إن إحدى الآثار التي ينتجها الاقتصاد الرأسمالي هو تكدس الثروات في يد قلة من الأغنياء تعيش في انعزال عن بقية المجتمع الفقير, وتزداد الهوة بينهما يوم بعد يوم.. ويزداد معها جشع الأغنياء وطمعهم وبخلهم, وتزداد أيضاً نقمة الفقراء وحقدهم على الأغنياء.
إنني استعير هذه الصورة واستنسخها ضمن إطار الفكر والثقافة، فقد صرنا نتعامل مع الفكر والعلم بنفس المبدأ. متعلمون ومثقفون يزدادون علماً وثقافة يوماً بعد يوم, وجهلة لم يسعفهم الحظ أن ينالوا نصيبهم من التعليم والثقافة غالباً بسبب ضيق ذات اليد, ومع الأيام تزداد الهوة بينهما ويزداد غرور المثقفين وتعاليهم وبخلهم بما لديهم من علم, ويزداد حقد الجهلة عليهم لأنهم لا يفهمون ما يقوله هؤلاء المثقفون ويزداد كرههم لهم بازدياد تعاليهم عليهم.
إن إفراط هؤلاء المثقفين في أنانيتهم هو السبب الرئيسي في توسيع هذه الهوة، فهم لا يبالون حقيقة بحق المجتمع عليهم في أن يمدوا يدهم لجاهلة بالتعليم والتثقيف بقدر ما يبالون بأن يقال عنهم مثقفون ومبدعون يشار إليهم بالبنان، وحين يمدون أيديهم بالمساعدة لهؤلاء المحرومين من نعمة العلم, يفعلون ذلك بتكبر وغلظة ومنّة يسوقونها عليهم، يكتبون ويقولون ما يدور بخلدهم غير مبالين بأن هناك من لا يفهمهم. ويكتفون بالقلة المثقفة من حولهم حتى يصبحوا أمة من دون الناس، فإن لم يعجب الجاهل قولهم زين لهم غرورهم بأن العيب ليس فيهم, فهم الطبقة العليا الموصوفة بالعبقرية والملقبة بالمبدعين والمثقفين، علية القوم وأسيادهم ومن عداهم هو والعدم سواء واجب عليهم الصمت أو التأمين على آيات الوحي التي يستقبلها هؤلاء المبدعون.
اسمحوا لي يا أسيادنا المثقفين ان استخدم إبرة صغيرة لأفقأ بها بالون غروركم وجلالكم المزعوم في لحظة, وأخبركم أن قمة العبقرية تكون حين تصل بعقلك إلى ما لا يدركه من أهم أقل منك فعلاً من حولك, ثم تتمكن بعد ذلك من النزول مرة أخرى إلى مستواهم وتأخذ بأيديهم خطوة بخطوة ليصعدوا معك. إن قمة العبقرية هي أن تكتشف ذلك الطريق للنزول الآمن من علياء تلك القمة التي وصلت إليها ثم تكتشف الطريق السهل الذي يمكن أن يسلكه العامة نحو تلك القمة ليشاركوك فيها فالعامة عادة يبحثون عن الطريق أما الرواد فلا يسألون عنها لأنهم يعرفون أنه إنما تشق الطرق على آثار خطاهم, أما الاكتفاء بالبقاء في تلك القمة ناظراً لمن هم بالأسفل نظرات الازدراء حتى وإن غلفتها بالشفقة المصطنعة فهو عين الأنانية والنرجسية التي أخرجت إبليس من رحمة الله وإن اختلفت الطريقة.
إن اكتشاف طريق النزول تلك هو فعلاً التحدي الحقيقي للعبقرية البشرية والتي لم ينجح فيها على مر التاريخ إلا أولئك النفر القليل من المصلحين الذين نجحوا في تغيير العالم من حولهم بهدوء دون أن يعلوا صراخهم بالنقمة على جهل من حولهم أو الشكوى من اضطهادهم لهم لأنهم العباقرة الذين لا يفهمهم أحد، هؤلاء النفر القليل كان منهم الأنبياء والمرسلين وقلة فقط من المفكرين والمثقفين على مر التاريخ.
وأخيراً فكما أن للمال زكاة تجاهلتها الرأسمالية الاقتصادية فإن للعلم والفكر والثقافة زكاة تجاهلتها الرأسمالية الفكرية, وأقولها زكاة وليست صدقة, فالأولى دفعها واجب بتواضع الخاضعين لا ينتابنا حين نؤديها غرور المتفضلين أو عجب المحسنين، ولا نشعر حتى أننا نستحق عليه ثناء أو شكراً فلا ننتظره لأنه وكما يقول المثل لا شكر على واجب.
واقرأ أيضاً:
التحرر من قيود الحرية / نقطة التوازن / الحياد بين السلبية والإيجابية