الفصل الحادي عشر
عندما يواجه الناس أي خسارة قد تكون بسيطة، على سبيل المثال: فاتورة قيمتها بسيطة أو عدم تسلم خطاب متوقع. أو قد تكون خسارة مؤثرة مثل فقدان ابن أو ابنة أو زوج عن طريق الموت أو الطلاق أو فقدان وظيفة هامة، أو موت شخص عزيز؛ فهذا الفقدان للعزيز على أنفسنا يكون مصحوباً بالمشاعر والخطوات التالية:
(1) الإنكار
إن المرحلة الأولى هي الإنكار، وهي حالة تتكون من الصدمة والإجفال والذعر ورفض عام لقبول أو إدراك الحقيقة. فنقوم بعمل كل شيء وأي شيء لكي نعيد كل شيء إلى ما كان عليه أو نتظاهر بعدم حدوث شيء، فالإنكار حيلة دفاعية غير ناضجة، وعلى الرغم من ذلك فكل منا قد يستخدمها ولو لمرة واحدة في حياته؛ وذلك لكي يحافظ الشخص على توازنه النفسي في المواقف بالغة الصعوبة؛ حيث يكون هناك المزيد من التوتر والخوف في هذه المرحلة. فردود الأفعال المصاحبة للإنكار تشمل: رفض تصديق الواقع، أو إنكار أو تقليص أهمية الخسارة والفقدان، أو إنكار أي شعور تجاه الخسارة (اللامبالاة) أو التجنب الذهني لما يحدث، فقد نشعر حينئذٍ بأننا مبتعدون عن أنفسنا، وأن استجابة مشاعرنا سطحية أو غير موجودة أو غير ملائمة مثل الضحك عندما يجب أن نبكي والبكاء عندما يجب أن نكون سعداء!.
إننا نقوم بإصدار معظم سلوكيات المهتمين بشئون الغير في هذه المرحلة (هجر الأشياء والسيطرة وكبت المشاعر)، كما أن شعورنا بالجنون مرتبط بهذه الحالة، إننا نشعر بالجنون لأننا نكذب على أنفسنا، كما أننا نصدق أكاذيب الغير، لا شيء يمكن أن يجعلنا نشعر بالجنون بطريقة أسرع من أن يتم الكذب علينا. إن تصديق الأكاذيب يدمر كياننا، إن بصيرتنا تعرف الحقيقة ولكننا ندفع بها بعيدا ونقول لها "إنك مخطئة"، وكما قال المستشار سكوت إيجلستون "إننا نقرر أن هناك شيئا أساسيا خاطئا بنا لأننا نشك في الغير، وعندما نتحدث بخصوص أنفسنا ومشاعرنا الداخلية نقول إنه لا يجب الثقة بها بعد الآن"، إن الإنكار ليس كذبا ولكنه وببساطة عدم السماح لنفسك بمعرفة الحقيقة، إن الإنكار هو ما يمتص الصدمة، وهو رد فعل طبيعي للألم، والخسارة والتغيير، وهو يحمينا من ضربات الحياة الموجعة حتى نجمع مصادرنا الأخرى للتعايش معها.
(2) الغضب
عندما نترك إنكارنا لخسارتنا فإننا ننتقل إلى المرحلة التالية ألا وهي: "الغضب"، قد يكون غضباً منطقيا، أو غير منطقي، وقد نكون على حق في إخراج غضبنا، أو قد نعبر عن غضبنا بشكل غير عقلاني؛ بأن نصبه على أي شيء أو أي شخص. قد نلوم أنفسنا وكل من حولنا على ما فقدناه!، وعندما نتفحص وننظر لحجم وكم وطبيعة الخسارة فقد نصبح منزعجين، أو إلى حد ما غاضبين أو ثائرين أو يتملكنا الغضب بشدة؛ وهذا هو السبب في أن تعديل مسار شخص ما، وتوضيح الحقيقة لشخص ما، أو مواجهة مشاكل خطيرة قد لا تسفر عما نتوقعه، فإذا ما أنكرنا موقفا ما فلن نتجه مباشرة إلى قبول الحقيقة، ولكن سوف نتجه نحو الغضب، ولهذا فنحن بحاجة لأن نكون حذرين عند المواجهات الكبرى والحاسمة.
إن العمل على تعديل مسار الناس وتمزيق أقنعتهم، وإجبارهم على مواجهة الحقيقة المحبطة يعد عملا خطيرا ومدمرا، إن الإنسان يتمكن من العيش عند إدراكه لواقعه. وبطريقة أو بأخرى فإنه يبقى خادعا لنفسه، فإذا لم يتم إخباره الحقيقة، فمن سوف يتحمل هذا العبء ويخبره بها مرة أخرى؟!، إذا ما كنا نخطط لعمل مقاطعة لما يحدث من حولنا، فنحن بحاجة إلى مساعدة متخصصة.
(3) المساومات وعقد الصفقات
بعدما نهدأ من غضبنا على ما فقدناه أو ما نتوقع أن نفقده قريباً؛ فعندها نحاول عقد صفقة أو مساومة مع الحياة أو مع أنفسنا أو مع شخص آخر!، وفي إطار هذه المساومات، إذا قام أحد الأطراف بأداء ما هو مطلوب منه وأدى الطرف الآخر في المقابل واجباته والتزامه، فلن تواجه أيا من الطرفين أية خسائر.
إننا لا نحاول بذلك تأجيل ما سيحدث حتما، بل إننا نحاول منعه، ففي بعض الأحيان تكون المفاوضات معقولة ومنتجة، كمثال: إذا تصالحت مع زوجي فلن نكون في حاجة إلى إنهاء علاقتنا، أو لقد اعتدت على التفكير في أنني لو عافاني الله من هذا المرض الخطير لسوف أتصدق بعمل مستشفى ضخم لعلاج ذلك المرض الخبيث!.
(4) الإحباط
عندما نرى الصفقة لا تفيد، وعندما نشعر بالإرهاق من محاولاتنا لتجنب الحقيقة، وعندما نقرر أن نعترف بما ألقته الحياة في طريقنا -بأمر ربنا عز وجل- فإننا نشعر بالحزن، وأحيانا بالإحباط الشديد، وهذا هو أساس الحزن، وهذا ما كنا نحاول تجنبه بكل السبل!، هذا هو وقت البكاء، وهو شيء مؤلم. هذه المرحلة من العملية تبدأ عندما نستسلم، وتختفي عندما تنتهي هذه العملية ونجتازها.
(5) القبول والاستسلام
هذا هو ما نريده، بعدما أغلقنا أعيننا وغضبنا وركلنا وصرخنا وتفاوضنا وشعرنا بالألم، وفي النهاية، نصل إلى حالة القبول للأمر الواقع من فقدنا لعزيز أو حتمية فقدان شيء عزيز علينا في أقرب وقت. إنها ليست عملية استسلام عاجزة أو شعور بمبدأ: "وما الفائدة؟!"، أو إنني لا أستطيع المقاومة أكثر من ذلك!. وهي ما تشير إلى بداية نهاية المقاومة، ولكنها لا تعني الرضا بالأمر الواقع، ولا يجب أن نقول إن القبول هو مرحلة سعيدة، بل إنه مرحلة متبلدة وخالية من المشاعر، إنها تشبه وكأن الصراع قد انتهى، وتقبلنا الأمر الواقع، وقد استسلمنا مهزومين تماما، ورافعين للرايات البيضاء.
إننا لا نشعر بالراحة فقط مع ظروفنا الحالية والتغييرات التي تحملناها ولكننا نعتقد بطريقة ما أننا قد استفدنا من خسائرنا والتغييرات التي طرأت علينا، حتى إذا لم نتمكن من فهم كيفية حدوث ذلك وسببه، فالآن وبعد أن تجاوزنا المراحل الأربع السابقة لدينا ثقة في أن كل شيء على ما يرام وأننا أصبحنا أكثر نضوجا.
هكذا يتقبل الناس الأشياء، وإلى جانب تسميتها بعملية "الحداد أو الأسى أو الحرمان"، فقد يمكننا أن نطلق عليها عملية التسامح أو عملية الشفاء، إنها ليست عملية مريحة؛ وبشكل خاص، وفي الواقع فإنها عملية محيرة وغالبا ما تكون مؤلمة. إننا نشعر وكأننا ننقسم إلى جزأين!، وعندما تبدأ العملية فإننا نشعر بالصدمة والذعر، وبينما نمضي خلال المراحل الخمس فإننا غالبا ما نشعر بقلة الحيلة والضعف والوحدة والعزلة؛ لذا يجب أن نترفق بأنفسنا، فهي عملية مرهقة، فقد تعمل على استنفاد جميع طاقاتنا وتفقدنا التوازن.
على الشخص الذي يعاني من الحداد أو الأسى أن يقوم بمراقبة كيفية مرور تلك المراحل الخمس، وشعور الشخص الذي يعاني بما هو في حاجة إليه، على هذا الشخص التحدث إلى الأشخاص المؤمنين العقلاء الذين يمنحونه الراحة والدعم والفهم الذي يحتاجه. تحدث عن الأمر بصراحة كأن تقول: إن الشيء الذي أعانني على خسارتي –في ظروفي الحالية– كثيرا هو شكر الله، بغض النظر عما أشعر به أو أفكر فيه بشأنها. والشيء الثاني الذي يساعد الكثير من الناس هو الدعاء إلى الله بمنحنا السكينة. إننا لسنا بحاجة إلى أن نتصرف بشكل غير لائق مع أنفسنا في مثل تلك المواقف الصعبة، ولكن على من يتعرض لموقف من مواقف الفقد والحداد والأسى على عزيز فقده أن يخوض عملية الحزن بصبر وشجاعة؛ لأن قضاء الله وقدره نافذ نافذ رضينا أم لم نرض به؛ فلسلامة صدورنا وللحفاظ على إيماننا علينا أن نرضى ونسلِّم لما يحكم به الله علينا سواء كان ذلك في فقد عزيز علينا أو الابتلاء بفاجعة من فواجع الدهر.
الصبر مفتاح الفرج؛ ولا تنس أنه لا يأس مع الحياة
كان الزوج يرقد في المستشفى في غيبوبة تامة، ولم يكن هناك أمل في الشفاء، إلا أن زوجته وابنه كانا يحضران مرتين يوميا في الصباح وفي المساء لزيارته وتقوم الزوجة بتغيير ملابسه، ويتفقدان أحواله ويسألان الأطباء عن حالته بالرغم من أنهم أبلغوهما باليأس من حالته إلا أنها كانت تردد جملة "الله المستعان".
وذات يوم وقبل موعد الزيارة تحرك الرجل في سريره وتقلب من جنب إلى جنب ثم فتح عينيه وأبعد جهاز الأوكسجين واعتدل في جلسته، ثم نادى على الممرضة وسط ذهول الحضور وطلب منها إبعاد الأجهزة الطبية المساعدة من حوله!، فاستدعت الممرضة الأطباء الذين كانوا في ذهول تام!!!، وتم عمل فحوصات سريعة له فوجدوا الرجل في منتهى الصحة والعافية!، فقاموا بنزع كل الأجهزة من عليه. وكان موعد الزيارة قد بدأ ودخلت المرأة والصبي، وما أن رأياه حتى اختلطت الدموع بالابتسامات، والبكاء بالدعاء، والحمد بالثناء لله تعالى.
داووا مرضاكم بالصدقة
وسأل الطبيب المرأة: هل توقعت أن تجديه يوما ما بهذه الحالة؟؛
فقالت: نعم، والله كنت أتوقع ذلك، وأجده جالسا في انتظارنا.
فقال لها: إن ما حدث لزوجها ليس للطب دور فيه!، فبالله أخبريني ماذا كنت تفعلين؟
فقالت: في الزيارات الأولى كنت أحضر للاطمئنان عليه والدعاء له ثم أذهب أنا وابني إلى الفقراء والمساكين في الأحياء الشعبية ونقدم لهم الصدقات بغية التقرب إلى الله لشفائه، فلم يخيب الله رجائي ودعائي، وخرجت الزوجة في آخر الزيارة هي وزوجها إلى البيت الذي طال انتظاره لعودة صاحبه إليه لتعود البسمة والفرحة له ولأفراد أسرته بفضل الله سبحانه وتعالى.
الصدقة تقي من مصارع السوء
ذكر بعض طلبة ابن وضاح الأندلسي أنهم كانوا في السماع عنده في غرفة له فدخل عليه رجل فقال له بلهفة: "انهض يا رجل، فقد مرت عربة بعجلات أمام بيتك، فأصابت الصبي ابنك، ومشت عليه، فلم يكترث لذلك!، وأقبل على ما كان فيه من إمساك كتابه، وأمر القارئ أن يستمر في قراءته، فلم يلبث أن دخل آخر فقال: أبشر يا عبد الله فقد سلم الصبي، إنما أصابت عجلة العربة ثوبه وسقط وجاوزته فلم تضره، فقال: الحمد لله قد أيقنت ذلك لأني قد رأيت الصبي قد ناول اليوم مسكينا كسرة خبز، فعلمت أنه لا يصيبه بلاء في هذا النهار للحديث "إن الله يدفع عن العبد الميتة السوء بالصدقة يتصدق بها".
ولقد ذكرتني هذه القصة من تراثنا الجميل بخبر قرأته في إحدى الصحف العربية الرسمية منذ سنوات قليلة وملخص هذا الخبر أن رئيس الحكومة التركية (رجب طيب أردوغان) وقع من على حصان له، ولم يصب بسوء، فقال الحمد لله لم أصب بسوء لأنني أديت ما علي من زكاة وصدقات، ومن المعروف عن رئيس الوزراء هذا ميوله الدينية؛ فهو من حزب الرفاة الإسلامي في تركيا وكانت الصحيفة قد ذكرت ما قاله رئيس الوزراء بعد سقوطه عن الحصان لا أدري أمن باب الدعابة أو من باب السخرية من كلام هذا الرجل؟!!، ولم أكن قد سمعت بهذا الحديث عن دفع الصدقة لميتة السوء.
ويتبع >>>>>>>>>>> احذر من استجداء مدح كل الناس