الثبات على سرقة المديح والثناء
الفصل الثاني عشر
للحظات حاول أن تجرب هذا الوهم: افترض أنك فعلا تريد استحسان كل الناس لك وأن هذا شيء ممكن، وأكثر من ذلك شيء سليم... الآن مع تذكر ما ذكر أعلاه يا ترى ما هي أفضل الطرق لتحقيق هذا الهدف؟ قبل أن تجيب على هذا السؤال، حاول وتذكر أحد الأشخاص الذين تعرفهم، على أن يكون هذا الشخص محبوبا ويستحسن تصرفاته أكثر الناس. أي نوع من الأشخاص يكون صاحبك؟ كيف يتصرف؟ في الواقع ستجد أنه شخص نزيه ومستقيم وغير اتكالي وليس بالمنافق وناجح في حياته، ولا يملك الوقت للسعي وراء استحسان الغير.
أكثر ما يحرص عليه هو أن يقول الحق ويحفظ شرفه، الصراحة بالنسبة له أهم من الدبلوماسية واللباقة، ومساعدة الآخرين أهم عنده مـــن إيذائهم.
والآن أليس عجيبا أن الذين يحصلون على استحسان الغير واحترامهم هم الذين لا يحاولون الحصول على ذلك. إذا أردت استحسان الآخرين لك فمن المدهش حقا أن تعرف أن أفضل طريقة للحصول عليها هي عدم البحث عنه. الصراحة مع نفسك وبناء صورة إيجابية عن ذلك هي أفضل الطرق المؤدية لراحتك النفسية. بالطبع لن تحصل على استحسان كل الناس على أي شيء تفعله، ولكن عندما ترى نفسك كشخص قدير وواثق فلن يؤثر عليك عدم موافقة شخص ما لما تقول.
سوف تنظر إلى عدم استحسان البعض لك كشيء لا مفر منه، طالما أنك موجود في هذا الكون المليء بأفراد على درجة كبيرة من الاختلاف حيث لا يوجد أي شخص يشبه أو يوافق تماما أي شخص آخر، وأخيرا فإن إرضاء الناس غاية لا تدرك. ومن أجمل ما قيل في هذا المعنى عن الحاكم العدل الذي يغضب ويحتج على تصرفاته أكثر من نصف رعيته رغم عدله وتقواه، يقول ابن الوردي:
ليس يخلو المرء من ضد، ولو حاول العزلة في رأس جبل
إن نــصف النـــاس أعداءٌ لمن وليَ الأحكام هذا إن عدل!
اقتراحات خاصة للتخلص من الحاجة إلى استحسان وموافقة كل من تتعامل معهم
لكي نستطيع التخلص من التصرفات التي تهدف من ورائها الحصول على استحسان كل الناس لا بد وأن تتعرف على المردودات المرضية التي تحصل عليها كنتيجة لذلك السلوك، بالإضافة إلى التفكير بطريقة إيجابية تجاه الذات عند مواجهتك لموقف خسرت فيه استحسان شخصا ما (وهذه الطريقة هي من أكثر الطرق فعالية). فيما يلي بعض الخطوات الخاصة والتي بإمكانك الاستعانة بها لتخلص من هذه التصرفات الضارة بالنسبة لك وللمجتمع:
عندما لا يوافقك شخص ما، حاول الرد عليه باستجابات جديدة تبدأ بـ "أنت" مثلا لاحظت أن شخصا ما غير موافق معك أو حتى غاضب على شيء قلته أو فعلته.
رد عليه بالاستجابة التالية: "أنت غاضب عليّ وتعتقد أن من المفروض ألا أفكر بهذه الطريقة"، هذه الاستجابة تجعلك تحس بأن عدم الموافقة منه شيء راجع له وليس لك. إن استعمال كلمة "أنت" ممكن في كل وقت وتعطي نتائج مذهلة إذا استطعت استعمالها.
عليك التغلب على إغراء استعمال "أنا" كبداية للجملة، لأنك بذلك تضع نفسك في موقف المدافع أو من ينوي تغيير ما قال ليكسب الموافقة.
إذا شعرت أن شخصا ما يحاول استغلالك بالتمنع عن موافقته لك كي يحصل على شيء يريده، حاول أن تشرح له أنك تدرك قصده بدلا من اللف والدوران من أجل كسب موافقته، تستطيع أن تقول بصوت عال "في العادة أنا أحاول أن أغير موقفي لكسب استحسانك، ولكن هذه المرة أتصور أن ما قلته كان صحيحاً سواء قبلته أم لا!!"
أشكر من يصارحك بأشياء تساعد على نمو شخصيتك حتى لو لم ترض عن ذلك النقد. الشكر سوف يقطع الطريق على التصرفات التي توحي بأنك تحتاج لموافقة الطرف الآخر مثلا: زوجك أخبرك أنك تصرفت بأعصاب متوترة جداً، وهو لا يحب ذلك!!، بدلا من أن تحاولي إرضاءه فقط بالاعتذار، ببساطة اشكريه على ذكر ذلك، ولنا في سيدنا عمر بن الخطاب الأسوة في ذلك: عندما قالها من على المنبر وأمام رعيته: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، وقوله رضي الله عنه: "رحم الله رجلا أهدى إلي عيوبي".
حاول البحث عن مواقف تعرف أنك ستتعرض فيها لعدم موافقة شخص ما وحاول أن تتحكم في أعصابك لتفادي الغضب، ويحضرني هنا قصة عن يحي البرمكي، وكيف تسامح مع من زور خطابا باسمه لأمير سمرقند عبد الله بن مالك الخزاعي، يَدّعي أن يحيى بن خالد البرمكي يوصي ذلك الأمير عليه، ولكن ذلك الأمير شك في ذلك الخطاب وأرسل للبرمكي يسأله عن هذا الرجل وصحة خطاب التوصية الذي يحمله من البرمكي، فقام البرمكي بكتابة خطاب ود لأمير سمرقند –وكان بين أمير سمرقند عبد الله بن مالك الخزاعي والبرمكي قطيعة- يذكر له أن هذا الرجل هو مبعوث من طرفه بالخطاب الذي معه!، ورغم أن هذا لم يكن الصدق ولا الحقيقة!!، إلا أن البرمكي أكبر وقدر من هذا الرجل المزور أنه أصلح القطيعة الطويلة التي بينه وبين ذلك الأمير، فتعالوا نقرأ معاً تفاصيل تلك القصة كما كتبها صاحب كتاب "التبر المسبوك في نصح الأمراء والملوك":
يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى أبعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما، فولى الرشيد ولاية أرمينية لعبد الله الخزاعي وسيره إليها.
ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له ذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله واختل عليه حاله، فزور كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئتني بكتاب مزور ولكن طب نفساً فإنا لا نخيب سعيك.
فقال الرجل: أطال الله بقاء الأمير، إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي بحجة تزوير الكتاب فأرض الله واسعة، والرزاق حي متين، والكتاب الذي وصلك من يحي بن خالد صحيح غير مزور!!.
فقال الأمير الخزاعي: عن حال هذا الكتاب الذي أتيت به –إن كان صحيحاً– فإن لك مني ألف درهم مع الفرس والحلل والتشريف!!!، وإن كان الكتاب الذي أتيتني به مزوراً أمرت أن تُجلد مائتي جلدة وأن تُحلَق رأسك!!.
ثم أمر عبد الله أن يُحمل صاحب الكتاب إلى حجرة الحبس، وأن يحمل إليه ما يحتاج إليه، وكتب كتاباً إلى وكيله ببغداد أنه قد وصل إلينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد، وأنني لا أظن أن البرمكي قد بعث لي بمثل هذا الكتاب؛ لما بيني وبينه من قطيعة قديمة!!؛ فعليك أن تتحقق في الحال من هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب.
فلما وصل كتاب عبد الله إلى وكيله ركب ومضى إلى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلم الكتاب إليه، فقرأه يحيى بن خالد، ثم قال للوكيل عد إلينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت إلى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتاباً مزوراً إلى عدوي؟!.
فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب ويذكر جنساً من العقاب!!.
فقال يحيى: كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودناءته وكلكم تعرفون قرب عبد الله الخزاعي من أمير المؤمنين، وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصلح بيننا!!، ووفقه لذلك، وأعانه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا، وتنصلح بواسطته شئوننا، وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه، وأكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفر على إكرامه وإعزازه واحترامه. ثم أنه طلب القلم والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده.
بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك وابتهجت باستقامتك، وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتاباً، ولفق عني خطاباً وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته، وليس بمزور عني وتوقعي من كرمك وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله، وتعرف له حرمة قصده، وأن تخصه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه.
ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه إلى الوكيل فأنفذه الوكيل إلى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه؛ وذلك لأن غريمه القديم قد قصده في أمر هين مقدور عليه، فأحضر الرجل وقال أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب إليَّ، فأمر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك من ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيره بصحبة مأمونة إلى بغداد!!.
فلما وصل إلى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان فأُذِن له في الدخول فدخل إليه وقبل الأرض بين يديه.
فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان وغدر الحدثان فنشرتني وأحييتني!!.
فقال: من بركاتك وظلك وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني وأغناني وقد حملت جميع عطيته، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يديك!!.
فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة واليد الجسيمة إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بيني وبينك وبين ذلك الرجل المهيب بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهبك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك الخزاعي. ثم أمر له من المال بمثل ما أعطاه عبد الله بن مالك الخزاعي أمير سمرقند.
وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل، ولو كان خسيس الطبع لالتجأ إلى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس، ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم وخاطر مع رجل محتشم كريم الأخلاق طاهر الأعراق فوصل بذلك التهور إلى مراده!.
وانظر إلى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه وبماذا قابلاه ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه، وتخلص من فقره وحاجته للمال، وأفلت من شر محنته، وعاد ذا نعمة سنية، ورتبة علية، وحصل مع جميل الذكر على جزيل الأجر.
ولنا وقفة مع تلك القصة الطريفة، وهي أننا لا نقر التزوير كعمل حميد!، حتى ولو كان عاقبته هي الإصلاح بين المتخاصمين!!، لأن ذلك الرجل من أهل بغداد لم يكن يعلم بالخصومة القديمة التي كانت بين يحي بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي، تلك الخصومة التي جعلت أمير سمرقند يتشكك في صحة الكتاب!، وهل هو بالفعل من يحي بن خالد البرمكي؟!، ولكن أعجبتني نظرة يحي البرمكي الإيجابية للأمر، وأن ذلك الرجل كان سببا في إنهاء عداوة قديمة له، وبداية صفحة جديدة من الود مع خصم قديم ذي مكانة وقدر عند أمير المؤمنين هارون الرشيد، فهل نستطيع نحن أن ننظر دائما للجانب الإيجابي في أي أمر قبل أن ننظر إلى سلبيات ذلك الأمر؟؟!!، وهناك فائدة ثانية من هذه القصة وهي أن التنافس على نيل المديح والحظوة عند الحكام يؤدي إلى التباغض والتشاحن بين المتنافسين على نيل الرضا والمديح من حاشية الحاكم، وهذا بالتأكيد سيضر بمصالح الرعية على المدى البعيد.
والآن أختر شخصا تعرف عنه العناد والتشبث بالرأي، وواجه عدم موافقته بهدوء، سوف تشعر بارتياح نفسي عندما لا تغضب أو تغير موقفك، وسوف تقنع نفسك بأنك توقعت هذه المعارضة، ولا بأس من ذلك (لكل شخص الحق في الدفاع عن رأيه، وهذا شيء لا علاقة لـــي به). وتذكر دائما: "أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، وعندئذ سوف تبني القدرة على التصرف بطريقة إيجابية في مثل هذه المواقف.
مرن نفسك على تجاهل عدم الموافقة أو الاستحسان من الغير، أذكر أحد الأساتذة الكبار بإحدى جامعاتنا، بينما كان يلقي محاضرة لاحظ أن أحد الحضور غير راض عن بعض ما قيل في المحاضرة!، وعندما بلغ به الغضب إلى الدرجة التي لم يعد يتحمل فيها السكوت، وقف وهاجم المحاضر بعنف، وكان هجومه على صيغة سؤال، فحواه أنه يستنكر رأي الأستاذ المحاضر!، لقد حاول إثارة المحاضر لكي يبادله الهجوم، ولكن المحاضر استجاب فقط بكلمة "حسنا"، واستمر في المحاضرة، تجاهل ذلك الهجوم يعني أنه لن يقيم نفسه ووجهة نظره المقتنع بها تمام الاقتناع على أساس ما يقتنع به شخص آخر من وجهة نظر مخالفة.
باستطاعتك قطع الصلة الوهمية بين ما يقوله أو يفعله الآخرون وبين قيمتك الذاتية. ذكر نفسك عندما تواجه عدم موافقة شخص ما بالآتي: هذا رأيه أو رأيها، لقد توقعت هذا التصرف منها أو منه، وهذا أمر لا يعنيني!! بهذا توقف الألم الذي يمكن أن تعانيه لمجرد ربط قيمتك الشخصية برأي الآخرين.
من الأفضل أن تقبل بهذه الحقيقة البسيطة: "الكثير من الناس عاجز عن فهمك فهمـــــــــا صحيحا". لا بأس في ذلك لأنك بالطبع لن تستطيع فهم الكثير من الناس فهما صحيحا، وأحيانا لن تستطيع فهم أقرب الناس إليك!، عموما ليس هذا أمر ضروري، لا بأس في كون بعض الناس مختلفين عنك، والناس الذين لا يفهمون بعضهم البعض، ولكنهم يدركون على الأقل ذلك، أفضل من الذين لا يفهمون بعضهم البعض وفي نفس الوقت لا يعرفون ذلك. لا داعي للدخول في جدال مع شخص آخر لإقناعه بصواب ما تقول، يكفي أن تثق أنت بصواب ما قلت.
ثق بنفسك عند شراء ملابس أو أشياء شخصية دون أن تستشير أحداً في ذلك، حيث أنك بهذه الاستشارة جعلت رأي من تسأل أفضل من رأيك، هذه القاعدة بالطبع لها استثناء وهو أهمية رأي المتخصصين في هذا الشيء، وكذلك من جرب ذلك الشيء وتثق في حكمته وصواب رأيه.
صحح نفسك بصوت عال عندما تكتشف أن تصرفك يدل على حاجتك لاستحســـــان شخص ما لك.
لا تحاول تأكيد صحة ما تقول بالاستعانة بإضافة طرف آخر في عباراتك: "أليس هذا صحيحا يا فلان؟"، "ألم تفعل ذلك يا فلان؟"، "أسأل فلان سوف يخبرك؟!". والآن قلل من الاعتذارات التي تقولها أحيانا بدون حاجة لذلك.
في المحادثات، بإمكانك ملاحظة "بالتقريب" الوقت الذي تكلمت فيه والوقت الذي تكلم فيه غيرك، عليك تجنب كونك الشخص الذي قلما يتكلم. في اجتماعك القادم بأصدقائك أو ما شابه، لاحظ كم مرة قاطعك فيها الغير، ولاحظ هل أنت ممن يقطع الآخرون كلامه؟، إذا تكلمت وشخص آخر في نفس الوقت؟!.
التصرف الذي يقصد به كسب الاستحسان يؤدي في أغلب الأحيان إلى الوقوع في الجبن. تستطيع التخلص من أن تكون معرضا لمقاطعة الغير وذلك بملاحظة تلك المناسبات وعدم السماح بها في كل مرة.
حاول ملاحظة نسبة الجمل الإخبارية إلى الجمل الاستفهامية وأيهما يحوز على الأكثرية في حديثك، هل تكثر من الأسئلة؟، وتطلب السماح قبل الكلام بدلا من قول ما تريد؟، مثلا "الجو ممتاز اليوم، أليس كذلك؟!!".
بهذه الجمل تستطيع أن تبدأ في التخلص من الحاجة لاستحسان وموافقة كل الناس، بالطبع ليس المقصود أن تتخلص نهائيا من ذلك ولكن يجب ألا تصاب بالخيبة والمتاعب النفسية إذا فشلت في الحصول على مداهنة أو تملق تشتهيه. المدح والاستحسان شيء مرغوب فيه من قبل الكثير من الناس، ولكن ما يجب التخلص منه هو معاناة الألم إذا لم يمدحك شخص ما.
عندما تحاول التخلص من هذه التصرفات تذكر أن الشخص الذي يريد مكافحة السمنة بالتوقف عن تناول بعض أنواع الطعام لا يستطيع التأكد من قوة عزيمته عندما يكون شبعان، والمدخن الذي ينوي ترك هذه العـــادة لا يستطيع الحكم على قوة صبره إلا بعد إطفاء سيجارته، وأنت لن تستطيع قياس قدرتك على تحمل عدم استحسان وموافقة كل الناس –حتى لو أقسمت على ذلك– إلا إذا وقعت في نفس الظروف ولم تشعر بأي مضايقة.
إذا تخلصت من أي مشكلة من تلك المشاكل التي تمثل نقاط ضعف نفسية فيك وجدت أن التخلص من المشاكل الأخرى سهل جدا. الصعوبة في التخلص من ذلك تكمن في طول الوقت الذي مارست فيه التصرفات التي تريد تغييرها، لذلك فلابد من تمرين عقلك بإصرار لأن النتيجة الحسنة لذلك تبرر كل جهد.
المناعة ضد اليأس عند مواجهة اعتراض من شخص ما تدل على نضوج صاحبها، والناس الذين لا يتحملون الاعتراف بالخطأ مهما كثرت أخطاؤهم لا يملكون الثقة بأنفسهم.
والآن أقرأ هؤلاء الأبيات و هم جميعا مُفعمون بالعزة واحترام الذات، وتلاحظ في جميع الأبيات قدراً كبيراً من الاعتزاز بالنفس يُغني أي شخص عن استجداء المدح وانتظاره من الآخرين، وذلك مهما كان وضع ومكانة ومنزلة من تطلب أو تستجدي مدحه:
عِشْ عَزِيزًا أَوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ بَـيْنَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ
المتنبي
لا تَسْقِنِـي ماءَ الـحَيَاةِ بِذِلَّةٍ بَلْ فَاسْقِنِـي بِالْعِزِّ كَأْسَ الـحَنْظَلِ
عنترة بن شدَّاد
لا تَفْتَـخِرْ بِنَضَارٍ قَدْ جَمَعْتَ فَقَدْ يَأْتِـي وَيَذْهَبُ فـي أَيَّامِكَ الذَّهَبُ
وَافْخَرْ بِعِزَّةِ نَفْسٍ حَلَّهَا أَدَبٌ فَلَـيْسَ يَتْرُكُهَا إِنْ حَلَّهَا الأَدَبُ
مسعود سماحة
إِذَا الـمَرْءُ لَــــمْ يَـــــــدْنَسُ مِـــــنَ اللُّــؤْم عِرْضُهُ فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
وإِنْ هُوَ لَـمْ يَحْمِلْ علـى النَّفْسِ ضَيْمَهَا فَلَـيْسَ إلـى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِـيلُ
السموأل
نَفْسُ الكَرِيمِ على الخَصاصَةِ والأَذَى هي في الفَضاءِ مَعَ النُّسُورِ تُحَلِّقُ
الأخطل الصغير
ونَحْنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصَّدْرُ دُونَ العالَمِينَ أَو القَبْرُ
المتنبي
يَهُونُ عَلَـيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا وَتَسْلَـمَ أَعْراضٌ لَنَا وعُقُولُ
الـمتنبـي
وكُل امْرِىءٍ يُولِـي الـجَمِيلَ مُـحَبَّبٌ وكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
الـمتنبـي
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَـيْهِ ما لِـجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيْلامُ
الـمتنبـي
لَكِنْ أَنِفْتُ بِأَنْ أَعِيشَ بِمَوْطِنِـي عَبْدًا وَكُنْتُ بِهِ مِنَ الأَسْيادِ
فوزي الـمعلوف
الابتعاد عن الشهرة والتواضع في سيرة الإمام أحمد بن حنبل:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل كان أبي أصبر الناس على الوحدة، وقال لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وكان يكره المشي في الأسواق وقال الميموني عنه: رأيت الوحدة أروح لقلبي.
وقال المروذي ذكرت لأبي عبد الله عبد الوهاب على أن يلتقيا فقال أليس قد كره بعضهم اللقاء وقال يتزين لي وأتزين له، وكفى بالعزلة علما، والفقيه الذي يخاف الله، وقال لي أبو عبد الله (يقصد الإمام أحمد بن حنبل) قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك، فإني أنا قد بليت بالشهرة وقال غيره عن أحمد أنه قال: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس.
وقال الأثرم : سمعت الهيثم بن خارجة قال لأحمد بن حنبل أنت عروس تُزار ولا تزور.
ومن نظر في سيرة أبي عبد الله وترجمة ما سبق وما يأتي وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم، وإنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي أن دغفلا دخل على معاوية فقال له أي بيت أفخر، قال: قول الشاعر:
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها على البر كان البر أندى من البحر
وقال صالح: كان أبي إذا دعا له رجل يقول الأعمال بخواتيمها، وقال عامر: للإمام أحمد يا أبا عبد الله بلغني أنك رجل من العرب فمن أي العرب أنت؟ فقال لي يا أبا النعمان نحن قوم مساكين وما نصنع بهذا؟!!!؛ فكانت تحدثني نفسي أحياناً؛ أريده على أن يخبرني عن نسبه، فيعيد علي مثل ذلك الكلام ولا يخبرني بشيء، والمعروف عن الإمام أحمد بن حنبل أنه من أشراف العرب نسباً وحسباً، ولكنه يترفع عن ذكر ذلك النسب تواضعاً لله عز وجل.
وقال عبد الله بن الرومي: كنت كثيرا ما أرى أبا عبد الله أحمد بن حنبل يعني وهو بالبصرة يأتي إلى مسجد بني مازن فيصلي فيه فقلت يا أبا عبد الله إني أراك كثيرا تصلي في هذا المسجد قال: إنه مسجد آبائي وقال الخلال: حدثنا المروذي قال: حضرت أبا ثور سئل عن مسألة فقال: قال أبو عبد الله: إمامنا، أو قال شيخنا أحمد بن حنبل فيها كذا وكذا، فجعل السائل يدعو له ولم يسأله عن رأيه، فلما مضى التفت إلينا فقال: هذا لو أخبرته عن رأيي لكان مجادلا لي!؛ ولكنني حين قلت له أحمد بن حنبل مر وسكت، وجاء رجل إلى أبي عبد الله فقال: إن لي والدة مقعدة تسألك أن تدعو لها قال: فغضب وقال: كيف قصدتني؟، قل لوالدتك أن تدعو هي لي، هذه مبتلاة، وأنا مُعافى.
ثم دعا لها أحمد بن حنبل وعوفيت (وهذا من تواضع الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه). وجاء رجل إلى أبي عبد الله من سمرقند بكتاب عبيد الله بن عبد الرحمن إلى أبي عبد الله يجعل له مجلسا فأهدى إلى أبي عبد الله يوما ثوبا فأعطاه رجلا، فقال: اذهب به إلى السوق فقومه، فذهب فجاء نيف وعشرون درهما فحجبه أبو عبد الله حتى اشترى له ثوبين ومقنعة، أو ثوبا ومقنعة وبعث به إليه ثم أذن له فحدثه وقال عبد الله: رأيت أبي إذا اختفى، أكثر ذلك يقرأ القرآن.
وقال الأثرم ربما يترك أصحاب أحمد بن حنبل أشياء ليس لها تبعة عند الله مخافة أن يعيروا بأحمد بن حنبل رضي الله عنه، وقال أحمد بن الحسن الترمذي رأيت أبا عبد الله يشتري من السوق الخبز ويحمل بنفسه في الزنبيل، ورأيته يشتري الفول غير مرة ويجعله في زبدية أو شيء آخر فيحمله وهو آخذ بيد عبد الله ابنه، وقال صالح كان أبي ربما خرج إلى البقال فيشتري حزمة حطب فيحملها!!.
وقال الخلال: أخبرنا المروذي سمعت أبا عبد الله يقول: كان يحيى بن يحيى قد أوصي لي بجبة قال: ففرحت بها وأردت أن آخذها قال: وكانت أعجبتني الجبة فقلت رجل صالح وقد يصلي فيها قال فجاءوا بها ومعها شيء آخر فرددته كله، ويؤثر عن أحمد بن حنبل قوله: "ما أعظم بركة المغزل"؛ يقصد أن يلبس الإنسان مما ينسجه بيديه، وتذكروا معي أن غاندي هزم الإمبراطورية البريطانية في أوج مجدها اقتصادياً بالمقاطعة الاقتصادية للمنتجات البريطانية وبالذات المنسوجات البريطانية، وكذلك اعتماده كلية هو والهنود على الأطعمة الهندية فقط، وهذا من الدروس التي يجب أن نستوعبها ونتفهمها في أيامنا الحالية مع استفحال أمر العولمة الصهيونية المتبجحة!!!.
قال المروذي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب فما اشتهيته!، وعن عبد الرحمن الصيرفي قال: أتيت أحمد بن حنبل أنا وعبد الله بن سعيد الحمال وذلك في آخر سنة المائتين، فقال أبو عبد الله لعبد الله بن سعيد: يا أبا محمد إن أقواما يسألوني أن أحدث فهل ترى ذلك؟ قال فسكت أبو عبد الله، وأطال السكوت قال: فقلت أنا لأبي عبد الله أجيبك أنا؟، قال: تكلم قال قلت له إن كنت تشتهي أن تحدث فلا تحدث، وإن كنت تشتهي أن لا تحدث فحدث قال فكأن أبا عبد الله استحسن ذلك، قال فلما انبسط في الحديث قال: فظننت أنه كان لا يشتهي أن يحدث (وهذا من أعلى درجات التدقيق والتحقق من الإخلاص). وقيل لبشر بن الحارث يا أبا نصر الرجل يكون عنده علم من القرآن فترى له أن يجلس فيعلم الناس قال إن كان يحب ذلك فلا يجلس!؛ (وذلك خوفا من الرياء والعُجب).
وأفضل علاج لحب المدح والمجد والشهرة هو إخلاصنا لله في كل قول وفعل، فتعالوا نناقش معا موضوع الإخلاص لله عز وجل، وهو من مواضيع العقيدة الهامة في حياة كل منا:
الإخلاص: هو عمل من أعمال القلوب، بل هو في مقدمة الأعمال القلبية، لأن قبول الأعمال لا يتم إلا به.
والمقصود بالإخلاص: إرادة وجه الله تعالى بالعمل، وتصفيته من كل شوب ذاتي أو دنيوي، فلا ينبعث للعمل إلا لله تعالى والدار الآخرة، ولا يمازج عمله ما يشوبه من الرغبات العاجلة للنفس، الظاهرة أو الخفية، من إرادة مغنم، أو شهوة، أو منصب، أو مال، أو شهرة، أو منزلة في قلوب الخلق، أو طلب مدحهم، أو الهرب من ذمهم، أو إرضاء لعامة، أو مجاملة لخاصة، أو شفاء لحقد كامن، أو استجابة لحسد خفي، أو لكبر مستتر، أو لغير ذلك من العلل والأهواء والشوائب، التي خلاصتها هو: إرادة ما سوى الله تعالى بالعمل، كائنا من كان، وكائنا ما كان. وأساس إخلاص العمل: تجريد "النية" فيه لله تعالى.
والمراد بالنية: توجه إرادة الإنسان لتحقيق غرض له.
فالغرض الباعث هو: المحرك للإرادة الإنسانية لتندفع للعمل، والأغراض الباعثة كثيرة ومتنوعة، منها، المادي والمعنوي، ومنها: الفردي والاجتماعي، ومنها: الدنيوي والأخروي، ومنها التافه الحقير، والعظيم الخطير، منها ما يتعلق بشهوة البطن والجنس، ومنها ما يتصل بلذة العقل والروح، منها ما هو محظور، ومنها ما هو مباح، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب. وإنما يحدد هذه البواعث: عقائد الإنسان وقيمه التي يؤمن بها، ومعارفه وأفكاره ومفاهيمه التي كونها بالدراسة أو بالتجربة، أو بتأثير البيئة، أو بتقليد للآخرين.
والمؤمن الحق هو الذي غلب باعث الدين في قلبه باعث الهوى، وانتصرت حوافز الآخرة على حوافز الدنيا، وآثر ما عند الله تعالى على ما عند الناس، فجعل نيته وقوله وعمله لله، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، وهذا هو الإخلاص.
ويتبع >>>>>>>>>>> الإخلاص من ثمرات التوحيد الخالص