بالرغم من أن قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم الأصلية التي هجروا منها عام 1948، بعد الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، تشكل ـ مع قضية الاحتلال ـ جوهر قضية فلسطين.
وبالرغم من الدور الذي لعبته مخيمات الشتات، وجماهير اللاجئين عموماً في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، وفي حماية قضية فلسطين عموماً من الاندثار والنسيان، ودور تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج في بلورة وإنشاء الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال إطلاق شرارة ثورة التحرر الفلسطينية، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية كإطار ناظم للنضال الفلسطيني بكل تياراته وفصائله، حيث كانت مخيمات اللجوء حاضنة للثورة وعنوانا لتضحياتها، كما تحملت مخيمات الداخل لاحقاً العبء الأكبر في الانتفاضة، وكانت هذه المخيمات أيضاً، بوصفها الرمز الحي لقضية اللاجئين وحقهم في العودة، المستهدف الأول في عمليات الاجتياح والتدمير والقتل التي مارستها قوات الاحتلال الصهيوني على مدى السنوات السابقة.
وبالرغم أيضا، من أن حق العودة للاجئين مثَّل الهدف الأول من أهداف النضال الوطني الفلسطيني، وجرى تثبيته في ميثاق منظمة التحرير، وبرنامجها السياسي، وفي كل البرامج النضالية لأطراف حركة التحرر الوطني الفلسطينية بمختلف تياراتها وانتماءاتها السياسية.
بالرغم من كل هذه المكانة التي احتلتها قضية اللاجئين في صلب القضية الفلسطينية، والدور الأساسي الذي لعبه اللاجئون في مسيرة النضال الفلسطينية مدفوعين بحافز العودة إلى جانب حافز تحرير الوطن.... فإن قضية عودة اللاجئين باتت تشهد تراجعاً كبيراً من حيث اهتمام الحركة السياسية الفلسطينية الرسمية بها، ويمكن القول إن هذا التراجع قد طال مختلف جوانب القضية الفلسطينية وثوابتها، وانعكس ذلك في مفردات الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي. حيث تراجعت لغة الخطاب من تحرير الوطن إلى انسحاب قوات الاحتلال إلى حدود الرابع من حزيران إلى إعادة الانتشار وأخيراً إلى ما سمي خارطة الطريق.
وفيما يخص الاستيطان بات الحديث يجري عن تجميده ووقف توسعه بدلاً من الإصرار على إزالته باعتباره عدوانا توسعياً غير شرعي. أما بالنسبة لحق العودة، فإن الخطاب الرسمي الفلسطيني والعربي تجاوزه ليتحدث عن حل عادل لقضية اللاجئين، ثم تنازل إلى حل يتم التفاوض والتوافق عليه. وحتى هذا الحل باتت ملامحه واضحة ومحددة ـ قبل أن يجري التفاوض عليه ـ في الوثائق والمبادرات التي سنتناولها في هذه الدراسة، والتي وصلت إلى حد إسقاط حق العودة نهائيا.
ويمكن إعادة أسباب هذا التراجع الذي أصاب القضية إلى تخلي النظام الرسمي العربي عن دوره القومي تجاه القضية الفلسطينية وخضوعه كلية للضغوط الأمريكية، وعجزه أمام القوة الإسرائيلية، وتجزئة الصراع العربي الصهيوني إلى صراعات قطرية، وتسابق العديد من أطرافه إلى عقد اتفاقات جزئية وانفرادية مع الحكومة الإسرائيلية، وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره بنفسه. بل إن العديد من البلدان العربية البعيدة جغرافيا عن ميدان الصراع، سعت إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وأقامت علاقات سياسية وتجارية معها، دون أن تستخدم هذه الورقة كشرط ضاغط على إسرائيل للاعتراف بالحقوق الفلسطينية أو للانسحاب من الأراضي العربية التي تحتلها. وبذلك أصبح الموقف العربي الرسمي عاملاً ضاغطاً على الطرف الفلسطيني بدلاً من أن يوظف في خدمة النضال الوطني الفلسطيني.
ولم يكتف النظام الرسمي العربي بإعلان تخليه عن استخدام القوة في الصراع مع إسرائيل ـحتى مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتواصلةـ واعتماده طريق التفاوض كسبيل وحيد للتعامل مع العدوان الإسرائيلي بل أصابه الذعر أمام الاتهام الأمريكي له بممارسة الإرهاب ومساندته، فراح العديد من أطرافه يضيق الخناق على المقاومة الفلسطينية، ويضغط بكل الوسائل لإيقافها، ولم يتورع بعض ممثليه عن وصفها بالإرهاب، بدلاً من الدفاع عنها كحق مشروع لكل الشعوب التي تتعرض للعدوان والاحتلال. ولقد أكد هذا النظام الرسمي العربي، بأغلبيته الساحقة، أنه أصبح أداة طيعة بيد الإمبريالية الأمريكية تنفذ سياساتها وتستجيب لإرادتها، وتفتح أمامها الأراضي والمياه والسماوات العربية لاجتياح بلد عربي شقيق واحتلاله وتدميره، كما جرى في العراق.
هذا الواقع العربي الرسمي العاجز والمستسلم، المتزامن مع ضعف الحركة الشعبية العربية وقواها وأحزابها السياسية، ومنظماتها الجماهيرية، وكذلك جبن ونفاق المجتمع الدولي أمام القوة الأمريكية، والعدوانية الإسرائيلية.... انعكس سلباً وضعفاً على القضية الفلسطينية، ووفر ذرائع ومبررات للقيادة الفلسطينية لتوقيع اتفاقية أوسلو بكل إجحافاتها وتنازلاتها في الحقوق الفلسطينية، والقبول لاحقاً بما يسمى خارطة الطريق، والاستمرار في هذا النهج، رغم ما فعلته إسرائيل في اتفاقيات أوسلو، وما تضعه من اشتراطات على خارطة الطريق، بما في ذلك إعادة صياغتها وفق منظورها، حيث اختصرتها تقريباً في خطة الانفصال الأحادي، أو الانسحاب من قطاع غزة، وبعض المستوطنات في شمال الضفة. وحصلت على اعتماد وتبن لها من المجتمع الدولي.
وأخطر ما مثلته هذه الاتفاقيات على قضية اللاجئين هي أنها اعتمدت القرارين 242، 338 كأساس لحل القضية الفلسطينية، في حين أن هذين القرارين لا علاقة لهما بالقضية الفلسطينية، ولم ترد في أي فقرة من فقراتهما كلمة فلسطين ولو لمرة واحدة، ولم يذكر فيهما الشعب الفلسطيني وحقوقه، لأنهما في الأصل اتخذا لمعالجة آثار حربي 1967، 1973بين إسرائيل والدول العربية. بينما استبعد القراران رقم (181) 29/11/1947 (قرار التقسيم) والذي ينص على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة. ورقم (194) 11/12/1948 الذي ينص على حق اللاجئين في العودة والتعويض. (وردت جملة واحدة في القرار 242تشير إلى حل مشكلة اللاجئين، وهي جملة لم تكن تخص اللاجئين الفلسطينيين وحدهم، بل تقصد أيضاً اليهود الذين هاجروا من البلدان العربية لإسرائيل).
كذلك فإن كل ما ورد في اتفاقية أوسلو عن قضية اللاجئين هو الإشارة إلى بحثها في مفاوضات الحل النهائي، دون أي ذكر لحق العودة، وجاءَت خارطة الطريق بعدها لتبني على ذلك وتعتمد نفس النص. اللهم إلا إشارة إضافية بذكر مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت ضمن المستندات التي تؤخذ بالاعتبار عند المفاوضات. وهذه المبادرة أيضاً تحدثت عن حل لقضية اللاجئين يتم التوصل إليه بالتوافق خلال المفاوضات، ولم تتحدث عن حق ثابت للاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية.
ثم جاء التركيز على قضايا الدولة والقدس في الخطاب السياسي والإعلامي، الفلسطيني والعربي، ليوحي وكأن الحقوق الفلسطينية محصورة بذلك فقط، مما أدى إلى تراجع كبير في التركيز على حق العودة والمطالبة به، لدرجة أن هذا الحق بات لا يحظى في الأوساط العربية والدولية بالاهتمام الذي يستحقه فيها، بل وبات غير مفهوم لدى هذه الأوساط، وما هو المقصود به.
وقد أدى ذلك إلى استنتاج لدى الجانب الإسرائيلي، والعربي الرسمي، والمجتمع الدولي، إلى أن حق العودة لا يتمتع بأولوية لدى الفلسطينيين، وأن لديهم الاستعداد للمساومة عليه، أو التنازل عنه.
ويتبع >>>>> : حق العودة في مشاريع التسوية غير الرسمية (2)
اقرأ أيضاً:
قطعة البطاطا الساخنة/ الشاباك تستخدم التحرش الجنسي بالأسيرات الفلسطينيات/ دفاعاً عن حق اللاجئين الفلسطينيين/ هذه كلمات وزفرات طفلة من الاراضى الفلسطينية/ الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين؟