قبل أيام كنت أتابع تقريرا وثائقيا عن معاناة الشعب البوسني أثناء العدوان الصربي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفتت يوغسلافيا، وما جلب الانتباه قول إحدى الفتيات البوسنيات وهي تصف تلك المعاناة بأن الإرادة الشعبية كانت متكاتفة لتحقيق النجاة الفكرية، أي منع الهزيمة الفكرية، فكنا نتفاعل من أجل الحفاظ على أفكارنا الأصيلة وقدرتنا على المقاومة والتحدي والبقاء بجميع معانيها ومفرداتها.
وأضافت: لقد نجحنا وصمدنا وانتصرنا بسلامتنا الفكرية، التي حافظنا عليها وصناها من أهوال العدوان الشرس العاتي.
وفي قولها معنى جوهري لحقيقة الاقتدار والانتصار والديمومة العزيزة المقدامة الباسلة العطاء، فالذي ينهزم فكريا تتواكب عليه الهزائم من كل حدب وصوب، والذي يصمد فكريا يتصدى للهجمات ويهزمها شر هزيمة.
وما يحصل في العديد من المجتمعات أنها انهزمت فكريا، أي حققت الهزيمة الذاتية أولا، وبسبب ذلك توالت هزائمها، وترنحت في دروب النواكب والتداعيات، فامتلكها الضياع وتناهشها الآخرون المتحفزون من حولها، وهي تزداد اندحارا فكريا وثقافيا ونفسيا. فهذه المجتمعات المندحرة فكريا، لا يمكن لها أن تخطو إلى الأمام لأنها مكبلة اليدين والقدمين، ومحكومة بالذين لهم شأن في تقرير مصيرها والعبث بوجودها الذاتي والموضوعي.
فالقوة الحقيقة هي فكرية وثقافية ونفسية، وأية قوة أخرى إنما تأتي منها، وفي التأريخ العربي الإسلامي، أن العرب قد تمكنوا فكريا وثقافيا ونفسيا ولهذا انطلقوا مع فجر رسالتهم، واستطاعوا بفكرهم المنير المتماسك الساطع أن يساهموا في رسم ملامح الحياة الأرضية على مدى قرون، وتمكنوا من إخراج البشرية من عصور الظلمات والأيام الحالكات، وبقوة فكرهم ونمو ثقافتهم قدّموا الإبداعات الأصيلة فارتقت نفوسهم وتماسكت إرادتهم، واستلهمت منهم القدرات أمم وشعوب كانت في سبات.
واليوم يعيش العرب مأزق الهزيمة الفكرية والثقافية والنفسية، ولهذا تراهم شظايا متناثرة في أصقاع الدنيا، ومتناخرة في ديارها، ولا تعرف موضعا ولا موقعا، ولا اتجاها، وإنما الرياح والأمواج تلعب بأشرعة وجودهم، والإرادات المتكالبة على افتراسهم، وهم في وجيعهم يتمرغون، وعلى بعضهم يتأسدون، وإلى ويلاتهم يتسابقون.
ولا يمكنهم الخروج من هذا المطب الفنائي والتدحرج الإمحاقي إلا بالعودة إلى نبع الفكر الأصيل، والنظر بمحتويات رؤوسهم وما يكمن في نفوسهم من الدمامل ويحتقن في أعماقهم من الأقياح، وما يسودهم من الجهل ونكران العلم والأمل والرجاء.
وتلك حقائق الوجود الأرضي وقوانين الصيرورات الحضارية تحت الشمس.
فهل من فكر رشيد وعقل سديد؟!!
واقرأ أيضاً:
كاسترو والقدرة النفسية!! / المجتمعات المحكومة بغيرها!! / الثروة البشرية لعنة عربية!!