في الثامن والعشرين من شهر تشرين الأول لهذا العام مرّت ذكرى وفاة عميد الأدب العربي طه حسين، عن عمرٍ ناهز الرابعة والثمانين. توفى ومصر في ذروة حرب أكتوبر وما أعقبها من تعقيدات وتفاعلات، ودوامات نكسات وطوابير انكسارات عربية متوطنة مزمنة.
صبي كفيف معفر بالبؤس والحرمان وشظف العيش، ومطمور بالجهل والتجاهل والأمية المدقعة في قرية مصرية مقاسية تكابد الأيام لتواصل الحياة. هذا الصبي الذي أفقده الجهل بصره فتوقدت بصيرته وتوهجت، لتنير عقول مكانه وزمانه وتمنح أنوارها المعرفية لأجيال متعاقبة. وقد انطلق من تلك القرية إلى القاهرة، ومن ثم إلى باريس يغوص بمعارفها ويسوح في عقولها وقلوبها، فأثرى وعيه ووسّع مداركه واشتد أوّار تفكيره ليكون قائد ثورة عقلية معرفية أصيلة، تسعى للتقدم والرقاء وجعل التعليم للناس كالماء والهواء.
وقد كان معجزة فردية بإرادة مصرية حضارية تحدّت العمى، وأعلنت أن القلب بصير والعقل يرى، فكان العقل أداته المثلى في التفاعل مع الأحداث وتقييم الأحوال في ماضيها وحاضرها. وكأنه كان يقول أن علة الأمة في تغيّب العقل الذي أوجدها وأنار دروبها وأسس كينونتها الحضارية، ولولا أهمية وأولوية العقل والتفكير، لما كانت أول كلمة ترددت في غار حراء هي "إقرأ".
طه حسين الإنسان والعقل الإبداعي الأصيل، الذي أرانا النور الذي ما كنا نراه لولاه، ونحن أصحاب عيون!!
وأدرك أهمية الجامعة في التقدم والرقاء وعاش استقلالها في باريس، وناضل من أجل أن تكون مستقلة في بلاده وبلدان العرب، لأن الجامعة المستقلة تعني المجتمع الأرقى، وهذا ما يعوز الجامعات العربية التي يتم حشرها في الكراسي.
طه حسين الذي قرأتُ كتبه في صباي، تجدني أعود إلى أيامه، وحديث أربعائه، ودعاء كروانه، والوعد الحق، وعلى هامش السيرة، وفي الأدب الجاهلي، وخواطر، وجنة الحيوان، ومرآة الضمير الحديث، وقادة الفكر، وغيرها العديد من كتبه التي علمتنا العربية والأدب الرفيع، ونوّرت عقولنا، ومنحتنا الثقة والقدرة على الكتابة بلغة الضاد الرائعة.
طه حسين ورعيله الأفذاذ هم الذين كوّنوا معارفنا وصاغوا مناهج تفكيرنا، وعلمونا أن العقل هو الثروة الحقيقية لدى الأمم والشعوب، وبإغفال العقل يستحيل كل شيء إلى عصف مأكول.
فأين العقل با أمة يعقلون؟!!
واقرأ أيضاً:
طه حسين الروح التي أثمرت!! / الديمقراطية والاستقلالية!! / الثقافة القانونية!! / العرب بين الذئاب والرعاة!!