الحضارة العربية الإسلامية ذات خزين هائل من المعارف والعلوم الإنسانية، التي تراكمت عبر قرون متوهجة بالإبداعات والعطاءات الأصيلة. وما يواجه هذا الإرث المعلوماتي المنير، أنه أما يكون محفوظا في الرفوف أو الرؤوس، أو يجري تحريفه، وقليلا جدا ما يتحقق توظيفه. فالواقع المعاصر يشهد قدرات ونشاطات تحريفية غير مسبوقة لتوفر الوسائل الجديثة والسريعة الكفيلة بالتحريف، ووجود العديد من أبناء الأمة المُبرمَجين نفسيا وفكريا وعقليا للقيام بهذه المهمة التدميرية لوجودها وحاضرها ومستقبلها، ولهذا تجد الكتابات السائدة في الصحف والمواقع تمضي بهذا الاتجاه المعادي للأمة والساعي لتدميرها ومحو ملامحها الحضارية.
كما أن الكثير من أبناء الأمة يحفظون معارفها وينطقون بها، لكنهم لا يتجاوزون الحفظ، فلا يتدبرون ما يحفظون ولا يفقهون ما يقولون ويقرؤون، شأنهم شأن الذي يحفظ القرآن لكنه لا يتدبر ما يحفظه ولا يفقه ما يردده، كالتي تعلمت حفظ القرآن في الكتاتيب وهي تردده قولا، وعندما تسألها عن معنى ما تقول تتسمر بوجهك وتحسبه اعتداءً عليها، ذلك أن دماغها قد تبرمج وفقا لآلية الحفظ.
وهذا يذكرني بطالب كان معي، يحفظ الرياضيات ونظرياتها عن ظهر قلب، لكنه يرسب في الامتحان، ويأتيني غاضبا ومتسائلا، كيف لي وأنا لا أحفظ مثله وأحقق أعلى درجة في الصف، وكنت أقف أمامه متحيّرا، وأجده لا يستطيع الخروج من آلية الحفظ المتسيّدة على دماغه.
وكان لي قريب في المدرسة، يحفظ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، لكنه يرسب في الامتحانات، وكنت أدرس معه، ولا أحتاج للقراءة لأنه يقرأ لي عن ظهر قلب ما في الكتاب، وأنا أصيخ السمع إليه، وما استطاع أن يتجاوز المرحلة المتوسطة، رغم حفظه لجميع الكتب المقررة!!
فالفرق كبير بين الحفظ والفهم، لأن الفهم يساهم في التطبيق واستخدام المعرفة في مواجهة التحديات، وهذا يأخذنا إلى التوظيف، فما نمتلكه من معلومات غزيرة نعجز عن توظيفه في واقعنا المعاصر، وهذا ما يثير دهشة المجتمعات الأخرى التي تنظر إلينا بعجب واستغراب، وتتوقع منا قدرات توظيفية معاصرة، وآليات إنجازية صائبة، لأننا نمتلك تراكما هائلا من التجارب والدروس والعبر والنواميس والبراهين والدلائل، والبوصلات الحضارية الكفيلة بوضعنا في مقام الأسبقية والأكثر تقدما في الدنيا.
وهكذا تجدنا نتأرجح ما بين هذه المحاور ونعجز عن التوافق مع عصر أوجدنا أسسه وأطلقناه من فضاءات إبداعاتنا وإنجازاتنا العلمية، التي أخرجت المجتمعات البشرية من دهاليز الظلمات إلى أروقة الأنوار العفلية والفكرية والإبداعية الفائقة.
فهل سنتعلم كيف نوظّف معارفنا التي فينا، أم سنبقى نلهث وراء السراب، ونستنسخ من الآخرين ما نعجز عن تدبّره وتوظيفه؟!!
إنها محنتنا الحضارية التي علينا أن ننتصر عليها، بما عندنا من قدرات وطاقات إنجازية!!
فهل سنستنهض بواعث جوهرنا؟!!
واقرأ أيضاً:
العرب عدو العرب!! / أقتل العرب بما يريدون؟!! / جمال عبد الناصر الومضة العروبية الوهاجة!!