدة في سياستها)، وأحمدي نجاد غير رامسنجاتى (حتماً)، على الرغم من أن السياسة الإيرانية واحدة، حتى في توجهها الإقليمي (منذ عهد الشاه)، كل تلك التفردات تخلق فرصاً للتفاوض أو تعدمها، تبادل الأسرى والمعلومات؟؟ (كيف) وما هو معنى(التفاوض غير المباشر)، الذي هو (مباشر) مع أطراف و(غير مباشر) مع أخرى، وحتى تفسيرات ما يجرى يلخصها أحد الإسرائيليين بقوله (الجيش الإسرائيلي قوى جداً ـ لكننا لم نتوقع من حزب الله كل ذلك ـ لقاء مع قناة الجزيرة).
خلاصة الحرب النفسية تلك الدائرة أو غيرها عبر الأزمنة تكاد تتلخص في (إدارة العمليات بكل أبعادهاـ اختراق العدو بكافة السبل للتأثير على معنوياته ـ مراعاة تأثير الصورة والكلمة على جميع الناس ـ الاعتماد على الموروثات الشعبية والدينية وغيرها مثل إعطاء معلومات مغلوطة، خلق وسط محلي وعالمي مساند في المواجهة، تطويع الأجور السيئة لصالح القضية، البروباجاندا بمعناها الأوسع، والقدرة على التحكم في الأزمات، وحلّها ثم يأتي دور (الابتزاز) مباشرة وعن بعد عن طريق تحوير الأمور، وكذلك استغلال نقط الضعف لدى العدو. وأعتقد أن المقاومة ككل، وحزب الله تحديداً، والسيد حسن نصر الله، ونحن، داخل هذه الأطر حتى الآن لا مناص من اتساع الأمور، كما تزدان الجموع العربية بشرفها الذي طالما مرغته إسرائيل في الوحل.
15/6/2005
اقرأ أيضاً :
سيكولوجية المنافق، الضلالي .. والبلطجي / سيكولوجية الضرب بالجزمة