في أواسط القرن الماضي قال مارتن لوثر كنج مقولته الشهيرة "إن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة"، إن عبارة الوقوف على الحياد تحتمل معنيين أحدهما جرت العادة على استخدامه وصار الأكثر شيوعاً وتقفز إليه أذهاننا فور سماعنا للكلمة، وهو المعنى المرادف للسلبية بالبقاء في مقاعد المتفرجين على الأحداث دوماً بدعوى الحياد وعدم الانحياز لطرف دون آخر، وعادة ما يكون ذلك تغطية على الشعور بالعجز أو الخوف وهذا ما عناه لوثر كنج بالضبط في عبارته. ولكني هنا اليوم أود الحديث عن معنى آخر أكثر إيجابية للحياد،معنى نحن اليوم في أمس الحاجة إليه في ظل الصراع الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي طفا على السطح بعد ثورات الربيع العربي بعد أن ظل كامناً أو بالأصح مكبوتاً تحت السطح لسنوات طويلة.
إن الحياد الحقيقي هو أن يتجرد الإنسان من انتماءاته الفكرية المسبقة للحظات وينظر للموقف أو القضية محل البحث أمامه من كل الجوانب والاتجاهات باحثاً عن الحق والحقيقة. فهو كمن يعود إلى الخلف خطوة ليرى المشهد كاملاً من خلال زاوية رؤية أوسع، ثم يحكم عقله وضميره متجرداً من المصلحة والأهواء ومن التعصب والانحياز المسبق ليقرر أين هو الحق وفي جانب من؟ ثم بعد أن يتعرف على الحق ينتقل من طور اللاموقف إلى حالة الفعل والمساندة لصاحب الحق والوقوف في صفه أياً من كان. إن المحايد الحقيقي يفعل ذلك في كل موقف وكل واقعة على حدة. فهو يعرف أنه لا أحد على صواب طوال الوقت ولا أحد دوماً على خطأ. إن هذا النوع من الحياد هو الذي صنع القادة والعظماء وأَلهم الحكماء على مر التاريخ. بل إنه فريضة دينية كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فلما سأل عن نصرته ظالماً قال تمنعه أو تكفه عن ظلمه. وأكد على ذلك مرة أخرى حين قال في الحديث "لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت" صدق صلى الله عليه وسلم.
إن الحياد الإيجابي يفرض على صاحبه أن يقف مع الحق الذي يرتضيه ضميره في كل وقت وكل لحظة وكل موقف بعد أن يأخذ فرصته في التأمل والتفكير واستجلاء الوقائع والتوثق من المعلومات. لا أن يكون مجرد بوق يردد كالببغاء ما يقوله غيره ممن انضم تحت لوائهم الفكري. ولاحظ معي هنا أن تأييد فكر ما والدفاع العادل عنه ليس خطأً، ولكن إضفاء القدسية عليه أو بالأحرى على رموزه ممن لم يجعل الله لهم عصمة ولا أنزل عليهم وحياً يحول المرء إلى مجرد آلة تبرير للدفاع عنهم في صوابهم وفي أخطائهم، وتلك جريمة يرتكبها المرء في حق نفسه أولاً قبل أن تكون جريمة نكراء في حق المجتمع. إننا إن لم يتوفر في مجتمعنا قريباً ذلك العدد الكافي لتكوين الكتلة الحرجة من المحايدين الحقيقيين بما يسمح لخُلق الحياد الإيجابي بالانتشار في المجتمع، فإننا سنظل مجتمعاً متخلفاً يقع فريسة للصراعات والخلافات داخل نفق مظلم لن يخرج منه بسهولة.
إن هذا الخُلق ينطبق في كل مواقف حياتنا الخاص منها والعام. في السياسة والاقتصاد، في الفن والأدب وفي العلم، في البيت وفي المدرسة ومع زملاء العمل ورفقاء الطريق. مع عامل النظافة كما مع رئيس الدولة. باختصار فإن الحياد الحقيقي هو مفتاح من مفاتيح شريعة الحياة. وأزعم أن الإنسان لم يكلف ويستحق الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة إلا لأنه قادر على الاختيار بين أن يكون سلبياً شعاره "لو نعلم قتالاً لاتبعناكم" أو أن يكون متعصباً أو إمعة لا ينفك يردد "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" أو أن يكون محايداً عرف إجابة السؤال الأزلي (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكّر أولو الألباب)
وأخيراً حتى نرسم الصورة كاملة، فيجب أن لا ننكر أنه في بعض أحيان قليلة وفي بعض المواقف حين يختلط الحابل بالنابل حتى لا نكاد نشعر إلا أنها فوضى أو فتنة يحتار فيها اللبيب، فإن الحياد السلبي هنا قد يكون هو القرار الذي يفرضه الحياد الإيجابي ذاته ولكن فقط بعد أن تكون قد اكتشفت وأدركت جيداً أن هذا هو الحل الأخير الذي تمتلكه ضمن قدرتك ودائرة تأثيرك وحينها فلتقل خيراً أو لتصمت فإن كان الكلام من فضة فأحياناً يكون السكوت من ذهب.
واقرأ أيضاً:
العباقرة والمثقفون والرأسمالية الفكرية / نقطة التوازن / السر باختصار