أثارت فتوى الدكتور علي جمعة القائلة بتحريم التماثيل الكاملة صناعة واقتناء وتجارة، ضجة إعلامية، مع أنه قال بجواز التماثيل الصغيرة، أو ما كان لحاجة كالأغراض العلمية أو ما كان لعبا للأطفال ونحو ذلك، وكذلك القول بإباحة الصور الشمسية، غير أن مثل هذا الكلام من القول بتحريم التمثال الكامل لم يعجب أصحاب الفن وبعض المفكرين، بل عدوا فتوى المفتي "رجعية" و"جاهلية"، وأن الفتوى يجب –كما قال– فاروق حسني –وزير الثقافة- "أن تتسم بذكاء العصر"، بل علق الأستاذ محمود العالم أنه لن يرد على هذه الفتوى التي تندرج في"ثقافة الجاهلية" وغيرها من تعليقات الفنانين.
صراع خطابين
ولست هنا بصدد قراءة للفتوى قراءة فقهية، ولكني أقرؤها من خلال خطابين متباينين، الخطاب العلماني ذات الارتباط بفكرة العولمة والتأثر بطبيعة الحضارة الغربية وتقديم الثقافة الإسلامية حسب فهمهم على نمط واحد يتماشى مع محاولة صبغ المجتمع المسلم بصبغة غربية، ولا أقصد هنا الحديث عن حل أو حرمة، وإنما أقصد المرجعية الفكرية التي يكون لها أثر في واقع الحياة، وبين خطاب ديني مرجعيته ليست الحضارة الغربية، وإنما الكتاب والسنة واجتهادات الفقهاء على مدى تاريخ الأمة، فنحن أمام خطابين متباينين، وهناك أزمة حقيقة ليس من الحكمة السكوت عنها.
ومع كون مسألة "التماثيل" من المسائل المختلف فيها فقها، وقد أبان المفتي الخلاف فيها، بل رأى أن الخلاف في كثير من المسائل المتعلقة بها يمكن أن نأخذ بالقول الذي يبيح الصور والتمثال غير الكامل والتمثال الصغير وما له مقصد محمود من التعليم ونحوه، غير أن هذا الكلام لم يعجب أصحاب الخطاب العلماني، بل لابد من الضغط علي الخطاب الديني ولن يقبل إلا القول بالإباحة المطلقة، وساعتها يكون المفتي"عصريا" يفهم الواقع ويدرك التحولات المسماة بـ"ذكاء العصر"، وهذا –في ظني– يمثل مأزقا فكريا، فهل تكون آراء الفنانين والمفكرين مرجعية للمفتي ليحول المسألة من مسألة خلافية إلى إجماعية، ويعد القول بعدها بتحريم التماثيل ضرب من التخلف والرجعية.
موازين حرية التعبير
وهذا يجرنا إلى قضية "حرية التعبير" وانعكاساتها على الواقع الفكري في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهل الخطاب الديني هو الخطاب الوحيد المطالب بأن يغير من جلده، وأن يكون أكثر انفتاحا، وأن يسعى للتغيير والتطوير، أما الخطاب العلماني الذي ينادي بالحرية صورة، ويحكر على الآراء جوهرا في عدد من المواقف ليست بالقليلة، فإنه قد نضج واستوى، وما عاد يحتاج للنصح، ولا أن يراجع تطبيقاته حول حرية التعبير، بل هو يشبه "النظام العالمي" الذي يندد بالإرهاب، ويقلب الجهاد المشروع من مقاومة المحتل إلى شيء مساو لقتل المدنيين، فيضع الكل في سلة واحدة، ثم يقوم هو بنفس بدور الإرهاب الذي لا يختلف حوله، كاحتلال العراق بدعوى القضاء على الديكتاتورية، أو ما حدث في أفغانستان وغيرهما، فيكون الحال أيضا في الخطاب الفكري حين يتبنى ما ينكره على الآخرين، وهنا تبرز مشكلة "ازدواجية المعيار"، فإن الخطاب الديني مطلوب منه أن ينصت للخطابات الأخرى، أوليس من الحرية أن تستمع الخطابات الأخرى إلى الخطاب الديني؟!! أم أننا سندور مع اتهام الدين دائما مالم يوافق آراءنا وأهواءنا، ونصف كل مفت إن وافق قولنا بأنه"عصري" و"تقدمي"، أما من خالف آراءنا، فهو "رجعي" ينزع من بئر "الجاهلية"، ويحيي ما درس من آثار "عبس وذبيان"، و"داحس والغبراء".
إن المفتي كان صادقا مع نفسه حين دلل على اختياره بما نشر بجريدة الأهرام يوم الأحد 2 إبريل 2006 ما نصه: " ليس لدار الإفتاء ولا لعلماء الدين أن يغيروا العلم، بل هم أمناء عليه، ثم بعد ذلك من شاء فليأخذ ومن شاء فليترك.... لا أعرف لم تتحول المسائل إلى قضايا، ولا ماذا نفعل في الخمر والعري وغيرهما مما خالط الفن: هل نقول بحله فليعننا الله ويلعننا اللاعنون؟ أو ننقل مراد الله وأجرنا عليه وحده".
إن الشيخ المفتي عرض رأيه وما أجبر أحدا على الأخذ به، وهو تطبيق عملي منبثق من احترام الإسلام لحرية الفكر، وتبقى الكرة في ملعب الخطاب العلماني، هل يسمح لعلماء الدين في بلد الأزهر أن يقولوا رأيهم بحرية كاملة، بدلا من الضغط الإعلامي وغيره، فنكون صادقين في ادعائنا للحرية، ونتماشى ما تتباه الدولة كما جاء على لسان رئيس الجمهورية في صدر جريدة الأهرام بتاريخ 4/4/2006 بأن الدولة تكفل حرية الدين والتعبير للجميع، وأرى أن هذا طريق لتحقيق الحرية المنشودة إن طبقناه دون ازدواجية في المعايير.
التنوع فطرة إنسانية
إن السعي لأن يكون نمط الحياة واحدا أمر غير مقبول في الحياة، وهو يخالف الفطرة الإنسانية، فالاختلاف سنة كونية بين بني البشر، ليس في البلد الواحد، أو المدينة الواحدة، بل في البيت الواحد، المهم أن يكون الحوار الهادئ، والاحترام المتبادل، والجدال بالحسنى هي المرتكزات التي تدعم حوارنا ومناقشاتنا دون تجريح لأحد أو تسفيه لرأي أو همزه ولمزه بأوصاف لا تليق بشخص هو من هو علما وانفتاحا وثقافة واطلاعا، إن الفن كقيمة لها أشكال متعددة، ويختلف تعبير الحضارات عنها، فالرسم والتجسيد قد يكون معتمدا في حضارة، وقد تكون الكلمة وفنون الإلقاء والزخرفة والعمارة في حضارة أخرى، فكان التنوع والتمايز دليل على جمال الحضارات، فكل يعبر عن مضمونه بوسائله، ثم نترك للناس أن يتخيروا ما يشاءون من تعابير الحضارات، والفتوى أحد فنون التعبير، وهي كما يقال:"معلمة وليست ملزمة".
أزمة فكرية
إن العراك الإعلامي الذي حدث بسبب "فتوى تحريم التمثال الكامل" هو تعبير عن أزمة حقيقة في الوسط الفكري، كما بين أزمة داخل الخطاب العلماني، وهو ما أشارت إليه أيضا فريدة النقراشي في مقالها "مأزق العلمانيين" المنشور في جريدة المصري اليوم بتاريخ 11/4/2006، في حين يظهر الخطاب الشرعي مؤمنا بالحرية ليس في المعتقد فحسب، ولكن في التفكير والاجتهاد، وعلى كل فريق أن يطرح ما عنده من الأدلة والبراهين ما يزين رأيه، شريطة ألا يجرح آراء الآخرين، إذ اتهام الآخر هو دليل إما على الضعف أو الإرهاب الفكري، أو يكون دليلا على الأمرين معا، ضعف في الفكر و القدرة على التواصل مع الآخر، وإرهاب بالسلطة ولو كانت إعلامية، لا سياسية.
مناقشة آراء الفنانين والكتاب
وإذا كان الفنان والناقد التشكيلي عز الدين نجيب قد استغرب من فتوى الدكتور علي جمعة الصادرة عام 2006 مقارنا بفتوى الشيخ محمد عبده 1905، ورجح فتوى الشيخ عبده على قياس الزمن، فالأصل أن الترجيح يكون بالدليل، وسيظل هذا رمزا للحرية الفكرية، بل نقبل تنوع الآراء في الزمن الواحد، وهذا يعني أن الحراك الفكري ينبع من الفكر الفقهي اعتقادا وتصورا، وتطبيقا ومعايشة، ويتهم الخطاب العلماني بالجمود.
أما ما قالته الكاتبة فريدة الشوباشي – في جريدة المصري اليوم - من تعجبها لصدور مثل هذه الفتوى، وأن المسلمين وقت فتح مصر لم يهدموا التماثيل، وهو أيضا نفس الكلام الذي قاله سامي خشبة نائب رئيس مجلة «الثقافة الجديدة» في جريدة الشرق الأوسط، فهذا تقصير عن فهم الخطاب الفقهي، فإن المفتي لم يقل بهدمها ولا إغلاق المتاحف، وإنما رجح حرمة اقتنائها في البيوت للاستعمال الشخصي، وفتاوى المفتين في المتاحف الأثرية على بقائها للأغراض العلمية، ولكن الإرهاب الفكري ينطق بما قالته فريدة الشوباشي حين وصفت الفتوى بأنها " تساعد على إرجاعنا إلى عصر الخيام وتحويل البلاد إلى صحراء الربع الخالي".
بل العجب مما قاله"صلاح عيسى" من أن فتوى المفتي يفهم منها حرمة لعب الأطفال والصور، وهو ما نفاه المفتي، ولكن التقول بغير دقة أحد أساليب الضغط للتدليل على خطأ المخالف.
لكن الأغرب هو ما قاله "جمال الغيطاني" رئيس تحرير مجلة الأدب حين وصف الفتوى بأنها "طالبانية، ومصدرها يصلح مفتيا للإرهاب"، وهو يستغرب من المفتي الذي وصفه بأنه رجل مستنير، وأنه يعزف البيانو في بيته، فهل هذه الاستنارة لا تجعلنا نتوقف قليلا على الحكم على الفتوى وصاحبها، أم أننا لا نقبل إلا قولا واحدا، ونشن هجوما على مخالفنا؟
ومع كون المفتي أوضح في بيان دار الإفتاء بعض الضوابط التي تصلح لأن تكون أسسا للتعايش بين الثقافات المختلفة، والرؤى المتباينة، غير أن كل هذا ما أعجب الفنانين والكتاب الذين تصدوا للرد على الفتوى والمفتي والبيان.
وفي ظني أن المحصلة من ذلك العراك الفكري الطويل أثبت أمرين:
الأول: مرونة الفكر الإسلامي وقبوله للآخر، وأن الاختلاف طبيعة بشرية، وأنه لا يحل لإنسان أن يرهب الآخرين بفكره، وهو ما يطبقه أصحاب الخطاب الديني أكثر من غيرهم.
الثاني: أن الخطاب العلماني يعيش في أزمة ومأزق، و أنه في حاجة إلى محاربة الإرهاب الفكري في داخله قبل أن يطالب به الآخرين ،وأنه من الواجب أن ندرك أن الحوار بالحسنى هو الطريق للتعايش الجميل.
إن قبول الرأي في التمثال الكامل من كونه حراما، وما يخالفه بأنه حلال، هو دليل صادق على أننا قد أوجدنا مساحة من الحرية الحقيقية بدلا من تفصيل الحرية على مقاس يعجب البعض ولا يعجب الآخرين، لأننا جميعا في سفينة واحدة ، وليس هناك جنس أبيض وجنس أسود.
اقرأ أيضا:
صالح ولا تصالح / صلاة مشتركة في الكنيسة / البنوك الخائنة