هناك احتمالات ثلاثة للرد على هذا التساؤل:
الأول: يقول: إن التيار الديني إنما تيقظ، نتيجة انحسار التيار الخلقي، أي أن وجود الظاهرتين معا هو وجود سبب ونتيجة، بمعنى أن الناس الطيبين حين أدركوا عمق الهوة التي انحدر إليها المستوى الخلقي، بدؤوا يلملمون أنفسهم بتعويض مضاد، وهو الالتزام الديني، وهذا التفسير يبدو سهلا ومنطقيا، ولكنه يحتاج إلى إثبات وإثبات؛
فلابد أن نتأكد من أن الذي يقوم بهذا الغش هو غير المتدين دون المتدين، بل لابد أن نتأكد من أن المتدين يقوم بحركة شعبية للنهي عن هذا المنكر حقيقة وفعلا، ذلك لأن مجرد الاستشهاد بحديث شريف من دار فتوى، أو إعلان تحريم من مركز قيادة، لا يكفي لإثبات أن التيار الديني ضد هذه الظاهرة إذ لابد من اختبار هذا الفرض في الممارسة الفعلية.
أما الاحتمال الثاني فهو: أنه لا توجد علاقة أصلا بين الظاهرتين (صحوة التيار الديني.. وانحسار التيار الخلقي)، بمعنى أن العالم ملئ بالخير والشر جنبا إلى جنب، وليس هناك مبرر للربط السببي أو غير السببي.
وهذا مهرب جيد ظاهرا، إلا انه لو تعمقنا الظاهرة فقد نكتشف أنه مهرب ضعيف فعلا حيث أن كثيرا ممن قاموا بهذا الغش استعملوا كلمات دينية لها دلالتها مثل (حرام عليك) ، (كله بثوابه..) إلخ..
وأخيرا فإن ثمة احتمال ثالث يقول: أن بعض التيار الديني -وليس كله- قد أشاع نوعا من الالتزام الفكري بالعقيدة على مستوى السياسة والملبس، وبعض السنن (العمرة) دون الاهتمام بدرجة كافية بالأخلاق الفردية الصلبة، التي تمثل اللبنات الأساسية لدور الدين الحضاري، حيث أن أغلب ما يشاع بين هذا الفريق من المتدينين هو نوع من الأخلاق الشكلية أو النفعية دون التقشف السلوكي والجدية.
ورغم أن لكل احتمال من هذه الاحتمالات ما يشير إلى إمكان صدقه إلا أني سوف أركز على الاحتمال الأخير، باعتباره أولى بالنقد، فالشجب حتى لو لم يكن أكثر الاحتمالات ترجيحا.
ولابد من التنبيه -ابتداء- إلى أن ثمة فرقا جوهريا بين الدين كما أنزله رب العالمين: هداية للبشر، وتأصيلا للحق، وإنارة للعقل، وإرساء للعدل، وبين الدين كما انتهى بعضه إليه: صفقة خائفة، واستسلام ظاهر، وقشرة هشة.
ثم نتذكر أيضا أنه كان رسول الله خلقه القرآن وحين يسير النبي في سلوكه اليومي مثلا حيا لما أوحي إليه، فإن معنى ذلك أن الدين قد أصبح معلما مميزا ظاهرا في الخلق والمعاملة، وليس مجرد إعلان عقيدة أو مناقشة وجهات نظر.
وبالنظر في ظاهرة الغش الجماعي -كما وصلت إلى وعيي- تصورت أن الدين قد أسيئ استعماله بشكل خطير، حتى كاد يصبح مبررا لعكس ما أنزل له. ذلك انه إذا صح الاحتمال الثالث السالف الذكر -بعضه أو كله- فلا بد أنه قد حدث انفصام حقيقي بين القيم الدينية والقيم الأخلاقية، وكأننا نسينا أنه إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وكان بعض المتحمسين المتعجلين قد اكتفوا بالملبس والزبيبة وتوظيف الأموال والدعوة إلى تطبيق الشريعة فورا، اكتفوا بذلك عن الموقف الخلقي والجوهر الحضاري لما هو دين، الذي هو حقيقة الإيمان وطريق التكامل، حيث:
الكلمة مسئولية، والشرف الداخلي هو دفة الأخلاق، والعمل هو خير الناس، والأمانة هي يقظة الوعي، وكل ذلك يجعل قيمة العدل على صعوبتها، هي محور الوجود البشري والإلهي، بما ل ينفع معه تقريب أو تسهيل أو تشهيل، نعم، لا يبدو في الممارسة الفعلية أن ما يسمى بالتيار الديني قد اهتم بالقدر الكافي بهذا البعد الحضاري والخلقي لما هو دين، ومن ثم فقد أسئ استعمال الدين لدرجة أن بعضهم قد يبرر هذه الظاهرة الكارثة الغش بتعبيرات دالة لما فيها من محتوى ديني بشكل أو بآخر.
ولتوضيح ذلك، فسوف أورد بعض أمثلة مباشرة، أعتذر عن طبيعتها الشخصية لكنني وجدت ذلك أقرب إلى الواقع الحي، وبالتالي، قد يكون أصدق تصويرا:
* قالت مراقبة لابنتي قي أول امتحان شهادة عامة (الابتدائية) تحضره في غير مدرستها: يا شيخه ماتبقيش أنانية، حرام عليك، ساعدي اللي جنبك ينوبك ثواب.
* أبلغني أحدهم أنه سمع بأذنه مراقبا لزميله بعد أن أتم إملاء الامتحان بأنه: كثر الله خيرك، وربنا يبقيه لك ولأولادك.. ويوقف لهم أولاد الحلال أمثالك
وغير ذلك كثير مما يدل على أن هذا السلوك لم يعد مسموحا به فحسب، بل لقد أصبح مطلوبا، وكأنه فضيلة يثاب عليها.
ومثل ذلك يحدث في مجالات أخرى مثل أن تطلب زميلة أو زميل مني أو من غيري إضافة اسمها أو اسمه، إلى بحث علمي لله، وكأن ذلك صدقة جارية.. إلخ.
ثم انتقل خطوة تالية في محاولة لتفسير كيف انتهينا إلى هذه النهاية الناقضة آكل ما هو دين حق، فأحاول أن أقرأ لغة تبريرية كامنة في هذا السلوك، إن لمتكن على مستوى الشعور فهي لابد قابعة جاهزة على مستوى اللاشعور.
هل نقبل هذا التفسير؟
وسوف تكون استشهاداتي شبه إسلامية أملا في أن أساهم في تنقية ديني من سوء الفهم المحتمل هذا:
1- إن هذا الغش (التعاوني) لم يرد فيه نص وان الذي يستشهد بالحديث الشريف من غشنا (غش أمتي) فليس منا لا يحسن فهم الحديث أو تفسيره، أنه حديث قيل في البيع والشراء، وهذا ليس بيعا ولا شراء، ثم من قال أن هذا التعاون هو غش أصلا لأمة المسلمين، إنه تعاون واجب ورحمة بأولاد المسلمين (وغير المسلمين)، وكله بثوابه.
2- بما أن الإثم هو ما حاك في الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس، فهذا الذي يجري (التعاون!!) إنما يجري جهارا نهارا، ويعلن في الميكروفونات، ولا نخشى أحدا أن يطلع عليه، ناسا أو حكومة، وبالتالي فهو ليس إثما أصلا.
3- إننا لا نسرق ملكا خاصا بأحد، فهذه المعلومات:
ا- إما أنها لا صاحب لها، فهي مثل الكلأ والماء، يغترف منها من يشاء كيف يشاء، فلماذا سوء التأويل هذا؟
ب- أو أنها ملك الدولة، وثمة فتوى قديمة والعياذ بالله تقول إن سارق المال العام لا حد عليه، لأن له نصيبا فيما سرق، وبالقياس، فهذه المعلومات (المقتبسة) هي حلال لمن يأخذها.. إلخ.
ج- أو أن هذه معلومات غريبة المصدر (أو حتى كافرة) والاستيلاء عليها هو نوع من الغنائم، أو حتى هو سبي لبنات أفكارهم، ونحن في حالة حرب مع الفرنجة، فمعلوماتهم حلال لمن ينهبها!!
د- أو أن هذه المعلومات هابطة تافهة لا نفع، ولا سرقة إلا لذي قيمة، فنحن لا ترتكب إثما بأخذ هذه القشور الزائفة.
وهذا هو أقرب التبريرات قبولا بالنسبة لي، بعد الاستغفار.
4- إن هذا التعاون (الغش) يحقق منفعة للمسلمين (وغير المسلمين) ولا يضر أحدا (!!) فلا ضرر ولا ضرار.
5- ثم إن بعدا آخر قد ظهر في بعض كليات الجامعة، حين أشيع أن ثمة تفرقة بين الطلبة بحسب دينهم، فتشيع كل أهل دين لفريقه، من باب الرد، أو الوقاية.. ثم تفاقم الأمر حتى أصبح هذا التعاون هو نوع من العدل التعويضي بشكل أو بآخر!!
الدين يرفض هذه التبريرات
ثم أسارع لأؤكد أن كل هذه التبريرات ليست من الدين في شيء، وإنما هي أخطاء سوء فهمه وسوء استعماله، وقد يكون مناسبا أن أعرض صورتين (شخصيتين أيضا 0 بعد الاعتذار) أرى أنهما تقعان في الجانب المقابل، وأنهما أحق أن يمثلا البعد الأخلاقي للدين الحضاري، حتى ولو لم نعلق فوقهما لا فتة دينية.
* أكلف بعض طلبتي -على مستوى الدكتوراه خاصة- أن يقوموا بالإجابة على امتحان تجربة في خلال وقت محدد، في منزلهم، والكتاب في متناولهم، ولا أحد معهم، ويحضرون لي نموذج الإجابة، وأصدقهم، ونتحاور، ويتأكد حسن ظني، ونعاود المحاولة أكثر التزاما وأكثر ثوابا، وتنجح التجربة تماما.
* يمر أحد مدرسي ابني (طالب بالجامعة) عليه أثناء الامتحان، وهو يعرفه ويعرف مستواه، فيجده مرتبكا أمام جزئية من سؤال بذاتها، وهو (المدرس) يعرف مستوى الطالب تماما، فيشير عليه بما يذكره بها لثقته بمستواه، فيقع ابني في ضيق ليس له حل، فإذا كتب ما سمع فقد غش، وإذا حرم نفسه من هذه الفرصة ظلم نفسه إذ لعله كان سيتذكرها بنفسه، ويشتد الصراع، ويخرج ابني -علم الله- وقد أبى أن يكتب ما سمع، ولا يصدقه أحد، لكنه في نهاية النهاية يرضى بما فعل، فأدعو له الله أن يجزيه خيرا كثيرا.
ولا أظن أن هذين المثالين هم الشذوذ (إلا من باب الندرة) بل إني أعتقد أنه إذا انتصر الدين الحق، لا الدين الشكل، فلسوف يكون مثل ذلك هو الطبيعي، والبديهي، والفطري، بلا أدنى تفكير أو خطابة أو إثبات.
إذن فالدين براء مما قد يفسرونه به، أو يستعملونه له، وهذه التبريرات يعرف الله زيفها، وتعرف فطرتنا السليمة كذبها، وخليق بنا أن نتجه إلى تنمية عمق التيار الديني: موقفا حضاريا أخلاقيا، وسلوكا فرديا ملتزما، ثم يعم الجميع، وبهذا فقط يمكن أن نقوم حياتنا على كل مستوى، خاصة بالنسبة للمجالات الأخفى والأخطر، حيث الغش يصعب تحديده رغم التأكد من وجوده.
وقد آن الأوان أن نتقدم خطوة أخرى، تليها خطوات، لتعرية صور الغش الأخفى، بادئين بالشبهات الحائمة حول حياتنا التعليمية والعلمية، نعم لابد من المبادرة الآن وليس بعد، حتى لا نفاجأ إن آجلا أو عاجلا بما لا يمكن تداركه أيضا، إذن فحديثنا القادم يطرق مجالات تبدو مقدسة، ولكن ما باليد حيلة ذلك أنه ما خفي كان أعظم.
اقرأ أيضا:
هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم / الدين المشوّه والحاجة إلى ثورة تربوية فقهية