مما لا شك فيه أننا أمام أزمة إنسانية أخلاقية سلوكية نفسية مستفحلة ومهددة لكياننا، كمجتمع كانت له سماته السمحة وعلاقاته الطيبة بالآخر. أصبحنا كأفراد وكجماعة في حاجة ماسة إلى التوقف والتأمل، إلى تحليل ومواجهة، ترميم وتقوية : الأنا الفردية والجمعية، كما ترمم الآثار من الشروخ والتآكل حتى لا تتهاوى وتنهار.
إنها أمور جسيمة تحتاج إلى مراجعة وتأمل..... لماذا تغيرت أخلاقنا وسلوكياتنا، وهل من سبيل لإعادتها إلى شكلها الصحي والصحيح؟!...
تقبل الحقيقة الصادقة العارية أصبح أمراً صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، من منا ـ حقاً ـ يرتضي مكاشفة ومواجهة تعري كيانه، تنبهه وتصححه دون جلد للذات وإنما من أجل بنائها وتقويتها. لكل منا سقفه وحدوده، وكل منا قد يحزن ويخفي ألماً عظيماً. لنا جميعاً طموحات وتوقعات قد تفوق الممكن والمتاح بهامش واسع فعلاً.
وقد تجد نفسك في إطار الحياة اليومية تثق في شخص ما، ثم يخونك فجأة وبدون أي مقدمات، ولا يترك لك فرصة للالتفاف حول الأزمة. وقد يكون تفاعلك مع والديك مباشرة أو بشكل مستتر قاسياً ينتج عنه سوء فهم متبادل، أنانية مطلقة مباغتة، عدم اهتمام، عدم تقدير، ومن ثَم انحسار مشاعر الحب والمودة، إن لم يكن اختفاءها بالكامل.
نري هنا بكل الوضوح تفتح الجروح وتقيحها أحياناً، وأحياناً أخرى يغمرنا إحساس مزعج بالنقص وشعور بعدم الاستقرار، بالخوف. يتخفي كل ذلك وراء واجهة شجاعة مكوناً إتجاهاً نقيضاً لحقيقة النفس الجوانية، بل دافعاً لسلوك معنوي عنيف وكأنه "جاهز للقتل" أو كأنه ذاهب للتجمل جراحياً تاركاً الفوضى والهمجية خلفه في الماضي، أو في الزمن الغارب، أو في الخيال المختزل الضعيف، تتبعثر كافة المشاعر السلبية داخل ذهنه فيتورم صدره وتضج دماغه بالأفكار، يكاد ينفجر غيظاً متوتراً مندفعاً إلى مبالغات كاذبة يسرد فيها إنجازاته الوهمية مرتكزاً إلى راحة زائفة نابعة من خيال مريض متكرر، يخدع فيها نفسه، يضحك عليها، هارباً من واقع جحيمي، لكن لا مناص ولابد من الكذب فيه، والتجمل له خوفاً وخشية من واقع آخرمؤلم خشن ملئ بالفشل والإحباط.
وعندما يلتقي المرء بالآخر للمرة الأولي تتكشف رؤى وتمارس طقوس تتقشر فيها طبقات من الإسقاط الزائف ثم يظهر فجأة الشخص الحقيقي، ونندهش فعلاً... ونري بجلاء ذلك البون الشاسع بين الانطباع الأولى وبين ما هو أمامنا وما هو خلفنا وما هو داخلنا، هنا والآن.
فذلك الرجل القوي الرابط الجأش يحمل في جوانحه نواة هشة، والجبن لديه سيد الأخلاق، وتلك المرأة سيدة الأعمال ترتدي بذلة أنيقة ذات طابع باريسي، تمشي مرفوعة الهامة، متصلبة الخطوة كرجل أعمال صارم وكأنها تعوض ضعفاً داخلياً عميقاً وتوتراً دفيناً حملته معها في رحلتها للمنصب، مع تلك القامة المشدودة والشعر المصفوف عند أغلى كوافير.
قد يكون أمراً غير عادي أن يدور الناس حول عقلهم الواعي وشعورهم الحاضر، مكنونهم الذاتي وإدراكهم اللاواعي لذواتهم وللحقيقة والوجود حولهم وبينهم.. نادراً ما يرى الناس أنفسهم كما يراهم الآخرون مما يخلق موقفاً ينتهي بأي منا إلى ألاّ يكون أميناً مع نفسه، مما يؤدي إلى عدم الرضا عنها، ربما رفضها وكرهها، وعدم الثقة بها. بشكل أو بآخر، يعي الإنسان الحقيقة العارية، شاء أم أبي، فما يكتم في العقل الباطن يجد طريقه إلى الوعي في ومضات أو ساعات ولا يرقد هناك بشكل متجمد ومزمن.
لكن السؤال الأوحد هنا: تري كم طبقة وكم قشرة عظمية وهمية كما درع السلحفاة تحمينا من الواقع، وإلى متي سنتخفى داخلها؟ وكأننا مشروع دودة أو فراشة سجينة شرنقة محتملة!! إن الهروب من الهوية الحقيقية قد يؤدي إلى سلوكيات غريبة الشأن، كركوب سيارة فارهة مختلفة فجأة ودون أي مقدمات، أو صبغ الشعر بلون شاذ دون داع، أو اقتناء موبايل غريب الشكل والأطوار دون الحاجة إليه حقاً، ارتداء حلى وجواهر حقيقية أو فالصو، ضخمة تأكل الأذنين، تكتم ساحة الصدر وتثير ضجة خاوية، أو إجراء عملية تجميل للجسد وترك النفس مشوهة، أو الإنفاق والتبذير والفنجرة دون داع ودون إمكانيات، الاقتراض من البنك أو الناس دون تحديد الهدف.
كلها وغيرها محاولات يائسة للهروب من الهوية وارتداء جلد آخر، مبرقش وناعم يتساقط لدى أول طلعة للشمس. كم منا ينكر، يخاتل، يخادع، يدافع، أو يعمم مشكلته، فاقداً مصداقيته وهنا يندر من يعترف بالخطأ ويقبل اللوم، لأنه في تلك الحالة أصبح من الصعب هضم وفهم احتياجات الآخر، ربما لأننا قد أصبحنا في حالة عشق مرضي للذات، صرنا مفتونين بأنفسنا وبالذات التي تورمت فأصبحنا ننافق، نتملق ونتوارى خلف سلوك الآخر، نستعمله ويستعملنا، ندور في دوامة الاستغلال البشع فندوخ ونهترئ، نجهد ونتمزق ويصيبنا الإعياء النفسي والجسدي:
هنا لابد وأن نلغي ذلك الخط المرسوم بين حب النفس وحب الآخر، قبول النفس وقبول الآخر، وأن نحاول بناء علاقة مختلفة ترتكز على الثقة المتبادلة هنا يجب أن نكون صادقين نقبل أنفسنا، نرتضي سلوكنا، ولا نحس بالخجل منه ولا يعني هذا البلادة أو الجلد السميك، لكنه يعني الحساسية للآخرين والرغبة في التغيير وشرف المحاولة.
أما المثقف فله حكايات أخطر وأكثر تسلية من حكايات ألف ليلة وليلة: (رضا البهات) يحكي لنا حكاية المثقف (الإليت أو الـ Elite)... "ذلك المصطلح الذي تحول عبر سخرية المصريين إلى (الأليط) أي المثقف المتعالي. وهو تعبير ساخر يطلق على من تورمت وانتفخت عنده الأنا.. وبالوقت تم تعميم المصطلح ليمتد من حامل المعرفة والشهادات كأورام، إلى كل من يحمل فى جسده انتفاخات وكتلا زائدة.. الأليط.. تعبير كنا نطلقه فى طفولتنا على من تتدلى من رقبته كتلة بالونية لأحد الغدد. أو تبرز من بطنه كفتق... إلخ. وهكذا تمكن المصريون بتعبير موجز ودال من وصف كل نخبوى لا يلتزم بما يعلن.
بالطبع ليس هناك نموذج للأفكار ينبغى أن يكون عليه المثقف أو المتعلم.. بل لا يوجد أصلا كلمة المفروض، وينبغى أن. وليس لأحد الحق فى أن يلزم غيره بكيف يفكر أو يسلك. بل إن المثقف أيضا قد يغير من أفكاره وهذا أيضا من حقه. أكثر من هذا، لا بأس أيضا من أن يتبع كل شخص اتجاه مصالحه. لكن البأس كل البأس فى ألا يطابق المثقف الإليت بين ما يضمر وما يعلن. ألا يسمى الأشياء والمواقف بأسمائها، فلا يزايد أحد على أحد.
ولا أظن المصريين إلا من الذكاء بحيث يمكنهم التعرف على المثقف الأليط من المثقف العضوى الذى تعنيه بلاده وطموحاتها وهزائمها، بقدر ما تعنيه طموحاته وهزائمه من زاوية أنهما شيء واحد.
وكما نرى جميعا فإن نموذج الأليط يسود الحياة السياسية والثقافية حولنا. إذ يمكن فرز نخبة لم تجن بلادهم ولا المصريون من نخبويتهم شيئا. إذ يوظفونها فى الحصول على المزيد من المال والمناصب والمجد الخاص بتبديل الفكر والواقع من غير أن يعلنوا عن ذلك.. وقد ينكرونه أصلا.
ويمكننا بسهولة تمييز الأستاذ الجامعي الأليط الذي يكتب التقارير في زملائه وطلبته. وهناك (المثقف أبو أليطة) الذي لا يتورع مثلا عن أن يبلغ عن كتاب تافه له جهات الرقابة والأزهر كي تنهال عليه الشهرة وأموال جماعات حقوق الإنسان.
وهناك (الناقد الأليط) الذي يكتب عنك إن شئت ودفعت له مقدما. والإعلامي والكاتب والفنان والصحفي والبرلمانى والسياسى الأليط. فى حين لن يحاسبهم أحد إن هم صرحوا بسلوكهم وفكرهم ومواقفهم بوضوح وصراحة. فكل أليط حر فيما يعتقد ويفعل شرط أن يعلنه حتى لا ينصرف المصريون عن الجميع وقد اختلط عليهم الجميع.. فاستحقت النخبة الإليت هذا الإهمال. "
هل لنا ألا نقف على أنقاض أنفسنا الزائفة لتطول قامتنا، هل لنا ألا ندوس على أعناق الآخرين لنكون عمالقة؟؟، هل لنا أن نفعل ما يجعلنا راضين عن أنفسنا دون أن نسرق من الناس أحلامهم أو مشروعهم للسعادة تحت أي دعوى.
لقد أصبح الواحد منا لا يثق بنفسه ولا يثق في أهله أو صديقه ولا حتى اليد التي يسلم بها وأصبح يعد أصابعه بعد كل مصافحة، وينتهي الأمر بلااحترام، لاحب، وعدم قدرة على العطاء. للأسف أن مثل تلك الحالة السلبية قد تلد وتتحرك متحولة إلى هجوم على الآخرين في محاولة لشدّهم إلى القاع. قد يأخذ ذلك شكل العنف اللفظي أو الجسدي أو العدوانية السلبية (عدوانية خفية تمنع وتمنح وتذبح) وإذا ما واجهنا كل ذلك نجد التبريرات المساقة بسوء الفهم وعدم الإدراك والاعتذار و (معلهش) الشهيرة و (حصل خير) الشائعة. أما المثقف فله ألف حكاية ألطفها (المثقف الإليت ).
إن تلك الشخصية العدوانية السلبية تحمل في طياتها اعتباراً ذاتياً منخفضاً، وذكاءاً عالياً يساهم في تمرير عملية ذهنية اجتماعية تؤدي إلى قلب الموازين وجعل الآخر أمامك دون أن يدري يحس بالذنب. وتكاد السلوكيات السلبية تتمحور حول فقدان الإحساس بالآخر، ارتداء الأقنعة المختلفة، وهنا فإن الشخص الضعيف الأنا سوف يرضى ويهمل و يبرر دائماً سلوكه المعيب، قد يلوم نفسه أو غيره لما أحل به من كوارث (أحدهم سبّ الوحل الذي وقع فيه بعد المطر ولام الحكومة والظروف لأنه لم يره ولم يكن منتبهاً؟!!).
الأمل الوحيد المتبقي لحل تلك المشكلة العويصة هو نزع الأقنعة التي نرتديها ولو أدي ذلك إلى نزع الجلد والنزف من أجل إعادة بناء وترميم الأنا المعذبة والمنخورة، لنا أن نفتش داخلنا وحولنا عن كل الحيل النفسية الدفاعية المريضة، ندفعها بعيداً، مع الاعتراف الكامل بأن مثل ذلك الأمر جدّ صعب وقد يحتاج إلى إرشاد وتعليم وتوجيه من معالج نفسي.
إن الإبحار في محيط الخطأ المتكرر ودفن الرأس في الرمل، الدوران كالثور المعصوب العينين والاستمرار في الدوامة، علامة على العجز المكتسب من واقع متحايل شديد الفظاظة والقسوة، وشديد الميوعة أيضاً، واقع مرتبك ومؤثر على السلوكيات وعلى الصحة النفسية، والكيان الشخصي والتكوين العام للإنسان.
ليست هناك وصفة سحرية نرمم بها الأنا، لكن هناك مفاتيح علينا الإمساك بها، وليكن لنا دائماً شرف المحاولة. من المهم للغاية ألا نتحول إلى (مازوخيين) نستمتع بالألم ونحن ندري أو لا ندري، أو أن نضحك على أنفسنا بخداعها أو أن نضحك عليها بسلوك تعويضي مؤقت وضعيف.
تأمل ذاتك، افتح مسام نفسك، لا تزيف الواقع، استنشق الهواء الطلق وحاول أن تنقي الشوائب التي تثقل كاهلك ليخف وزنك وتطير روحك فيكون ملمس الوسادة تحت رأسك مدعاة لأمان شديد الخصوصية.
الأربعاء، 08 ديسمبر، 2004
اقرأ أيضاً :
نفسية المصريين الفساد القيمي / المصريون والعفاريت(2)