استحسان الغير يناله من لا يبحث عنه
الفصل الثاني عشر
والإخلاص بهذا المعنى: ثمرة من ثمرات "التوحيد" الكامل لله تبارك وتعالى، الذي هو إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، والذي يعبر عنه قوله سبحانه في فاتحة الكتاب وأم القرآن: (إياك نعبد وإياك نستعين). والذي يناجي به المسلم ربه في صلواته كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة.
وبهذا الإخلاص المتجرد: يتخلص من كل رق، ويتحرر من كل عبودية لغير الله: عبودية الدولار والدرهم، والمرأة والكأس، والزينة والمظهر، والجاه والمنصب، وسلطان الغريزة والعادة، وكل ألوان العبودية للدنيا التي استسلم لها الناس، ويكون كما أمر الله رسوله: (قُل إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي للهِ ربِ العالمين، لا شريكَ لهُ، وبِذَلك أُمِرتُ وأنا أوّلُ المُسلِمِين) الأنعام 162.
الإخلاص مطلوب لصلاح الحياة
وليس تشديد الإسلام في طلب الإخلاص، وتأكيده على تجريد النية لله، وتصحيح الاتجاه إليه وحده: ضربا من التزمت أو العبث، فإن الحياة نفسها لا تستقيم ولا ترتقي إلا بالمخلصين، وأكثر ما يصيب الأمم والجماعات من النكبات والكوارث القاصمة إنما يجره عليها أناس لا يرجون الله والدار الآخرة، أناس من عبيد الدنيا، وعشاق الثروة، الذين لا يبالون ـفي سبيل دنياهم وشهوات أنفسهمـ أن يدمروا دنيا الآخرين ودينهم معا، وأن يحولوا الأبنية إلى خرائب، والمنازل إلى مقابر، والحياة إلى موات، ومن الأمثلة في ذلك: "حب الظهور يقصم الظهور".
أو أناس من طلاب الزعامة والسلطة، وعبيد الشهرة والجاه، وعشاق المجد الشخصي، والبطولة بغير الحق، إنهم في سبيل الحصول على المجد والسلطان، أو في سبيل الحفاظ على ما أدركوا منه، لا يبالون أن يخربوا ديارا، ويدمروا أمة بل أمما بأسرها، لا لشيء إلا لتصفق لهم الأيدي، وتهتف لهم الحناجر، وتنطلق بإطرائهم الأقلام، وتسبح بحمدهم الجماهير المسكينة المخدوعة، ويدوم لهم الاستمتاع بكراسي الحكم الوثيرة! وشعار كل منهم: أنا و ليخرب العالم كله من بعدي!!، وكما قيل: "حب المجد كالزجاج لامع ولكنه سهل الكسر".
إن الإسلام لا يرضى للمسلم أن يعيش بوجهين: وجه لله، ووجه لشركائه، ولا أن تنقسم حياته إلى شطرين: شطر لله وشطر للطاغوت، الإسلام يرفض الثنائية المقيتة، والازدواجية البغيضة، التي نشهدها في حياة المسلمين اليوم، فنجد الرجل مسلما في المسجد أو في شهر رمضان، ثم هو في حياته، أو في معاملاته، أو في مواقفه إنسان آخر؛ يرتكب كل الموبقات في حق البشر!!، إن الإخلاص هو الذي يوحد حياة المسلم، ويجعلها كلها لله، كما يجعله كله لله، فصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.
ضرورة الإخلاص للسالكين
وقد أجمع الربانيون ـمن رجال التربية الروحية، وأهل الطريق إلى اللهـ على أهمية الإخلاص وضرورته لكل عمل من أعمال الآخرة، وكل سالك للطريق.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في مقدمة كتاب "النية والإخلاص والصدق" من ربع المنجيات من "الإحياء":
"قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان، وأنوار القرآن: أن لا وصول إلى السعادة، إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"(سورة الفرقان 23)، ويقول العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري:"الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى، إلا من عمل بعلمه"، وفي لفظ آخر قال: "الدنيا جهل وموت، إلا العلم، والعلم كله حجة (أي على صاحبه)، إلا العمل به، والعمل كله هباء، إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به"، وقال بعضهم:"العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص"، وقال ابن عطاء الله:"إن الله لا يحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك، فالعمل المشترك هو لا يقبله، والقلب المشترك هو لا يقبل عليه"، وفي سن ابن ماجه، يقول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والتمادح، فإنه الذبح".
إن العلم الذي لا يصحبه الإخلاص صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله تعالى إنما يريد من الأعمال حقائقها لا رسومها وصورها، ولهذا يرد كل عمل مغشوش على صاحبه، كما يرد الصيرفي الناقد العملة المزيفة. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصبعه إلى قلبه. وقال: "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات.
وقال تعالى في شأن قرابين الهدى والأضاحي التي يقدمها الحجاج والمعتمرون: (لْن ينَالَ اللهُ لحومُها ولا دِماؤها ولكِن ينالُهُ التَّقوى مِنكُم) الحج 37.
من دلائل الإخلاص
للإخلاص دلائل وعلامات كثيرة تظهر في حياة المخلص وسلوكه، ونظرته إلى نفسه وإلى الناس منها:
1. اتهام النفس
إن المخلص يتهم نفسه دائما بالتفريط في جنب الله، والتقصير في أداء الواجبات، ولا يسيطر على قلبه الغرور بالعمل والإعجاب بالنفس، بل هو دائما يخشى من سيئاته ألا تغفر، ويخاف على حسناته ألا تقبل، وقد بكى بعض الصالحين في مرضه بكاء شديدا، فقال بعض عواده: كيف تبكي؟ وأنت قد صمت وقمت، وجاهدت وتصدقت، وحججت واعتمرت، وعلمت وذكرت؟ فقال: وما يدريني أن شيئا منها في ميزاني؟ وأنها مقبولة عند ربي؟ والله تعالى يقول: (إنّمَا يتقبّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِين) المائدة 27.
ومنبع التقوى إنما هو القلب، ولذا أضافها القرآن إليه فقال: (ذَلِكَ ومَن يُعظِّم شَعائِرَ اللهِ فإنّها مِن تَقوى القُلُوب) الحج 32، وقال صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا" وكررها ثلاثا، وأشار إلى صدره. وقد سألت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يصدق عليه قوله تعالى: (والذين يُؤتُون ما آَتَوا وقُلوبهم وجِلة أنَّهُم إلى ربِهِم راجِعُون) المؤمنون60، أهم الذين يسرقون ويزنون ويشربون الخمر وهم يخافون الله عز وجل؟ فقال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يتقبل منهم: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) (رواه أحمد وغيره).
والمخلص يخاف أبدا من تسلل الرياء إلى نفسه وهو لا يشعر، ولهذا سمى "الشهوة الخفية" التي تندس إلى نفس العابد دون أن ينتبه لها، وفي هذا يقول ابن عطاء الله محذرا ومنبها: "حظ النفس في المعصية ظاهر جلي، وحظها في الطاعة باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه، ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلق إليك، واستشرافك إلى أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك"، وهناك مثلا يابانياً حكيما يقول:"الثناء هو بداية اللوم!".
2. الخوف من الشهرة
أن يخاف من الشهرة وانتشار الصيت على نفسه ودينه، وخصوصا إذا كان من أصحاب المواهب، وأن يوقن بأن القبول عند الله بالسرائر لا بالمظاهر، وأن إنسانا لو طبقت شهرته الآفاق، وهو غير مخلص النية، لم يغن عنه الناس من الله شيئا. يقول الشيرازي: "هل ترتبط بامرأة تُبِّدل كل يوم عشيقا؟!!، تلك هي الشهرة"!!!.
ولهذا كان الزهد في الجاه والظهور والشهرة والأضواء أعظم من الزهد في المال، وفي شهوة البطن والفرج، يقول الإمام ابن شهاب الزهري: ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة حامى إليها وعادى.
وهذا ما جعل كثيرا من علماء السلف وصالحيهم يخافون على قلوبهم من فتنة الشهرة، وسحر الجاه والصيت، ويحذرون من ذلك تلاميذهم، وقد روى المصنفون في السلوك في ذلك أشياء كثيرة، مثل أبي القاسم القشيري في "الرسالة"، وأبي طالب المكي في "قوت القلوب"، والغزالي في "الإحياء". من ذلك ما قاله الزاهد الشهير إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب الشهرة.
وقال: ما قرت عيني يوما في الدنيا قط، إلا مرة واحدة: بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام، وكان بي البطن، فجاء المؤذن، وجرني برجلي حتى أخرجني من المسجد، وإنما قرت عينه، لأن الرجل لم يعرفه، ولذا عامله بعنف وجره من رجله كأنه مجرم، وهو الذي ترك الإمارة والثروة لله تعالى، وإنما لم يخرج هو بنفسه من المسجد لأنه كان عليلا أقعده المرض.
وقال الزاهد المعروف بشر الحافي: ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح.
وقال أيضا: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس. وصحب رجل ابن محيريز في سفر، فلما فارقه قال: أوصني.
فقال: "إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشى إليك، وتسأل ولا تسأل، فافعل".
وقال أيوب السختياني: "ما صدق الله عبد، إلا سره ألا يشعر بمكانه". وكان خالد بن معدان الثقة العابد إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
وقال سليم بن حنظلة: بينما نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه، إذا رآه عمر، فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر: "إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع!!"، وهي لفتة عمرية نفسية إلى ما قد تحدثه هذه المظاهر البسيطة في بدايتها من عواقب وآثار بعيدة الغور في نفسية الجماهير التابعة، والقادة المتبوعين، ويذكرني تصرف سيدنا عمر هذا بحكمة صينية تقول: "النقد في الوجه، والمدح في الظهر".
وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس، فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان!
وخرج أيوب السختياني في سفر، فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره، لخشيت المقت من الله عز وجل.
وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب،تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض.
وقال الفضيل بن عياض: إن قدرت على ألا تعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك أن يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى؟
لا يفهم من هذه الآثار الدعوة إلى الانطوائية والعزلة، فإن الذين رويت عنهم إنما هم أئمة ودعاة مصلحون، كان لهم آثار طيبة في دعوة المجتمع وتوجيهه وإصلاحه.
لكن الذي يفهم من مجموعها هو اليقظة لشهوات النفس الخفية، والحذر من المداخل والمنافذ التي يتسلل منها الشيطان إلى قلب الإنسان، إذا سلطت عليه الأضواء، وأحاط به الأتباع والأشياع، وأشير إليه بالبنان.
والشهرة في ذاتها ليست مذمومة، فليس هناك أشهر من الأنبياء والخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين، ولكن المذموم هو طلب الشهرة والزعامة والجاه، والحرص عليها، فأما وجودها من غير هذا التكلف والحرص فلا شيء فيه، وإن كان فيه ـ كما قال الغزالي ـ فتنة على الضعفاء دون الأقوياء.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" خرجه مسلم، وخرجه ابن ماجه، وعنده: "الرجل يعمل العمل لله فيحبه الناس عليه"، وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير الطبري وغيرهم.
وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل، فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال: "له أجران: أجر السر، وأجر العلانية".
3. العمل في صمت بعيدا عن الأضواء
أن يكون العمل الصامت أحب إليه من العمل الذي يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة، إنه يفضل أن يكون أبداً "الجندي المجهول" الذي يبذل ولا يعرف، ويضحي ولا يذكر، ويؤثر أن يكون من الجماعة كالجذر من الشجرة: به قوامها وحياتها، ولكنه مستور في باطن الأرض لا تراه العيون، أو كالأساس من البناء، لولا ما ارتفع جدار، ولا أظل سقف، ولا قام بيت، ولكن أحدا لا يراه كما يرى الجدران والشرفات، قال شوقي:
أخفى الأساس عن العيون تواضعا
من بعد ما رفع البناء مشيدا!
وقد مر بنا حديث معاذ: "إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة".
4 . ألا يطلب المدح ولا يغتر به:
ومن دلائل الإخلاص: ألا يطلب مدح المادحين، ولا يحرص عليه، وإذا مدحه مادح لم يغره ذلك عن حقيقة نفسه التي بين جنبيه، فهو أدرى بخباياها واعوجاجها، ممن يخدعهم بريق الظواهر عن بواطن الضمائر، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، قام رجل فأثنى على أمير من الأمراء، فجعل المقداد بن عمرو يحثو في وجهه التراب وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب. رواه الترمذي، وقال عنه أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقد قال ابن عطاء الله في "حكمه": "الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاماً لنفسك لما تعلمه منها. إن أجهل الناس من ترك يقين ما عنده ظنا فيما عند الناس!".
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا مدح يقول: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن تبعوه وأحاطوا به: لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجل!، وهو من أعلام الصحابة، وأئمة الهدى، ومصابيح الإسلام، وأثنى جماعة على أحد الربانيين، فقال معتذرا إلى ربه: اللهم إن هؤلاء لا يعرفونني، وأنت وحدك تعرفني!، وقال أحد الصالحين يناجي ربه، وقد أثنى عليه بعض الناس، وأضفوا عليه ما أضفوا من خصال الخير، ومكارم الأخلاق:
يظنون بي خيرا، وما بي من خير
ولكنني عبد ظلوم كما تدري
سترت عيوبي كلها عن عيونهم
وألبستني ثوبا جميلا من الستر
فأمسوا يحبونني، وما أنا بالذي
يحب، ولكن شبهوني بالغير
فلا تفضحني في القيامة بينهم
وكن لي يا مولاي في موقف الحشر
لقد أشار هذا الشاعر الصالح إلى معنى لطيف مهم، وهو جميل ستر الله تعالى على عباده، فكم من عيوب خفية سترها الله تعالى بستره عن أعين الخلق، لو كشفها الله ـجل جلالهـ عن عبده المستور، لنزلت رتبته، وربما سقطت منزلته، ولكن فضل الله يأبى إلا أن يستر ضعف عباده، منة منه وكرما، وفي هذا يقول ابن عطاء الله: "من أكرمك فإنما أكرم فيك جميل ستره، فالفضل لمن أكرمك وسترك، ليس لمن مدحك وشكرك".
ويقول أبو العتاهية:
أحسن الله بنا أن
الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا
بين جنبيه فضوح!
ولكن هناك من البشر –وهم كُثر- من همهم في المظاهر وأمور الأبهة والنعيم أياً كانت، فهم يمتدحون أولي النعم من مال أو سلطان أو عزوة من الأولاد ويغبطونهم على تقلبهم في النعم، ولو كان أصحاب النعم هؤلاء من المغضوب عليهم أو الضالين!، وهذا من السفه وقلة العقل والتعلق بزينة الدنيا الفانية، وفي هذا يقول الشاعر:
ولو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس يالك من حمار!!!
5 . ألا يبخل بمدح من يستحق المدح:
ومن دلائل الإخلاص: ألا يبخل بمدح من يستحق المدح، والإشادة بكل من هو أهل للإشادة به، فهناك آفتان خطيرتان:
الأولى: توجيه المدح والثناء لمن لا يستحقه.
والثانية: الضن بالمدح عمن يستحقه.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، منوها بفضائلهم ومناقبهم، كقوله عن أبي بكر: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي".
وقوله لعمر: "لو سلكت فجا لسلك الشيطان فجا آخر".
وقوله عن عثمان: "إنه رجل تستحي منه الملائكة".
وقال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى".
وقال عن أبى عبيدة: "أمين هذه الأمة".
وكثيرون نوه بهم صلى الله عليه وسلم، وأبرز ما لهم من مواهب وملكات، وبعضهم كانوا شبابا، مثل أسامة بن زيد الذي ولاه قيادة جيش فيه بعض كبار الصحابة، وعتاب بن أسيد، الذي استخلفه على مكة وهو ابن العشرين، ومعاذ بن جبل الذي أرسله إلى اليمن وهو شاب، وبعضهم قدمه على السابقين في الإسلام، لمزية عنده، كما فعل مع خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وربما كان حجز المدح عن أهله، لهوى خفى في نفسه، أو حسد متمكن، فهو يخاف مزاحمته في مركزه، أو منافسته في منزلته، وهو لا يملك أن يطلق لسانه بذمه، فعلى الأقل يسكت عن مدحه. وقد رأينا عمر الفاروق، يطلب رأي ابن عباس في بعض الأمور، وهو شاب صغير السن، ويقول له أمام كبار الصحابة: تكلم يا ابن عباس ولا يمنعك حداثة سنك.
6 . الاحتفال برضا الله لا الناس:
ألا يبالي برضا الناس إذا كان من ورائه سخط الله عز وجل، فإن الناس يختلفون أشد الاختلاف في أذواقهم ومواقفهم، وتفكيرهم وميولهم، وأهدافهم وطرائقهم، ومحاولة إرضائهم غاية لا تدرك، ومطلب لا ينال.
وفي هذا قال الشاعر:
ومن في الناس يرضى كل نفس
وبين هوى النفوس مدى بعيد؟
وقال الآخر:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلازال غضبانا على لئامها!
ولو أرضى اللئام لأغضب
ـ بلا ريب ـ الكرام.
والمخلص قد أراح نفسه من عناء هذا كله، وكان شعاره مع الله:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب!
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب!
إذا صح منك الود، فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب!
7 . جعل الرضا والسخط لله لا للنفس:
أن يكون حبه وبغضه، وعطاؤه ومنعه، ورضاه وغضبه، لله ولدينه، لا لنفسه ومنافعه… فلا يكون كأولئك النفعيين من المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه، وقال فيهم: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) التوبة 58.
قد ترى بعض العاملين في ميدان الدعوة إذا مسه أحد إخوانه بكلمة تؤذيه أو جرح شعوره بتصرف يسوءه في نفسه، أو في أحد من خاصته وذويه، سرعان ما يغضب ويتبرم، ويدع العمل والحركة، ويعتزل ميدان الجهاد والدعوة. والإخلاص للغاية يقتضيه أن يصر على دعوته، ويثبت على اتجاهه، مهما أخطأ في حقه المخطئون، وقصر المقصرون، أو أسرف المسرفون، لأنه يعمل لله لا لنفسه ولا لذويه، ولا لفلان أو لخلان من الناس. ودعوة الله ليست حكرا على أحد وملكا له، إنها دعوة الجميع، فلا يجوز أن يتخلى عنها مؤمن بها من أجل موقف هذا أو تصرف ذاك.
8. استواء العمل في القيادة والجندية:
ومن دلائل الإخلاص: أن المخلص لله يستوي عنده أن يعمل قائدا، وأن يعمل جنديا في آخر الصفوف، مادام في كلا الموقعين إرضاء لله تعالى، فلا يستولي على قلبه حب الظهور، وتصدر الصفوف، والرغبة في الرياسة والزعامة، واعتلاء المراكز القيادية، وكما قيل: "أكبر كارثة تحدثها المناصب أنها تغير أخلاق شاغريها"، بل ربما آثر الجندية خشية التفريط في واجبات القيادة وتبعاتها، وهو على كل حال لا يحرص عليها ولا يطلبها لنفسه، ولكن إذا حملها حملها، واستعان بالله على القيام بحقها، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس، فقال: "طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة"، ورضي الله عن خالد بن الوليد الذي عزل عن إمارة الجيش، وهو القائد المظفر، فعمل تحت قيادة أبى عبيدة دون تململ ولا تذمر، وكان نعم المشير والمعين.
كما حذر الرسول الكريم من سؤال الإمارة وطلبها؛ فقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها بغير سؤال أعنت عليها، وإن سألتها وكلت إليها".
9. الصبر على طول الطريق:
أن لا يحمله طول الطريق، واستبطاء الثمرة، وتأخر النجاح، ومتاعب العمل مع الناس المختلفين في أذواقهم وميولهم، على الكسل والتراخي أو اليأس، أو التوقف في منتصف الطريق، إنه لا يعمل للنجاح فحسب، أو للنصر فقط، بل لرضا الله وامتثال أمره قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وقد عاش نوح شيخ المرسلين في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعو ويبلغ ولم يؤمن معه إلا قليل، برغم تفننه في أساليب الدعوة، وتنويع أوقاتها، وتغيير صيغها، كما قال الله تعالى على لسانه: (ربِ إنِّي دَعوتُ قَومِي ليلاً ونَهَاراً، فلم يَزِدْهُم دُعَاءي إلا فِرارا، وإنِّي كُلّما دَعوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلوا أصَابِعَهُم في آذانِهِم واستَغشَوا ثيابَهُم وأصرّوا واستَكبَرُوا استِكْبَارا) نوح 6 و7، ومع هذا ظل نوح عليه السلام تسعمائة وخمسين عاما يدعو قومه، تعاقب عليه نحو أربعين جيلا، وهم عنه معرضون، وهو عليهم حريص، وحكى القرآن الكريم لنا نموذجا مؤمنا في سورة البروج، قدموا أرواحهم في سبيل الله، وصبروا على اصطلاء النار ذات الوقود، والكفرة الطغاة عليهم شهود، ولم يبالوا بما أصابهم في سبيل الله، ولم يقولوا: ماذا يفيد استشهادنا لدعوتنا؟ لأن عليهم الثبات والبذل، وعلى الله إنجاح الدعوة، ومن يدري لعل دماءهم تكون هي الغذاء لشجرة الإيمان من بعدهم!
إن عمل المخلص أساسا لله عز وجل، فهو ثابت عليه، مستمر فيه، أما الثمرة والنتيجة في الدنيا، فهو يدعها لله تعالى: يهيئ أسبابها، ويحدد أجلها، وما عليه إلا أن يتحرى ويجتهد وسعه، فإن تحققت فالحمد لله، وإن تعثرت أو تعذرت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الله لا يسأل الناس في الآخرة: لماذا لم ينتصروا، ولكن يسألهم: لماذا لم تجاهدوا؟ ولا يسألهم: لماذا لم تنجحوا، بل يسألهم: لماذا لم تعملوا؟!
10. تشجيع كل كفاءة يُبرِز الموهوبين:
الفرح بكل ذي كفاية يبرز في صف العاملين ليحمل الراية أو يسهم في العمل، وإتاحة الفرصة لكل ذي موهبة أن يأخذ مكانه، دون تعويق له أو ضيق به، أو حسد له، أو ضجر منه، بل نرى المخلص إذا وجد من هو خير منه في تحمل تبعته، تنحى له راضيا، وقدمه على نفسه طائعا، وسعد بأن يأخذ خطوة إلى الخلف.
إن بعض العاملين ـوخصوصا في الصفوف الأولىـ يتشبث بموقعه القيادي، ويستقتل دونه، ولا يتنازل عنه بحال، ويقول: منصب ولانيه الله فلا أدعه، أو قميص ألبسنيه فلا أنزعه!، وكأنه معين من قبل السماء!، هذا مع أن الزمن قد تغير، والقوة قد ضعفت، ولكل زمان رجاله، كما لكل مقام مقاله، وكثيرا ما يعاب الحكام على تشبثهم بكراسيهم واستماتتهم في الحفاظ عليها، بدعوى أنهم الأقدر على تسيير السفينة، وحمايتها من الرياح الهوج، فلا يجوز أن يقع دعاة الإسلام فيما ينتقدون به غيرهم، وينكرونه عليهم، كما لا ينبغي هنا التذرع بمصلحة الدعوة ـكما تذرع الآخرون بمصلحة الوطن والأمةـ فربما كان ذلك من أحابيل الشيطان، وسراديبه الملتوية للدخول إلى قلوب العاملين للإسلام، فإذا هم يسقطون فرائس لحب الذات، وحب الجاه، وحب الدنيا، وهم يحسبون أنهم يخدمون الدين.
وكم من جماعات وحركات أصابها من الطغيان الخارجي، أو من التمزق الداخلي، أو من الفتور والذبول في الفكر وفي العمل، وفقدان المبادرة والتجديد، نتيجة لمطامح فرد أو أفراد فيها، أبوا أن يخلوا مكانهم لغيرهم، ناسين أن الأرض تدور، وأن الفلك يسير، وأن العالم يتغير، ولكنهم ـوحدهمـ لا يدورون مع الأرض، ولا يسيرون مع الفلك، ولا يتغيرون مع الزمان والمكان والإنسان!
ومن هؤلاء من يحمل نفسه من الأعباء والمسؤوليات فوق ما يحتمله كاهله، وهو في الواقع يسد الطريق على غيره من المواهب الشابة، والكفاءات الفتية، التي تستطيع أن تشارك في حمل الأمانة، وأن يكون لها نصيبها من بناء المسئولية، وإذا كانت الخبرة تنقصهم، فهم يكسبونها بالممارسة، وينضجونها بالمعاناة، وإنما العلم بالتعلم.
11. السلامة من آفة العُجب:
ومن تمام الإخلاص: ألا يفسد العمل بعد تمامه بالإعجاب به، والاطمئنان إليه، والزهو به، وهذا يعميه عما فيه من خلل قد شابه، أو دخل أصابه، والشأن في المؤمن أن يكون بعد أداء العمل خائفا أن يكون قد قصر فيه أو أخل به من حيث يشعر أو لا يشعر، ولهذا يخشى ألا يقبل منه، والله تعالى يقول: (إنما يتَقبّلُ اللهُ مِن المُتَّقِين) المائدة 27. ومن الكلمات النيرة المنسوبة إلى الإمام علي كرم الله وجهه قوله: سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك!
أخذ هذا المعنى ابن عطاء الله السكندري في "حكمه" فقال: ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية، فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وافتقارا، خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا! ومن هنا حذر القرآن الكريم من إتباع الصدقة بالمن أو الأذى، خشية أن يبطلها ويضيع أثرها.
يقول تعالى: (قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ مِن صَدَقةٍ يَتبعُها أذى، والله غنيٌ حليم، يا أيّها الذين آمنوا لا تُبطِلوا صدقَاتِكُم بالمنِّ والأذى كالذي يُنفِق مالَه رِئاءَ النَّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر، فمثلُه كمثل صفوانٍ عليه تُراب فأصابه وابلٌ فتركَهُ صَلداً) البقرة 263.
كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من العجب وجعله من "المهلكات"، فروى عنه ابن عمر: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات؛ فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه". وقد حكى لنا القرآن ما حدث للمسلمين في غزوة حنين، فقد نصرهم الله في بدر وهم أذلة، ونصرهم في الخندق بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، وزلزلوا زلزالا شديدا، ونصرهم في خيبر وفي فتح مكة، ولكنهم في حنين أعجبتهم كثرتهم، فلم تغن عنهم شيئا، حتى رجعوا إلى الله، وعرفوا أن النصر من عنده، يقول تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) التوبة 25.
والمؤمن البصير هو الذي يكل أمره كله إلى الله، فيوقن أن النصر ليس إلا من عنده: (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) آل عمران 126، وأن العز ليس إلا عند بابه: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) فاطر 10، وأن التوفيق إلى الصالحات ليس إلا من فضله: (وما توفيقي إلا بالله) هود 88 ، والهداية ليست إلا منه: (من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) الكهف 17.
إذا لم يعنك الله فيما تريده
فليس لمخلوق إليك سبيل!
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك
ضللت ولو أن السماك دليل!
12. الحذر من تزكية النفس:
والقرآن يحذر من تزكية النفس، بمعنى مدحها والثناء عليها، كما قال تعالى: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن أتقى) النجم 32.
ولا يجوز لمن يعمل الصالحات أن يذكرها بعد الفراغ منها، إلا تحديثا بنعمة ربه عليه: (وأما بنعمة ربك فحدث) الضحى 11، أو ليرغب غيره فيقتدي به: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، أو دفاعا عن نفسه أمام اتهام ألصق به وهو منه بريء، أو لغير ذلك من الأسباب الباعثة، وهذا مشروع لمن قوى باطنه في المعرفة بالله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، وأمن على نفسه من تسلل آفتي العجب والرياء، ولم يكن قصده اكتساب حمد الناس والمنزلة عندهم، وقل من يسلم من ذلك، والله المستعان؛ فليحذر المسلم من إعجابه بنفسه، وما يقدمه من حسنات وصالحات، واعتقاده أنه وحده المفلح، وغيره من الخاسرين، أو أنه وجماعته هم "الفرقة الناجية" وكل المسلمين من الهالكين، أو أنهم وحدهم "الطائفة المنصورة" وغيرهم من المخذولين!، إن هذه النظرة إلى النفس هي "العُجب المهلك"، وتلك النظرة إلى المسلمين هي "الاحتقار المردي"، وفي الحديث الصحيح: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم"!.
روى الحديث بضم الكاف وبفتحها، ومعنى الضم: أنه هو "أهلكهم"، بمعنى أسرعهم وأشدهم هلاكا، لغروره بنفسه، وإعجابه بعمله، واحتقاره لغيره، ومعنى الرواية بالفتح "أهلكهم": أنه الذي تسبب ـهو وأمثالهـ في هلاكهم، بالاستعلاء عليهم، وتيئيسهم من روح الله، قال الإمام النووي: وهذا النهي لمن قال ذلك، عجبا بنفسه، وتصاغرا للناس، وارتفاعا عليهم، فهذا هو الحرام، وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزنا عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به؛ فكذا فسره العلماء وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام: مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي، وآخرون.
وفي الحديث الصحيح الآخر: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" فمن حق المسلم على المسلم: ألا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، وكيف يحقر الإنسان أخاه، وهما فرعان من أصل واحد؟
13. الحرص على العمل الأنفع:
ومن دلائل الإخلاص: الحرص على الأعمال التي تُرضي الله عز وجل، لا الأعمال التي تُرضي النفس، فيؤثر المخلص العمل الأكثر نفعا، والأعمق أثرا، وإن لم يكن له فيه هوى، ولا له فيه لذة ونشوة. فقد يتلذذ بصيام النافلة، أو بصلاة الضحى، ولو شغل هذا الوقت بإصلاح ذات البين لكان أولى، وفي الحديث: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
وقد يجد متعة نفسية، ولذة روحية في الاعتمار في كل رمضان، والحج في كل موسم، ولو قيل له: ابذل ما تنفقه لإخوانك الذين يتعرضون للهلاك في فلسطين أو العراق أو الصومال، لم ينشرح لذلك صدره، وهو ما اعتبره الغزالي من "باب الغرور".
وقد ذهب أحد المحسنين من بعض البلاد الغنية إلى بلد إفريقي ليبني فيه مسجدا، فلقيه بعض العقلاء من أهل البلد، واقترحوا عليه أن يرمم عددا من المساجد القديمة الآيلة للسقوط، وهي في مناطق آهلة بالسكان، ولا يستغني الناس عنها، ويمكنه أن يرمم عشرة مساجد قديمة بما ينفقه على بناء مسجد واحد حديث، ولكنه أبى إلا أن يشيد مسجدا يحمل اسمه الكريم!.
ويتبع >>>>>>>>>>> من ثمرات الإخلاص