أتذكر الآن بعض الروايات والآثار التي كنت أقرؤها في بعض الكتب غير الموثَّقة في بداية طريقي نحو المعرفة الدينية؛ وكان منها على سبيل المثال: أن فلانًا من التابعين ظلَّ أربعين سنة لا يضحك!! أو أن الآخر رأى منكرًا لم يستطع تغييره وعندما دخل الخلاء بال دمًا!!
كنت أظن أن الأول ربما لم يكن بجواره بعض إخواننا من المصريين خفيفي الظل الذين يَضحكون وهم يبكون! ويُضحكون الحجر! وقد يكون الثاني مصابًا بمرض في الكلى، أو ما شابه؛ فيبول دمًا ويظن أنه من شدة الورع!!
ورغم ذلك ونحن في هذا العصر البعيد عن الورع أصبحت أظن أن ذلك ممكن الحدوث بالفعل في ذلك العصر الغابر الذي لا يماري أحد في ورع أهله الشديد أسره، وما دفعني إلى الإقرار بذلك سوى تلك الآثار المتناثرة هنا وهناك والتي تدل على نسبة الورع الشديد لأهل هذا العصر؛ والذي هو ورع يفتت الكبد!!
ومن باب الاستفادة ربما يمكن الأطباء في أمتنا استحداث تقنية تقوم على تعريض المصابين بحصوات الكلى لقراءة مثل تلك الآثار مرة قبل الطعام ومرة بعده؛ فربما تسهم في تفتيت الحصوات، وأرجو من الله ألا تتسبب في تفتيت الكلى!
ومن تلك الآثار الكثيرة سؤال قرأته مؤخرًا على أحد مواقع الإفتاء (بمناسبة) غرق العبارة المصرية السلام 98-على ما أظن- والأقاويل التي حامت حولها، ونص السؤال أخي القارئ حتى أشركك في لوعتي؛ وأنصحك بأن تضع قطعة من القماش المبلل في حلقك؛ حتى لا تصدر عنك صرخة لا إرادية، ربما يكون فيها هلاكك؛ مثل مشجعي الكرة المصرية.. نص السؤال هو:
"تناقلت لنا الأخبار أن حريقًا شبَّ في إحدى السفن وهي في عرض الماء، والناس أحد فريقين (هكذا كأنه كان معهم): بين منتظر للسلامة على السفينة، وبين قافز في الماء، وهنا تساءلت هل يجوز لمن كان في مثل هذه السفينة أن يقفز في الماء أم ينتظر في السفينة التي تحترق؟ وجزاكم الله خيرًا"
آه يا أمتي!
آه لو أن ابن الخطاب لك هنا! لما تبسط معك كما تبسط أهل الفتوى فأفتوك وبسطوا مائدة الحوار، ولكان فعل معك كما فعل مع صاحب التمرة؛ هذا الذي كان يصرخ عن تمرة التقطها في السوق: لمن هذه التمرة؟ فعلاه بالدرة -وكان لا يعجبه الحال الأعوج- وقال له: يا صاحب الورع الكاذب! أتنادي على تمرة في سوق التمر؟!!
ألا يعلم هذا السائل الورِع أن الله قد غرس في الناس -بل وفي الحيوانات- غريزة "حب البقاء والحياة" والتمسك بها؟! ليتصرفوا على أساسها في مثل تلك المواقف، فتراهم يهرعون -بلا تفكير- إلى ما يظنونه سبيل نجاة وإن كان في نظر غيرهم هلاكًا، ألم يسمع عما تسميه العامة بـ"حلاوة الروح"؟! ثم ألم يعلم أن الله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، ولا يكلفها فوق وسعها؟!
ومما زادني حيرة وألمًا تبسط المفتين معه في الفتوى، دون أن يحاولوا الارتقاء بفهمه وفقهه لواقعه، حتى إنهم للأسف قد ذكروا له في ذلك خلافًا شاذًّا عن رأي الجمهور ولا قيمة له؛ يقول: إنه يلزمه المقام والصبر!! لأنه إذا رمى نفسه في الماء كان موته بفعله، وإن أقام فموته بفعل غيره!!
واعجبًا والله! لا أدري ما الذي يدفع امرءًا مسلمًا عاقلاً إلى قذف روحه في الماء مع يقينه بالموت.. إلا ضرورة تموت معها المحذورات؟!!
ألم يكن الأوْلى بسؤاله أن يكون عن مدى جرم وحرمة الاستهتار بأرواح البشر، وعدم احترام قدسيتها عند الله، وعدم الأخذ بأسباب حفظها ووقايتها؟!!
ألم يقرأ ذلك الخبر:
أعلنت شركة "كونارد" مالكة السفينة "كوين ماري2" أكبر سفينة ركاب في العالم، تحويل السفينة للإصلاح، ويعود السبب إلى عجز السفينة عن السير بأقصى سرعتها (يا عيني!!) بسبب وجود عطل في أحد المحركات، وقد أدى ذلك إلى إلغاء جولتها في البحر المتوسط. ولم تذكر الشركة موعدًا محددًا لإعادتها إلى العمل.
لك الله يا أرواح الضعفاء من أمتي!!
أما أنا أخي الفاضل فأفتيك فتواي الساخرة فاحفظها: إذا كنت في تلك الحال فافعل أمرًا من اثنين:
الأول: ابق في السفينة ولا تتحرك وانتظر حتى يصل إليك الحريق، ثم ابدأ في تشمم رائحة الشواء اللذيذ، وتساءل في تعجب: من أين تأتينا تلك الرائحة الطيبة يا قوم؟!! إن كان حواليك قوم!
الثاني: اقذف بنفسك في الماء المالح واحتضن الموج المتلاطم واصرخ: "جايلك يا بحر" كما فعل يونس شلبي في "سفاح كرموز"!!
وإن لم يعجبك أحد الخيارين؛ فأرجو أن تتعلم السباحة، ولا تظن حينها أنك ستنجو، فإن كنت ستنجو من الحريق بالقفز في الماء؛ فماذا تغنيك السباحة في تلك الأمواج المتلاطمة والمساحات المترامية؟!! ثم ماذا ستفعل في حال احتراق القطار، وانفجار الإطار، وتهاوي العقار؟!!
وأشد من ذلك وأمرُّ أن تحترق الطائرة ثم يبتلعها المحيط الهادي أو الهائج!! فتلك موتة مضاعفة أو "دُبل" كما يقولون!
أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله!
واقرأ أيضاً:
النظام «المتعدد الإعاقة»! / الإله.. هل هو خرافة؟! / تفسير الأحلام.. أوَحْيٌّ بعد رسول الله؟!