لم تكن نكتة أطلقها المصريون في لندن حينئذٍ جاء في الصفحة الأولى لصحيفة الإندبنتنت في أواخر التسعينات (أبوس جزمتك) I kiss Your shoes وكان الخبر مفاده أن مصرياً خرق القانون فأمسك به ضابط إنجليزي ليقوده إلى قسم الشرطة ولاختلاف الثقافات لم يفهم الإنجليزي أن ذلك معناه قبول الذل لقاء الحرية، وظن المصري أن الإنجليزي قد يقبل بالعرض ويطلق سراحه لكن الأمر لم يدم ولم يفهم.
ثلاث صور (اثنان لمصوري المصري اليوم المبدعين: الأولى لـمواطن يحمل السكين على خلفية كنيسة في الإسكندرية، والصورة الثانية لعسكري يضرب مواطن بالجزمة على رأسه وهو ملقى على الأرض لا حول له ولا قوة، والثالثة كانت لوكالات الأنباء لقطة تأكل في تأني بقايا الطعام على ترابيزة تركها السياح وسط دمار دهب). وأعتقد أن ثمة ما يربط بين الصور الثلاث بقوة، تدوير القهر، الغِلّ الشديد، العنف المكبوت، الحرمان من الحريات، الخوف، والخوف من الخوف، من المعلوم ومن المجهول مما هو آت.
الصورة التي نشرتها المصري اليوم من الجانب هي نفسها تلك الصورة من الأمام نشرتها عدسة الـ BBC على شبكة الانترنت كانت واضحة للغاية في الخلفية عُصي غليظة مرتفعة في الهواء، مدنيون محشورون في الوسط ومندوب شرطة يركل بقوة، صحته حلوة، وبذته البيضاء ناصعة، في يده اليمني جهازه اللاسلكي وكان يقوم بالمهمة في إخلاص شديد وإلى جانبه ضابط مسلح يراقب المشهد، تري هل كان الراكل بالحذاء سعيداً، هل كان يفش غله ويدوّر قهره، هل هو الجاني والضحية، تقافزت إلى ذهني سريعة تلك الكلمات؛ "يا حارس السجن ليه خايف من المسجون، هيّ الحيطان اللي بينها قش يا ملعون، واللاالسلاسل ورق واللا السجين شمشون، يا ليل يا عين".
في نفس الصفحة الأولي للمصري اليوم الجمعة 12-5-2006 صورتين لا يمكن تجاهلهما، صورة لعامل نجا من انقلاب أتوبيس بترعة في دمياط، كان الرجل يبكي في حرقة تهدهده أمه وهي تلتفح بالسواد، بدا عليه الفقر والحزن والألم، الحسرة والضياع وكان يبدو - والله أعلم – حزيناً لأن النجاة قد كتبت له لكي يعيش في هذا الزمن الصعب، أما الصورة الثانية فكانت لتامر حسني حليقاً داخل القفص وكان أحدهم قد كتب في أهرام 13-5-2006 عن مقارنة مضحكة بين من هبّو لتأييد المستشارين مكي وبسطويسي وهؤلاء الذين كتبوا على فانلاتهم بالإنجليزي كلنا بنحب تامر حسني، أما كاميرا عمرو عبد الله التي تفتت ستقابلها كاميرا خلاياه في المخ ذاكرته البصرية التي تحتفظ بالكثير.
تذكرت تلك الصورة المكتوبة لطاهر عبد الحكيم في كتابه الأثير (الأقدام العارية) وهو يحكي عن تجربته في سجن الواحات، كان أحد الضباط القدامى أن يضرب رءوس المثقفين والمفكرين بالعصا (استهزاءاً منها ومما تحمله وخوفاً من تأثرها)، وكان ألقي أحد الضباط الكبار بطاهر عبد الحكيم أرضاً وجاء ليركله أو ليسحق وجهه ورأسه لكن طاهر نظر في عينيه وتراجع والمسألة بعيدة عن التخويف بقدر ما هي استنفار المشاعر الكامنة داخل هؤلاء الناس.
فهل أصبح ركل الناس مهنة، هل تأدية الأوامر بهذا الشكل الحقير أصبح أمراً يدعو للفخر وأكثر لنيل الحوافز ونيل الرضا؟! ما الذي يدور في ذهن هؤلاء عندما يعودن إلى بيوتهم. يأخذون أولادهم في أحضانهم ويحدثون نساءهم عن بطولاتهم. هل هذا صحيح.
أم أنه الندم الأشد والخوف الداخلي المتعاظم. هل يبكي هؤلاء بينهم وبين أنفسهم. هل يحسون بمرارة في حلوقهم أم أن حساسيتهم قد نزعت وازدادت جلودهم سماكة، أم أنهم قد صَاروا كمدمن الخمر، مدمنين على العنف والبطش، ضربة واحدة قاسية، عشرون غير كافيةOne is too many Twenty is not enough ومن يرعى مدمن (العنف) يتواطأ معه وينتج عن هذا ما يسمي بالاعتمادية المتواطئة Codependency وهي عملية مرضية تنتج أسرة مضطربة، بل شديدة الاضطراب فعلاً.
يذكرنا ما يحدث الآن بعادل إمام لما حكي إنه يبكي في السينما رغم أن الفيلم كوميدي لأن حذاءه كان ضيقاً للغاية، كان بكاء إمام مؤثراً لدرجة أن مسئولي السينما قد أحضروا له مدير الأمن والمحافظ هو مازال (بيعيط) يحكى أن محافظاً ذهب ليصلي الجمعة فمشي وراءه سكرتيره حاملاً له حذاءه وكان المسجد مزدحماً، وكانت للسيد المحافظ سكته في أن يجد مكاناً وسط الصفوة، على الرغم أن المؤمنين إذا صلوّا صاروا كأسنان المشط واحتاس السكرتير بحذاء واحتار فيه.
فلا يوجد مكان أمين يضعه فيه، ولا يوجد أي مكان خالص يودعه السرّ الأمين، ولا هو قادر باللحاق بالمحافظ ولا يستطيع طبعاً وإطلاقاً أن يعطي المحافظ جزمته ويمشي هو، يغور، يروح في ستين داهيه يصلي في أي مكان ولم يتمكن بالطبع من الصلاة حاملاً حذاء السيد المحافظ، لا نعرف نهاية القصة، لكن نتصور أن السكرتير قد جن جنونه وأثار الذعر وأنتهي بضرب نفسه بالجزمة لأنه كان سكرتير المحافظ حاملاً أختامه وحذاءه وأشياء أخرى لا يعلمها إلاّ الله؟!
15/6/2005
اقرأ أيضاً :
الأبعاد النفسية للحرب السادسة / حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله