كان يوسف شاهين بارعا في رسم معالم شخصية "حاتم" في فيلم "هي فوضى"، وكان بارعا أكثر في توقعه أن تقوم ثورة شعبية عارمة بسبب سلوكيات حاتم، ولكن حاتم كان أكثر براعة ودهاءا في استطاعته أن يتظاهر بالانتحار والانسحاب في لحظة المواجهة، وأن يبقى على قيد الحياة بعد الثورة العارمة، وأن يعود أقوى مما كان وأن يرفع شعاره الذي جاء على لسانه في الفيلم "اللي مالوش خير في حاتم مالوش خير في مصر" وبهذا ربط الوطنية بالحواتمية.
وحاتم كما جاء في الفيلم وكما هو في واقع الحياة يعيش أزمة نفسية فهو يشعر بالدونية لأنه لم يرتفع إلى مرتبة الضابط، ولم ينزل إلى مرتبة فرد الأمن، فهو كالذي رقص على السلم "لا اللي فوق شافوه ولا اللي تحت سمعوه"، ولديه مشكلة في قدراته المعرفية ومشكلة أكبر في قدرته على ضبط غضبه وانفعالاته والسيطرة على رغباته وهذا يسبب له نوعا من النبذ أو التجاهل أو الإهمال، ويشعر أنه يقوم بأعمال كثيرة ينسب فضلها إلى القيادات الأعلى التي تجلس في المكاتب المكيفة، وأنه في خط المواجهة مع الجمهور ومع المجرمين والخطرين والإرهابيين ولا يأخذ ما يستحقه، ومن هنا تأتي رغبته القوية في أن يعلن عن نفسه، وأن يثبت وجوده، وأن يثأر لكرامته، وأن يستثمر وظيفته، وذلك بمزيد من التسلط والهيمنة والجبروت والابتزاز. وحين يواجه حاتم بمن يقول له لا في لحظة تحصيله لإتاوة أو أخذ ما ليس من حقه، أو ابتزازه للناس أو للسلطة، فإنه يفقد توازنه ويخرج سلاحه الميري ويقتل من أمامه دون تفكير في العواقب.
والأمر لا يتوقف فقط عل سيكولوجية حاتم كفرد، ولكن يمتد إلى شعور حاتم بانتمائه إلى قبيلة الحواتمية، وأنه محمي بهم، وأن ثمة رسالة وصلت إليه بشكل مباشر أوغير مباشر مفادها "اضرب ومتخافش"، "اللي هاتضربه ممكن بسهوله نطلعه إرهابي أو مجرم"، "الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا والتحريات تحرياتنا"، "احنا أسياد وهما ولاد ..... عبيد"، "أنت الباشا وهما لامؤاخذة ..... "، "أنت أكتر حد طالع عينك في البلد دي، وهما قاعدين مرتاحين في بيوتهم أو على مكاتبهم"، "كل العيال ولاد ال.....اللي شاركوا في بنت ال.... الثورة أو أيدوها، وكل اللي طولوا لسانهم على أسيادهم لازم يتربوا ويرجعوا لجحورهم ويعرفوا قيمتهم ولاد ال ....." ، "اللي حصل في 25 يناير مش هايحصل تاني، والحمد لله رجعنا وخدنا حقنا تالت ومتلت، ومفيش حد من ولاد ال..... هايفتح بقه مرة تانية ".
وحتى نكون منصفين فإن حاتم والحواتمية هم مجموعة في الجهاز الأمني (الهام جدا في حياة أي مجتمع) يشكلون ورما سرطانيا فيه، وليسوا هم كل الجهاز ففي هذا الجهاز مخلصون ومهنيون وشرفاء بلا أدنى شك. وكأي ورم سرطاني فهم يتمددون ويزدادون سطوة يوما بعد يوم ويهددون سلامة الجهاز الأمني نفسه ويشوهون صورته ويهدرون جهده وتضحياته، ولهذا وجب على الجهاز الأمني ذاته التبرؤ منهم وتطهير نفسه باستبعادهم ومحاسبتهم وفقا للقانون. والكلام على حاتم لا ينسحب بالضرورة على كل من هم في رتبته الوظيفية فمنهم أيضا رجال محترمون يمارسون عملهم بنزاهة.
هذه التركيبة النفسية الفردية لحاتم والتركيبة القبلية الحواتمية ستظل تفرز أعمال عنف وقتل من حاتم ورفاقه لأنها تركيبة تجمع متناقضات نفسية خطرة (الشعور بالدونية، الرغبة في الإستعلاء والسيطرة والقهر كرد فعل للشعور بالدونية، استثارة المجتمع وما يستتبع ذلك من ثورة وثأر، الرغبة في استعادة السطوة والقمع بعد تراجع الثورة أو احتوائها أو ركوبها أو ترويضها أو تجميدها، الرغبة في الانتقام من الجميع، تثبيت أركان القبيلة الحواتمية وتقوية شوكتها حتى تستعصي على المواجهة بعد ذلك، خلق حالة من الخوف والرعب لدى الجميع حتى يسلم بالحاجة للحواتمية والتغاضي عن أخطائهم، تشويه كل المعارضين والثوريين والمنادين بالإصلاح واعتبارهم أعداء للحواتمية وبالتالي أعداء للوطن وبالتالي خونة وعملاء).
والحواتمية لا تستهدف خضوع الناس فقط وإنما تستهدف خضوع الدولة بكافة مؤسساتها، وهي تلجأ في ذلك إلى تنشيط عنصر الخوف والفزع لدى الجميع لتقول لهم "إما أنا وإما الفوضى والبلطجية وعدم الاستقرار"، وتقوم بعملية مقايضة "الأمن مقابل الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، الأمن مقابل كل شيء". وتلجأ قبيلة الحواتمية إلى ابتزاز الدولة حين يصدر من الأخيرة أي إشارة تغضبها فيعلنون العصيان والتمرد وإغلاق مديريات الأمن بالجنازير، فتضطر الدولة إلى المهادنة والطبطبة وإلغاء المحاكمات العسكرية للمخطئين من الحواتمية، وتركهم يحملون السلاح حتى لو قتلوا به الناس "الغلابة" من الأبرياء البسطاء.
والحواتمية يتبعون منهج "الاصطباحة والاستباحة"، فالاصطباحة تستوجب أن يصبّح عليهم سائقي الميكروباصات والتوك توك والبياعين السريحة وأصحاب الأكشاك ونصبات الشاي، أما الإستباحة فهي ضد كل من يخالف أوامرهم ورغباتهم إذ تصبح كرامته وتصبح حياته مرهونة بغضبهم وسلاحهم بصرف النظر لو كان طبيبا في مستشفى المطرية (أو أي مستشفى أو مصلحه أو مؤسسة) أو سائق نصف نقل في الدرب الأحمر يطالب بأجرته، أو صاحب نصبة شاي في الرحاب يرفض دفع الإتاوه ويطالب الباشا بثمن الشاي. وقيمة الإنسان تتدنى بشدة لدى الحواتمية من كثرة ما استباحوها في تاريخ ممارساتهم فهي لا تساوي ثمن توصيله أو كوب شاي.
والحواتمية هم مجموعة من الباشوات الصغار (لقبا وفعلا) يحتمون بباشوات أكبر، وهذه الباشوية التي اشتهروا بها تعطيهم الحق في الاستعلاء والاستحواذ والعقاب والقتل لكل من يقف في طريقهم أو يتطاول عليهم أو يطالب بحقه منهم، فهم بباشويتهم المكتسبة بقوة السلاح ورهبة الوظيفة فوق الجميع. ولديهم قناعة بأن يد القانون لن تطالهم فهم في حماية القبيلة، ولديهم شواهد كثيرة من أحداث متكررة أن القبيلة تحميهم، وأن الأحكام تنبني على أوراق وتحريات والتي هي بدورها في نطاق عمل القبيلة وسيطرتها.
والخطيئة الكبرى للجهاز الأمني هي اعتقاده بأن محاسبة ومعاقبة حاتم إهانة للجهاز الأمني وانتقاص من هيبته ومكانته، فنرى التبريرات والدفاعات والمراوغات من بعض المنتسبين للجهاز الأمني، وهذا يشكل حماية وتمكينا لحاتم والحواتمية يدفع ثمنه الجميع وأولهم الجهاز الأمني ذاته.
وقبيلة الحواتمية – كأي كيان سرطاني - تتضخم يوما بعد يوم، وتزداد أخطاؤها وخطاياها وتتجاوز حدود المجتمع المحلي لتتورط وتورط الدولة في اتهامات دولية، وما لم يتم تحجيمها وتطهيرها والسيطرة عليها فسيدفع المجتمع الثمن من أمنه واستقراره وسلامته. حمى الله مصر من الحواتمية ومن غيرهم.
واقرأ أيضًا:
أنا السيسي / مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد! / الدم الرخيص / سيكولوجية الثورة